دروس من الثورة الكوبية
- عبد الحافظ معجب الأحد , 30 يـولـيـو , 2023 الساعة 7:58:37 PM
- 0 تعليقات
عبدالحافظ معجب / لا ميديا -
قبل 70 عاماً، انطلقت شرارة الثورة الكوبية، عندما قاد فيديل كاسترو ورفاقه الثوريون من حركة السادس والعشرين من تموز/ يوليو وحلفائها حراكاً مسلحاً ضد الدكتاتورية العسكرية للرئيس الكوبي فولغينسيو باتيستا، الذي سقط في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1958. من يومها ما تزال الثورة مستمرة في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، التي حاولت بكل الوسائل إخضاع كوبا بمحاولة الغزو، والتهديد بحرب عالمية، والتخريب الأمني من الداخل، والثورات الملونة، وتدمير الاقتصاد من خلال العقوبات المفروضة والمستمرة...
قيام الثورة الكوبية واستمرارها في ظل التبعات التي ما زالت مستمرة رغم مرور سبعة عقود، يحمل الكثير من الدروس للحالة اليمنية عقب ثورة 21 أيلول/ سبتمبر، وما أعقبها من عدوان غاشم على اليمن، وحصار اقتصادي تديره وتتحكم به واشنطن، التي تعرقل كل مساعي السلام وجهود التوافق في بلادنا.
الخوف الأمريكي من انتصار الثورة الكوبية كان ولا يزال بعيد المدى؛ لأن واشنطن لا تقبل النموذج القوي يفرض السيادة الوطنية ويرفض التبعية ويكون عصياً على التطويع؛ لأن فكرة انتقال هذا النموذج من دولة إلى أخرى يهدد الهيمنة الغربية والنظام العالمي، وهذا من أبرز أسباب الخوف من الثورة اليمنية. كوبا التي قالت: "لن نعود حديقة خلفية للولايات المتحدة"، لا تختلف عن اليمن التي فرضت سيادتها وخرجت من العباءة الغربية، وقالت: "لن نكون حديقة خلفية للمملكة السعودية المرتهنة للولايات المتحدة". ومثلما وقفت كوبا إلى جانب المستضعفين في العالم، من تشيلي وبوليفيا إلى الكونغو وفلسطين وسورية، مواقف اليمن واضحة تجاه القضية الفلسطينية، وكل الشعوب المظلومة والمستضعفة في العالم.
تعرضت كوبا عقب ثورتها لانتكاسة اقتصادية كبرى، لاسيما عقب انهيار الاتحاد السوفييتي (الحليف الأكبر)، ما دفع الدولة إلى تركيز أولوياتها على تأمين الغذاء والدواء والتعليم، وتجاوزت الحكومة الكوبية المصاعب الوجودية للثورة من خلال إنفاق نحو نصف إيراداتها على قطاعي الصحة والتعليم بنظام مجاني للسكان. ورغم الحصار الاقتصادي الخانق قضت كوبا على الأمية بشكل كامل، وتفتخر بإرسال كفاءاتها الطبية وكوادرها المتعلمة لمساعدة الشعوب الفقيرة في كل أمريكا اللاتينية. كما أن المرأة الكوبية تتمتع بحريّات قانونيّة واجتماعيّة أفضل من تلك الحريات المزعومة في المجتمعات الغربية.
وفي الجانب الدستوري والقانوني حافظت الثورة الكوبية على مبادئها، دون أي احتكار للسلطات أو الوظيفة العامة، لينعم الكوبيون بحقهم في المشاركة السياسية، مؤمنة بأن شعبها الثوري لن يقبل بالعودة إلى مرحلة ما قبل 1959، بعد أن اعتاد على حرياته التي انتزعها بقوة الثورة، ولن يكون سهلاً تدجينه أو تطويعه.
وفي المقابل لم يتحجج القادة الكوبيون بالحصار الأمريكي، واستمرت عجلة التنمية الاقتصادية في ظل حصار يعتبر الأطول في التاريخ الحديث؛ إذ يمنع الحظر الأمريكي على كوبا، الشركات الأمريكية والشركات ذات الأنشطة التجارية في الولايات المتحدة من ممارسة التجارة مع المصالح الكوبية. في المرة الأولى فرضت الولايات المتحدة حظراً على بيع الأسلحة لكوبا في 14 آذار/ مارس 1958 في ظل نظام فولغينسيو باتيستا، ثم في 19 تشرين الأول/ أكتوبر 1960 بعد عامين تقريباً من إطاحة الثورة الكوبية بنظام باتيستا، فرضت الولايات المتحدة حظراً على الصادرات إلى كوبا، والحل كان بالاعتماد على النفط الخام السوفييتي، الذي رفضت الشركات الأمريكية في كوبا تكريره، وتوجهت الحكومة الثورية إلى تأميم جميع مصافي النفط الثلاث المملوكة لأمريكا في كوبا، ولم يُعوَّض أصحاب المصافي عن تأميم ممتلكاتهم، وأصبحت المصافي جزءاً من الشركة المملوكة للدولة، اتحاد نفط كوبا.
وفي 7 شباط/ فبراير 1962، امتدّ الحظر ليشمل جميع الصادرات تقريباً؛ لكن ذلك لم يمنع كوبا من ممارسة التجارة الدولية، وأصبحت عضواً في منظمة التجارة العالمية منذ عام 1995، ويُعدّ الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لها، والولايات المتحدة هي خامس أكبر مصدِّر إلى كوبا، إذ إن 6.6% من واردات كوبا تأتي من الولايات المتحدة.
