عبدالرحمن هاشم اللاحجي

في الوقت الذي كان فيه اليمنيون بانتظار مبادرة أممية لإنقاذ الموقف السياسي المتعثر بفعل المراوغة الأمريكية المتكررة منذ انطلاق مؤتمر جنيف الأول بشأن اليمن، خرجت علينا الرباعية الدولية باجتماع استثنائي -عاجل جمعها بالمبعوث الأممي الى اليمن إسماعيل ولد الشيخ، ليل الخميس الماضي، في مدينة نيويورك الأمريكية، وقالت عنه وسائل إعلامية إنه (كُرّس لبحث خارطة طريق تتضمن حلاً شاملاً وكاملاً للمشكلة اليمنية العالقة وفق المرجعيات السابقة). 
اللقاء الذي كان لافتاً فيه حضور وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، ووزير بريطاني وآخرين سعوديين وإماراتيين، ونحن هنا نضع أكثر من علامة استفهام حول الوزير الأمريكي كيري؟ حين أفصح قبل أشهر عن مبادرة أمريكية تضمنت خطوطاً عريضة للحل الشامل في اليمن، ثم توارى عن المشهد السياسي فجأة ليعود اليوم الى الواجهة الإعلامية بعد أن وافقت بلاده على نقل البنك المركزي اليمني الى مدينة عدن، وتراجع مجلس شيوخها عن مشروع قرار كان اتخذه في وقت سابق، يقضي بتجميد بيع الأسلحة الأمريكية للمملكة العربية السعودية، وذلك قبل يوم واحد فقط من الاجتماع الرباعي المفضوح. 
موقف الوفد الوطني المحتجز في العاصمة العمانية مسقط منذ انتهاء مشاورات الكويت، كان واضحاً من المبادرة الأمريكية المخادعة، حيث أكّد رئيس الوفد الوطني محمد عبدالسلام، في أكثر من تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي (تويتر)، أن أية مبادرات للحل في اليمن يجب أن تكون عبر الأمم المتحدة ومبعوثها لليمن إسماعيل ولد الشيخ، مؤكداً في ذات السياق أن وفده المفاوض سيرفض أية مبادرة لا تأتي من تلك الطريق، كما اعتبر الولايات المتحدة الأمريكية رأس حربة في العدوان على اليمن، ومن السخافة ـ كما قال ـ أن يقوم العدو بتقديم مبادرات للسلام وإصلاح ذات البين، فيما يشارك بطريقة (مباشرة) أو غير مباشرة في قتل اليمنيين يوماً بعد آخر.   
هناك كما يبدو تفهم أمريكي- بريطاني لطبيعة الموقف الوطني الذي يشدد منذ انطلاق العملية السياسية بشأن اليمن، على أن يكون الحل شاملاً وغير مرحل، وعبر الأمم المتحدة وليس عبر أمريكا أو بريطانيا أو أية دولة أخرى، ولكنه تفهّم ماكر ومخادع لا يستند الى رغبة أمريكية مُلحة وسريعة بالحل النهائي للمشكلة اليمنية، وهو في جوهره العام (كما يرى متابعون ومحللون بارزون في الملف اليمني) يناقض المواقف السياسية الأمريكية التي تأتي بين الحين والآخر على لسان مسؤولين رفيعين في البيت الأبيض، والتي تشدد جميعها على ضرورة التسريع بإيقاف الحرب وإفساح المجال لحل سياسي حين تتقدم مبادراتهم المشؤومة وخارطاتهم الشعواء أوراق ضغط وأدوات ابتزازية خطيرة، خصوصاً تلك التي تبيّن عودة العلاقات الحميمة بين واشنطن والرياض من خلال استئناف صفقات الأسلحة بينهما (الأخير مشتر) أو التي تستهدف اليمنيين في قوتهم ولقمة عيشهم عبر تهديدهم بنقل البنك المركزي الى مدينة عدن، وتجويع أكثر من 30 مليون يمني بات أكثر من 95% منهم تحت مستوى خط الفقر، كما تقول التقارير الدولية قبل انطلاق العدوان!
