معركة الأمعاء الخاوية
 

عبدالرحمن هاشم اللاحجي

عبدالرحمن اللاحجي / لا ميديا - 

في الحقيقة هناك العديد من المؤشرات الاقتصادية البارزة التي طفت على السطح في الآونة الأخيرة وبلغ طوفانها حداً لا يمكن إهماله أو السكوت عليه، وما لم تتظافر الجهود النخبوية والشعبية، بجميع فئاتها واهتماماتها وقدراتها العلمية والعملية، من خلال مصفوفة عمل اقتصادية طارئة تتبناها القيادة السياسية الحكيمة وتشرف على تنفيذها، فإن هذا الطوفان الحذر سيجرف الجميع دون استثناء.
تؤكد هذه المؤشرات وبما لا يدع مجالا للشك أن الدول الراعية لاتفاق ستوكهولم تتجه نحو تضييق الخناق الاقتصادي على عامة أبناء الشعب اليمني، بصرف النظر عن مناطقهم، توجهاتهم، وانتماءاتهم المذهبية أو الحزبية، وسواء كانت مواقفهم معارضة أو محايدة، أو حتى مؤيدة للاحتلال الأجنبي، إلا أن مسألة غرقها -قبل غيرها- في وحل المعركة الاقتصادية القادمة هي مسألة بديهية لا يختلف حولها اثنان.
دعونا من فضلكم وقبل الحديث عن الخطوات المباركة التي اتخذتها القيادة السياسية للتخفيف من وقع الكارثة الحتمية، وعن التوصيات المطروحة للنقاش في هذه العجالة الهادفة، نرفع الستار عن تلك المؤشرات الدامغة، كي تكتمل الصورة المشتتة في أذهان البعض، وتُصحح بعض المفاهيم النمطية المغلوطة لدى البعض الآخر.
 الكثير من المحللين الاقتصاديين الذين أصيبوا بالإرباك بسبب التراجع المدهش للدولار أمام الريال اليمني، وذلك قبيل انطلاق مشاورات ستوكهولم، وصلوا إلى قناعة مطلقة بأن الدول الراعية للاتفاق هي اللاعب الخفي والمحترف الذي يمتلك عصاً سحرية لإحداث كل تلك الاضطرابات المتسارعة في الاقتصاد اليمني. 
الورقة الاقتصادية هي الورقة الرابحة التي طالما لجأت إليها المملكة المتحدة في إركاع الشعوب الطامحة للخلاص من هيمنتها ونفوذها، واليمن ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في هذا المضمار، لذلك لم تفاجئنا العودة المتدرجة لانهيار الريال اليمني خلال يناير/ كانون الثاني من هذا العام (فاقت النسبة 15%)، خصوصاً وأن هذا الانهيار يأتي بالتزامن مع العقبات المتعلقة بتنفيذ اتفاقية ستوكهولم والتي كان آخرها عقبة المراقب الأممي لوقف النار، باتريك كاميرت. إذا كان التعافي المدهش ثمناً لتوقيع الاتفاق، فإن التراجع الملحوظ نتيجة طبيعية للعقبات التي تكتنف التنفيذ.
وانطلاقاً من تلك القناعة الراسخة فإن زيادة القيود المفروضة على البنوك الأوروبية والأمريكية في تعاملاتها مع الصيارفة والبنوك العاملة في العاصمة صنعاء منذ بداية العام لم تكن لتفاجئنا هي الأخرى، لأنها تأتي في توقيت دقيق ومفصلي من زمن الحرب الكونية التي شارفت على الدخول في عامها الخامس تقريباً. تعكس تلك القيود الجائرة بطبيعة الحال النوايا المبيتة لرعاة الاتفاق، وتكشف بجلاء بغيتهم الشيطانية القادمة. 
وحتى تتضح الصورة أكثر فإن القصف المركّز الذي استهدف مطاحن القمح منتصف يناير الماضي لم يكن حدثاً عبثياً، بل رسالة واضحة المعالم تؤكد أبعادها وبما لا يدع مجالاً للشك أن ميدان المعركة القادمة هو: (الأمعاء الخاوية) لأجساد اليمنيين.
