عبدالرحمن هاشم اللاحجي

عبدالرحمن اللاحجي

في الاحتفالية السنوية الكبرى بالمولد النبوي الشريف الذي أعقب انتصار ثورة الـ21 من أيلول الخالدة، أطل قائد الثورة الشبابية اليمنية من على شاشة تلفزيونية مكبرة، معلناً وبشكل قطعي طي الحضارة الاستعمارية التي جثمت على كاهل الشعب اليمني العظيم ردحاً من الزمن، وقيام حضارة يمنية جديدة على أنقاضها. 
وكانت الكلمات القرآنية المتلألئة التي صدع بها القائد الرباني الشاب –في ذلك الوقت- أمام جمهور غفير من أبناء الشعب اليمني العظيم، كانت تحاكي بالفعل الواقع المعاش الذي تلامسه تلك الجماهير، فالفرقة الأولى مدرع (مكان الاحتفالية) لم تكن قبل انتصار الثورة اليمنية سوى (جحر الشيطان) الذي انطلقت منه الثقافات الماسوشية المتلذذة بذبح البشر، وفي دهاليزه المظلمة حُبكت المؤامرات وحُدت السكاكين، لذلك كانت آذانهم أكثر إنصاتاً، وقلوبهم أقوى إيماناً بما يقوله قائدهم الحكيم، وهو يتنقل بين آيات القرآن العظيم، مستعرضاً أحداث الأمم الماضية، وموضحاً الأسباب الفعلية التي أدت إلى اندثار الحضارات.
ولعل الأسباب التي عصفت بحضارة الاستعمار الأجنبي من على الرقعة الجغرافية اليمنية -كما قال القائد- هي ذاتها الأسباب التي أدت الى اضمحلال وتهاوي حضارات الأمم الغابرة، فالفساد الأخلاقي والقيمي، والاستهداف الممنهج للهوية اليمنية المتأصلة، والهيمنة الكاملة على ثروات ومدخرات البلد من خلال إغراقه بالقروض الربوية، وتقييده في أبسط مقومات حياته المعيشية (كمنع زراعة القمح)، كانت الأسباب الحقيقية التي أدت الى اندلاع شرارة ثورة أيلول 2014 المجيدة، وهي ذاتها الأسباب العمومية التي حولت حضارات الأمم الماضية إلى (بقايا أطلال).
وكان لحديث السيد القائد عن هذا الموضوع العميق، بالتزامن مع الاحتفالية السنوية بميلاد النبي الخاتم، أبعاد حضارية ثاقبة، فذلك اليوم مثّل بالنسبة للعالم الإسلامي بأسره منعطفاً تاريخياً هاماً، ولولا الاعوجاج الهرمي الذي أعقب وفاة النبي الأكرم، والذي رسمت ملامح تقويمه الرئيسية في حادثة (غدير خُم) الشهيرة، لما هيمنت اليوم حضارة شيطانية على الحضارة الإلهية الخاتمة، ولكانت (الحضارة الإسلامية) اليوم في أزهى وأبهى عصورها.
وانطلاقاً من هذه النقطة المفصلية، وحتى تتعافى الحضارة النبوية الجريحة من جديد، كان لابد من إصلاح (الاعوجاج المفتعل)، تبدأ عملية الإصلاح تلك بتحديد أوجه الخلل التي شابت التاريخ الإسلامي، ونقدها بموضوعية وإحكام، ذلك النقد البناء الذي يُسهم في إعادة دفته، وتحريك عجلته نحو استقامة حضارته المسروقة بأقل الإمكانيات، وأدنى التكاليف.
وحتى تدور عجلة التاريخ المتعثرة بفعل تحديات الزمن -على النحو المؤمل- كان لابد من تفعيل عناصر الحضارة الثلاثة (الإنسان- التراب- الزمن) تفعيلاً نبوياً محكماً من خلال قيادة ربانية تعرف جيداً متى؟ وأين؟ وكيف تتحرك؟ إن الانتصار التاريخي الذي توجت به ثورة الـ21 من أيلول 2014 - في نهاية الأمر- لم يكن سوى برهان عملي على دقة ذلك الإحكام، ومعاصرته لمتطلبات الزمن الحاضر. 
ولقد كانت الثقافة القرآنية الرصينة بما تضمنته من مشروع حضاري متكامل، بمثابة (الدينامو المحرك) الذي أيقظ الإنسان اليمني من سباته، وغفلته، وأطلق طاقاته الكامنة وقيمه المتجذرة نحو الظفر بأهداف الثورة اليمنية، فعلى الرغم من التحديات الجمّة التي رافقت سير انطلاقته، والتي وصلت حد تآمر دول عالمية كبرى، كما هو الحال بتحالف الدول الـ10 راعية المبادرة الخليجية، إلا أن الإنسان الحضاري اليمني المذهل لم يتمكن من التغلب على كل تلك التحديات بتكلفة (تكاد تكون صفراً)، وخلال زمن (لا يتعدى 72 ساعة) فحسب، بل جعل منها جسراً متيناً يعبر عليه نحو بلوغ حضارته المنشودة.


