عبد الحافظ معجب

عبدالحافظ معجب / لا ميديا -
منذ فجر التاريخ ظلت القبيلة اليمنية العمود الفقري للدولة اليمنية، والحارس الأمين لأرضها وهويتها. لقد شكلت القبيلة، عبر قرون طويلة، سياجاً متيناً في وجه محاولات الطامعين والغزاة، وحافظت على وحدة المجتمع، رغم التحديات والمتغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد. ففي الوقت الذي سعت فيه قوى خارجية، وعلى رأسها المملكة السعودية، إلى اختراق النسيج الاجتماعي اليمني، عبر محاولات شراء الولاءات وتطويع بعض الأفراد، بقيت القبيلة اليمنية بوعيها المتجذر ترفض كل أشكال الارتهان للخارج، وتتبرأ من كل مرتزق أو عميل باع وطنه.
ليس غريباً أن يقف التاريخ شاهداً على أن القبيلة لم تكن يوماً أداة بيد المحتل أو الغازي، بل كانت السد المنيع الذي تتحطم عليه كل المؤامرات. حاولت أطراف خارجية وداخلية، عبر حقب متعددة، استثمار بعض أفراد القبيلة وتشويه صورتها، لتظهرها كعائق أمام الدولة الحديثة أو المدنية التي يتغنون بها؛ إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل. لقد أثبتت التجربة أن القوانين العرفية والأعراف والأسلاف القبلية شكلت عبر الزمن المرجعية التي حفظت التماسك الاجتماعي عندما غابت الدولة أو تخلت عن مسؤولياتها. ففي زمن الاضطرابات والحروب والانقسامات السياسية، كانت القبيلة اليمنية تفرض الأمن وتحل النزاعات وتحمي الحقوق وتصون الدماء.
لقد أدرك الغرب أن صلابة القبيلة اليمنية تقف حجر عثرة أمام مخططاته، فسعى عبر أدواته الإعلامية والمنظمات الدولية إلى شيطنة الهوية القبلية ووصمها بالتخلف والبدائية، محاولاً إيهام الأجيال الجديدة بأن التمدن يعني الانسلاخ من العادات والتقاليد. لكن الواقع أثبت عكس ذلك؛ إذ بقيت القيم والأعراف القبلية مصدر قوة وأداة ضبط اجتماعي تتكامل مع أي مشروع دولة عادلة وحقيقية. ولعل أبرز دليل على ذلك أن القبيلة كانت ولا تزال الرادع لأي مظاهر انفلات أمني أو فوضى اجتماعية، وهي التي تنزع فتيل الاقتتال الداخلي من خلال جهود الوساطة وحل الخلافات وقضايا الثأر وفق أسس العدل والتسامح.
لم تكتفِ الأنظمة السابقة وأدوات الخارج بمحاولة تشويه صورة القبيلة، بل عملت أيضاً على اختزالها في أسر وعائلات محددة، لتكريس الإقطاعية السياسية والاجتماعية وضمان بقاء السلطة والثروة محصورة في دوائر ضيقة. إلا أن وعي القبيلة وامتدادها الأفقي والعمودي في المجتمع اليمني أفشل هذه المحاولات؛ إذ لم تقبل القبيلة أن تُختزل في شخص أو أسرة أو منطقة بعينها؛ لأنها كانت وما زالت تمثل اليمن كلّه بهويته المتنوعة والمتماسكة.
خلال العقود الماضية، لم تهدأ محاولات إذكاء النعرات القبلية والصراعات المناطقية، بهدف تفتيت اللحمة الوطنية. غير أن حكمة مشايخ القبائل ووجهائها، ووعي أبنائها، وجهود الوساطة والتصالح، لعبت دوراً محورياً في تجاوز الكثير من الأزمات والثارات التي كادت أن تستنزف البلاد. ومع كل خطوة مصالحة أو تسوية قبلية، كانت القبيلة تؤكد أنها الأقدر على حماية المجتمع من الانقسام والاقتتال الداخلي، وتثبت أن روح التسامح والعفو هي الضامن الحقيقي لوحدة الصف.
بلغ هذا الدور ذروته عقب العدوان السعودي - الأمريكي على اليمن في مارس 2015. ففي الأيام الأولى للعدوان، كانت القبيلة اليمنية أول من لبّى نداء الوطن، حين كانت الدولة في حالة تشتت، والجيش يعيد ترتيب صفوفه. حينها، خرج أبناء القبائل، رجالاً وفتية، يحملون سلاحهم ويشدون أزر اللجان الشعبية، ويواجهون عدواناً شرساً، بأرواحهم وعتادهم وإرادتهم الحرة. لم تنتظر القبيلة قراراً رسمياً لتدافع عن أرضها وكرامتها، بل تحركت بفطرتها الأصيلة وإيمانها العميق بأن الأرض عرض، وأن الدفاع عنها واجب لا مساومة فيه.
منذ ثورة الواحد والعشرين من أيلول/ سبتمبر، لعبت القبيلة اليمنية دوراً جوهرياً في دعم التحولات الكبرى التي شهدها اليمن، وأسهمت بشكل فاعل في حسم المعارك المفصلية وإسناد الجبهات بالرجال والمال والسلاح. ولم يكن دعم القبيلة يقتصر على الرجال فحسب، بل امتد إلى دورها في حشد الإمكانيات وتسيير القوافل وتقديم الغالي والنفيس لإسناد الجبهات.
وأمام كل محاولة لزرع الفتن أو بث الفوضى وزعزعة أمن واستقرار اليمن، أثبتت القبيلة أنها الحصن الأول في مواجهة المخططات. فما إن يظهر خطر أو فتنة تسارع القبائل الحرة إلى الاصطفاف وقطع الطريق أمام كل مؤامرة، لتعيد تأكيد رسالتها الثابتة: اليمن أرض عصية على الكسر متى ما بقيت القبيلة حاضرةً بوعيها وشموخها وإيمانها.
إن المتأمل في التجربة التاريخية للقبيلة اليمنية يدرك أنها لم تكن يوماً عقبة أمام الدولة، بل كانت حامية لها وحاضنة لها، متى ما التزمت الدولة بواجبها تجاه شعبها، ورفضت الارتهان للخارج. ومع كل التحديات والظروف التي مرت بها البلاد، بقيت القبيلة صمام أمان الوطن، ودرعه الواقي، والصخرة التي تتحطم عليها كل المؤامرات والدسائس.
اليوم، وبعد عقد كامل من العدوان والحصار، تقف القبيلة اليمنية أكثر وعياً وصلابة، محافظةً على تقاليدها وأعرافها التي شكلت هويتها الوطنية العريقة. وهي بذلك تقدم رسالة واضحة للعالم بأن هذه الأرض ستبقى حرةً وعصيةً على الانكسار، وأن الرهان على تفكيك المجتمع اليمني من خلال استهداف القبيلة وأعرافها قد سقط إلى غير رجعة.
ومن الواجب اليوم أن نقف احتراماً وتقديراً لكل قبيلة حرة، ولكل قبيلي شريف حمل البندقية وذاد عن تراب وطنه، ولكل وجه قبلي سعى في الإصلاح والعفو وجمع الكلمة وتوحيد الصف. فالقبيلة ستظل الحصن الحصين والدرع المتين الذي تنكسر عنده كل المؤامرات. وسيبقى اليمنيون أوفياء لهذا الإرث الذي يصون كرامتهم ويثبت جذورهم في أرضهم مهما تعاظمت التحديات.

أترك تعليقاً

التعليقات