ولأن واشنطن لم تتخلَّ عن سياستها العدائية تجاه الثورة الكوبية، رغم ادعاءاتها الزائفة احترام حق الشعوب بتقرير مصيرها، أعلنت -اعتباراً من عام 2018- أن الحصار ينطلق بشكل أساسي من خلال ستة قوانين، وهي: قانون التجارة مع العدو لعام 1917، قانون المساعدة الخارجية لعام 1961، لوائح مراقبة الأصول الكوبية لعام 1963، قانون الديمقراطية الكوبية لعام 1992، قانون هيلمز- بيرتون لعام 1996، وقانون إصلاح العقوبات التجارية وتعزيز الصادرات لعام 2000، مدعية أن الهدف المصرّح به من قانون الديمقراطية الكوبية لعام 1992 هو الإبقاء على العقوبات المفروضة على كوبا ما دامت الحكومة الكوبية ترفض التحرك نحو ما تطلق عليه واشنطن إرساء الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وهي ذاتها الشعارات المستخدمة في اليمن وسورية وإيران وغيرها من الدول غير الخاضعة للهيمنة الغربية.
لم تستخدم الولايات المتحدة الحصار الاقتصادي فقط، بل امتدت حربها الناعمة إلى أساليب متعددة ولها تاريخ طويل من محاولات زعزعة استقرار كوبا، من خلال تقنيات الحروب الجديدة، ومن أبرزها ما فعلته خلال العام 2010، حينما أنشأت تطبيق "تويتر الكوبي" والذي سمته (ZunZuneo)، لإثارة الاضطرابات الشعبية وتقويض الحكومة، وهذه المنصة هي عبارة عن شبكة اجتماعية مبنية على تقنية إرسال النصوص، من أجل استخدامها في جهود إطلاق ما سمته "الربيع الكوبي".
ووفقاً لما نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية، سافر المسؤول الحكومي الأمريكي جو ماكسبيدون إلى برشلونة، في تموز/ يوليو 2010، من أجل وضع اللمسات الأخيرة على خطة سرية لبناء مشروع لوسائل التواصل الاجتماعي، يهدف إلى تقويض الحكومة الكوبية. وقد تألف فريق "ماكسبيدون" من خبراء تكنولوجيين قادمين من كوستاريكا ونيكاراغوا وواشنطن ودنفر، وتلخصت مهمتهم بإطلاق شبكة مراسلة يمكن لها أن تصل إلى مئات الآلاف من الكوبيين. ولإخفاء هذه الشبكة عن الحكومة الكوبية أنشؤوا نظاماً معقداً من شركات الواجهة باستخدام حساب مصرفي في "جزر كايمان"، بالإضافة إلى تجنيد مديرين تنفيذيين لا يتم إخبارهم بعلاقات الشركات مع الحكومة الأمريكية. لم يعمل "ماكسبيدون" بتوجيه من وكالة المخابرات المركزية (CIA)، بل بتوجيه من وكالة التنمية الأمريكية (USAID) التي مولت وأدارت هذا البرنامج، بالإضافة إلى محاولات عديدة لواشنطن في إشعال ثورات ملونة وخلط للأوراق السياسية ليس في كوبا وحدها، وإنما في فنزويلا وبوليفيا والبرازيل وعدد من الدول العربية والإسلامية على رأسها سورية ولبنان واليمن وإيران.
من يعتقد أن الولايات المتحدة ستدعم السلام وتنهي حصارها على اليمن، عليه أن يتذكر أن الثورة التي قامت من أجل السيادة والكرامة ومنع الهيمنة الغربية على بلادنا، هي ذاتها الأسباب التي تدفع واشنطن اليوم لفرض الحصار على كوبا لعرقلة حقها المشروع بالدفاع عن سيادتها وبلورة مشروعها التحرري، بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية، تحت عناوين علاقة كوبا بالبلدان الاشتراكية، مما كان يهدد -حسب زعمها- مبادئ النظام الأمريكي وأمن الولايات المتحدة والنصف الغربي من العالم. وعلى مدى عقود مضت وإدارات أمريكية تعاقبت تنوعت الذرائع، ولكن الأهداف هي نفسها.
أما من يراهن على السلام القادم من الأمم المتحدة ومبعوثها، أو يتوقع أن قرارات أممية سوف تنصفه، عليه أن يستحضر 30 قراراً صوتت عليه الأمم المتحدة لرفع الحصار المالي والاقتصادي والتجاري الذي تفرضه واشنطن على كوبا، وفي كل مرة تستخدم الولايات المتحدة حق الفيتو، في تطبيق لسياسة الإرهاب الاقتصادي التي تعتمدها مع الدول التي لا تخضع للإمبريالية والاستعمار الاقتصادي والسياسي الغربي.
من أهم عوامل نجاح استمرارية الحالة الثورية في كوبا أنها حافظت على الروح الثورية المتمسكة بمبادئ الثوار وأهدافهم السامية، ولم تتأرجح البلاد في حالة الثورة واللا ثورة. كما أن وجود الحكومة الثورية وتحديد الأولويات بالغذاء والصحة والتعليم ساعد على تعزيز حالة الصمود الشعبي، رغم بعض الإخفاقات التي لم تصل إلى التسلق على ظهر الثورة أو إعادة إنتاج النظام القديم بشعارات وعناوين الثورة.
المصدر عبد الحافظ معجب
زيارة جميع مقالات: عبد الحافظ معجب