إن المعادلة القرآنية التي فرضها الإنسان الحضاري اليمني عندما وطد قدمه في الأرض، وعض على ناجذ الثورة، وأعار الله جمجمته، ومد بصره الى أطراف الحضارة المقصودة، منحته دفعة قوية نحو (الإقلاع الحضاري)، فانطلق ليصنع ويبتكر مختلف أنواع الأسلحة التكنولوجية، حتى وصل الى مرحلة الاكتفاء الذاتي من الصواريخ الباليستية المتطورة، والطائرات المسيرة، والدفاعات الجوية المناسبة التي فاقت في تطورها واحترافيتها مستوى ما توصلت إليه الحضارة الاستعمارية التي قام على أنقاضها.
ويعود السبب في ذلك الى أن المشروع الإيماني المتكامل (الملازم) الذي آمن به وطبقه واقعاً عقدياً، يقتضي الإبداع والابتكار. إن بناء الحضارة ونهضتها -من وجهة نظره- لا تأتي عبر تكديس الأشياء أو تقليدها، إنما من خلال التفكير الإبداعي المألوف بأشياء غير مألوفة.
وبلا شك فإن الثورة اليمنية الخالدة التي تمكنت من كسر القوانين الوضعية، والاتفاقيات الاستعمارية المكبلة (بكسر الباء) للإبداع بشقيه (الفردي، والجماعي)، قد أسهمت في إطلاق الطاقات الشبابية وتوجيهها باتجاه (النهضة الحضارية)، فانطلق الشباب نحو ورش الإنتاج والتصنيع، وانطلقت المنظمات والهيئات المعنية (لبذر الحبوب) واستصلاح الأراضي الزراعية وتشجيع الحرف اليدوية. ولولا الحصار واستمرار الحرب لكانت مؤشرات هذه النهضة واضحة للعيان.
إن التحديات التي لازالت تواجه الثورة اليمنية الغرّاء حتى الآن، تقف كـ(حاجز ضبابي) أمام وضوح النهضة الحضارية المعاصرة التي يعيشها العالم الإنساني (الإسلامي) في اليمن، وإن هذا الحاجز قد يصيبنا أيضاً بالعتمة، والدوار، ما لم نصل الى القناعات التالية:
إن الثورة اليمنية ما هي إلا امتداد للثورة النبوية التي جرى تحريف مضامينها النهضوية الكبرى منذ زمن بعيد، وإن هذه الثورة التصحيحية لم تأت إلا لإصلاح الخلل الذي أدى الى تقديم (حضارة الإسلام) على أطباق من ذهب (للشيطان الرجيم).
إن الثورة اليمنية انتصرت لتبقى منتصرة حتى يوم القيامة، وإن هذا الانتصار هو انتصار للعالم العربي والإسلامي من جهة، وللعالم الإنساني المظلوم (من جهة ثانية)، وبالتالي فهي ثورة عالمية تماماً كما كانت الثورة النبوية في مهدها الأول.
لا سبيل لتقويض الإرادة اليمنية، ولا طريقة لتليين عزم الإنسان اليمني، ذلك لأن هذه الإرادة والعزم مستمدان من روحية القرآن العظيم التي هي روحية الله بالمقام الأول.
هناك تحديات لازالت تواجه الثورة، كالتحديات الاقتصادية المتمثلة بانخفاض القوة الشرائية للريال، هذه الأزمات سيكون لها تداعياتها على (المأزومين) في القريب العاجل.
يعتقد البعض بأن ما نعيشه من مراحل قتال يدحض إيماننا بمفهوم النقلة الحضارية المعاصرة التي نعيشها اليوم، ذلك لأن أمثال هؤلاء السطحيين ينظرون الى الحضارة من منظور جزئي على أنها (السلام)، و(رفاهية العيش)، بينما تؤكد الحقيقة أن القتال هو الطريق الآمن نحو بناء الحضارة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بـ(محاولي تحطيمها).
يشهد العالم اليوم اهتزازات سياسية غير عادية، ما يعني أنا مقبلون على تغييرات جوهرية في النظام العالمي الحالي. وبتعبير آخر فإن مرحلة السلام ورفاهية العيش الحضاري التي يشترطها البعض لمفهوم التحضر والتمدن، باتت على الأبواب، ولا تحتاج أكثر من (قبضة زناد).

أترك تعليقاً

التعليقات