اللجنة الثورية العليا احتفلت، مساء الأربعاء الماضي، بالعيد الوطني الثاني لثورة الـ21 من سبتمبر العظيمة، أمام حشد شعبي هائل في مدينة الحديدة الساحلية الواقعة على البحر الأحمر، وبالقرب من ميناء المخا المطل على مضيق باب المندب ذي الأهمية الاستراتيجية الكبرى للعالم. كما أن المجلس السياسي الذي تم تشكيله مؤخراً بين الفصيلين المناوئين- العنيدين، ونعني بذلك (حزب المؤتمر الشعبي العام وحركة أنصار الله) وفق الدستور الدائم للجمهورية اليمنية، تقلص دوره خلال الأيام الماضية، وأصبح هناك تبادل أدوار ملموس ومشاهد بينه وبين اللجنة الثورية العليا التي تعني عودتها للواجهة مجدداً العودة بالبلد الى بداية العدوان، خصوصاً بعد التحديات الأمريكية- السعودية الأخيرة، ولا نستبعد اتخاذ مواقف مشتركة بينهما في قادم الأيام تعكس صوابية وذكاء وصلابة السياسة الداخلية في مواجهة قوى الامبريالية والاستعمار.
يُدلل الأمريكيون جزرتهم الفاسدة على شكل مبادرة جوفاء -عقيمة لا تنتج حلاً يمنياً- يمنياً بقدر ما تسعى لضمان تنفيذ سياستهم الشيطانية الماكرة الساعية الى أقلمة الجغرافيا اليمنية وتفتيتها تحت مسميات واهية وأساليب مخادعة، وإن أضافوا لها قليلاً من الوعود الشيطانية - القاطعة، كأن تتضمن حلولاً شاملة وكاملة وغير مجزأة، وذهبوا الى الأمم المتحدة لتقديمها في استجابة مغشوشة لرغبة الوفد الوطني، فإنها لا تعدو كونها بهارات ساخنة تتوهم أنها ستثير لعاب اليمنيين نحوها، وتنشط خلاياهم الوجودية للهث وراءها، غير مدركة أن أساليبها المتحذلقة تلك باتت مكشوفة ومفضوحة أمام المواطن اليمني البائس.
ندرك جيداً أنه من السابق لأوانه الحديث عن المبادرة الأمريكية لأنها قطعاً لم تظهر بشكلها النهائي حتى الآن أمام وسائل الإعلام، وحتى الاجتماع الرباعي الأخير لم يتناولها كاملة، ولا أحد يعلم ما يدور في رأس كيري، أو بمعنى أصح ما يدور في رأس قواديه - الشياطين، إلا أولئك الذين قرأوا الآيات المكنونة في القرآن الكريم وفهموها بجزالة عميقة، ونحن عندما نتحدث عن ماهية المبادرة الأمريكية التي لازالت مضامينها مخفية في دهاليز البيت الأبيض وغرفه السرية - المغلقة، وقبل أن تصبح في متناول أيادي وفدنا الوطني المحتجز في مسقط (ربما بعد أشهر أو سنوات)، لا نكتفي فقط بفهم أبعاد تفكير أولئك الأشرار من القرآن الكريم، إنما من استقرائنا للواقع المعاصر الذي نعايشه عبر تتبع تحركاتهم التاريخية والآنية - اللحظية، ومن خلال معايير ومواقف سليمة وواضحة للتحليل، وليست من قبيل التكهنات التي قد تصدق أو لا تصدق.
يفهم اليمنيون سياسة العصا والجزرة، لكنهم قطعاً لا يؤمنون بها، لأنها تتناقض مع قيمهم العروبية الأصلية التي يتوارثونها عبر أجيالهم مثلما يتوارثون الرقص على جثث الغزاة والمحتلين إن وطأت أقدامهم ثرى أرضهم المقدسة، كما أنهم لا يسعون لالتهام الجزرة الأمريكية، لأنهم يعرفون مسبقاً أنها فاسدة، ولا يمكن أن تُصبح صالحة للأكل في يوم ما، إنما سيعملون جاهدين على القبض على العصا الأمريكية التي تريد منهم أن يكونوا عبيداً ومنقادين لساسة البيت الأبيض، وهو ما أكّده بالفعل السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، في آخر خطاب له بمناسبة (يوم الولاية)، عندما قال ونحن هنا ننقل ما قاله بالنص: (والله إنه يمكن للأمة كأمة، لشعبنا المسلم اليمني العزيز كشعب حر أبي، أن يجعل من هذا التحدي - العدوان - فرصة لتغيير الواقع، ولبناء النفس، لبناء الواقع الداخلي).

أترك تعليقاً

التعليقات