سرور عبدالله

سرور عبدالله / لا ميديا -

أي وجع أكبر من وجع ذاكرة مثقوبة برصاصة النسيان؟! 
وأي نسيان أعظم كارثية من ذلك الذي يتركك مجهول الهوية الإيمانية، مفقوداً ضليلاً عن منهجيتك الإلهية مجرداً من بطاقة أخلاقية، ومقطوعاً كغصن شجرة جاف مرمي في طريق مهجور سقط عن أصل الإنسانية بفعل حطاب لا هم له إلا أن يشعل حريقاً متصاعداً من وقود القيم؟!
نعم، أي ضياع هذا الذي يفوق كل ضياع، في مدن تاهت عن معظم ساكنيها عناوينهم الحقيقية فاكتفوا بحفنة وجود وهمية يتقاضونها مقابل التخلي عن كل ما هو ثمين وجوهري بداخلهم؟!
لقد باتت للوحشية قلاع مشيدة في قلوب متصلبة، وأصبح للقسوة حكم ملكي في موطن الذات الإنسانية، مما يجعلني أتساءل وسط دمعة حارة: كم من الوقت سيلزمنا بعد قيام ثورة الواحد والعشرين من أيلول للتخلص من كل ما أصبحنا عليه؟! هل ستزول عنا جثاميننا المحتلة لدواخلنا منذ عقود تهكمية خلت؟! وهل لدينا الطاقة الكافية التي قد يتسنى لنا من خلالها بعث ما قُتل في عوالمنا من جديد، ومجابهة ما توغل في أقصى معتقداتنا من سموم؟!... ألف سؤال وسؤال يرفع نبراته فوق حدود الحبال الصوتية لكلماتي. ألف سؤال يبحث عن إجابته في كل أرجاء ذاتي المنغمسة في عمق من التفكير والتطلع. ألف سؤال يحطم قيود التحسر والتألم التي تريد لنا جميعاً أن نبقى خلف قضبان الصمت معزولين عن سماء الحرية التي لا تلبدها ضبابية الديمقراطية المرتدية لكذبة المساواة والعدالة الاجتماعية، محكومين بسنوات من الهوان والمذلة والطبقية والتفرقة و العنصرية.
إن واقع اليوم ما هو إلا ظل ممتد لتكبر الأمس! ظل يسير بين الطرقات بلون أسود كئيب مغيب الملامح مشوه الفكر، وبأيدينا أن نقطع عليه مساراته، وأن نجعله مبتور الخطوات، وأن نعيده إلى حيث بدأ، لنعلن نهايته هناك حيث النقطة التي تضاءلت فيها ومضات الفطرة لتخبو خلف سترة غيبوبة طويلة لها.
بشكل أوضح قليلاً دعوني أقل إن ركود الذات الإنسانية الفطرية إعلان عن توقف كل شيء، توقف يقترب من التلاشي ويهوي نحو الزوال. والشواهد على هذا ما نعيشه اليوم من تحجر، حتى أننا بتنا بتلقائية ترعرعت بين قبضة التعود المؤسف نميز بعضنا عن الآخر ونقسم مجتمعاتنا إلى فئات متعددة ومختلفة الأسماء والألقاب والعادات، بل ونضع لكل طبقة مقومات تميزها أو تقلل من شأنها أمام ما سواها من الطبقات، فنقول هذا «مزين» وهذا حداد وهذا قبيلي وهذا أصول وهذا سيد وذاك يعلم الله ما أصله... بل ووصلت بنا ألفاظنا وعنصريتنا المدسوسة إلى أن نقول هذا أبيض وهذا أسود، هذا خادم وهذا عبد وهذا شيخ... وهلم جراً، وهذه كلها رواسب تراكمت فينا ونمت مع نمونا وأصبحت واقعاً نعيشه ويعايشنا بلا شعور بأدنى تأنيب حيال ما يعتصر الناس من جراح ومتاعب وعراقيل بسبب تحديدنا لنوعياتهم وأشكالهم ووظائفهم...
رغم كل ما ذُكر ونحن نقول إننا ننتمي إلى الدين الإسلامي، الدين الذي جاء وألغى كل هذا، وساوى بين جميعنا من الأطياف المختلفة، ورفض وجود الطبقية وحرم العنصرية بمختلف مسمياتها المعاصرة وحفظ لكل إنسان حقه وكرامته، ولم ندرك أننا قد نكون خرجنا عنه دون وعي منا ولا إدراك، على يد أنظمة حكم وسياسات سابقة ما زُرِعَ وجودها إلا لمثل هذا وأكثر.
الحقيقة أننا وقعنا في فخ نُصب لهدم الإنسانية الإسلامية. وقعنا في فخ النظرية الغربية الداروينية التي قسمت الناس إلى بيض وسود، بشر وحيوانات، أمم عليا لها الحق في سيادة كل شيء وأمم وسطى ثم أمم سفلى لا حق لها سوى أن تخضع دون جدل منكسة رأسها لواقع العبودية، لأنها في نظر داروين لا في منظور الدين أقرب إلى صفات البغال والحمير وسائر الصفات الحيوانية، ولهذا هبت ثورة الإسلام في عهدنا المعاصر وفي وطننا، هبت ثورة النهضة والارتقاء بكل يمني، ثورة الكرامة والحرية والعدالة الإلاهية التي تقضي بألا فرق بين الناس إلا بتقوى الله، وأن الناس سواسية كأسنان المشط لهم حقوق وعليهم واجبات.
هبت الثورة لتعصف بغبار الوحشية والقسوة، وتدعو إلى مجتمع ترتكز أسسه وتتحدد أطره من واقع الدين القيم، ليصبح كل من همشه النظام البائد فرداً فعالاً، مسؤولاً في وطنه، ويصبح له ما يستحق من التقدير والتكريم والاحترام، فيندمج ويختلط بغيره من الناس، ولا فئة أكرم من فئة، وهذا ما انطلق منه قائد الثورة، السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي (عليه السلام) الذي قال: «شرف كبير أن أكون خادماً لكل فرد من أبناء هذا الشعب، وإنها لمن أقرب القربات التي أتقرب بها إلى الله»، والذي نادى في كلمته الأخيرة بدمج «أحفاد بلال» في المجتمع، وطالب بمنحهم حق المشاركة في مختلف المجالات باعتبارهم يمنيين أحراراً، قدموا الكثير من الشهداء في معركة اليمن المصيرية في مواجهة العدوان المستكبر.
إذاً فلتذهب الطبقية وما احتوت عليه من قسوة وعنجهية ووحشية واستكبار واستعلاء إلى حيث لا رجعة، ولنفتح نحن آفاق قلوبنا الرحبة للتعايش والتآخي بمنتهى العدل والتراحم، وعلينا أن نثبت صدق إيماننا بالله وإسلامنا لما أمرنا به من تقبل المساواة، ولا يحق لنا أن نشعر -مجرد شعور- أننا أفضل من بعضنا أو أكرم منهم، وليكن لنا وجود حقيقي على أرض الله، وجود ينبض بالحياة ويتسم بالقيم ويحتفظ بالحقوق للجميع.

أترك تعليقاً

التعليقات