ولم يكن اليمنيون، على اختلاف مناطقهم ومذاهبهم ومواقفهم المتباينة، بحاجة لقرون استشعار تُمكّنهم من استخلاص الخطر المحدق الذي يتربص بهم من أوساط المؤشرات السالفة، لسبب بسيط هو أن أبجديات القضية، وظروف الحرب التي عاشوها ومازالوا يخوضون غمارها حتى اليوم، قد منحتهم شعوراً راسخاً بأهمية المواجهة على مختلف الأصعدة وفي كل المجالات، وسواء بدت أمامهم مؤشرات من نوع ما أو ظلت طي الكتمان.
إن الإدراك المُبكر للقيادة السياسية الحكيمة لأهمية الاقتصاد، وباعتباره صمام أمان في ميدان المعركة القائمة، قد وضع البذور الأساسية للمواجهة منذ زمن بعيد، فتأسيس الهيئة العامة للحبوب، وتفعيل المؤسسات الإيرادية للدولة، وتشكيل اللجنة الاقتصادية، وتفكيك خلايا العملات المزورة والمغشوشة، ووضع لوائح صارمة للصرافين وأرباب الأموال، وتبني خطاب إعلامي مسؤول يحث على الزراعة ويشجع على الاستثمار... كل تلك البذور، على اختلاف أنواعها وأشكالها وأحجامها، قد أسهمت في تعبيد الطريق نحو تطبيق مصفوفة اقتصادية شاملة تأخذ بعين الاعتبار الفترة الزمنية اللازمة للوصول إلى الأهداف المرجوة بأبسط الطُرق وأقل التكاليف. 
وبدون أدنى شك فإن الخطة الاحتياجية الخاصة التي تقدمت بها الهيئة الوطنية للنازحين ومواجهة الكوارث  خلال مؤتمر صحفي عام حضره ممثلون عن المنظمات الدولية والمحلية قد وفّقت بدرجة كبيرة في مضامينها حين أولت النشاط الزراعي والإنتاجي اهتماماً واضحاً من خلال المشاريع المستدامة، إلا أن هذا التوفيق قد لا يكون محققاً عند التنفيذ، فبالإضافة لمحدودية نطاق عمل المنظمات الدولية واهتمامها بالجانب الإغاثي، فإن ترك الحبل على غارب تجار الأسمدة المسرطنة ليعبثوا بمستقبل التربة والإنسان اليمني يجعل من أرباب الخُطة المباركة لا يختلفون إطلاقاً عن ذلك الطبيب الذي يداوي غسيل الكلى بأدوية مضادة للديدان.
وحتى تكون مصفوفة العمل المقترحة فعّالة وقياسية نضع التوصيات التالية أمام الجهات المسؤولة، علّها تكون بادرة خير تدفع بها للتفكير ملياً بالأمر: 
التوصية الأولى: أن تكون المصفوفة برمتها مرتبطة بجهة إشرافية محددة يديرها ويشرف عليها شخص واحد، وينوب عنه عدد من المشرفين بحسب القنوات المستهدفة، وفي سبيل ذلك نقترح أن يكون للجنة الاقتصادية المعينة -في وقت سابق- مدير من أوساطها يرتبط مباشرة بالقيادة العليا. وتهدف هذه التوصية للحد من تشتت القرار الذي يعيب المصفوفات بشكل عام ويحافظ على انسيابية وتدفق المعلومات من وإلى القيادة.
التوصية الثانية: ضرورة إلزام القنوات المستهدفة بوضع موازنات مالية طارئة، تتضمن هذه الموازنات نظرة عميقة نحو المستقبل البعيد، وأخرى نحو القريب، فعلى سبيل المثال فإن السؤال البديهي الذي يفترض أن تطرحه المؤسسة العامة للحبوب قبل إعداد الموازنة هو: ماذا لو استهدف الاحتياطي المخزني من القمح، ومنعنا من الاستيراد؟! كم يلزمنا من مساحة زراعية للوصول للاكتفاء الذاتي (استراتيجية طويلة الأجل)؟ كم يلزمنا من القمح لمواجهة معركة حالية تستمر عاماً (خطة طارئة)؟! كم هي المدة اللازمة للوصول للهدف في الحالتين؟! ما هي العوائق؟! كم يلزمنا من المال في كلتا الحالتين (الموازنة)؟ وهكذا....!
التوصية الثالثة: تساعد الموازنات على تحديد مبلغ القرض الذي يفترض أن تقوم الجهات المسؤولة بالبحث عن مصادر معينة له. إذا تمت إدارة القرض بشكل جيد، وذهبت أمواله نحو أهداف اقتصادية منتجة فإن مسألة سداده لن يترتب عليها أية أعباء فادحة، باستثناء الفوائد المدفوعة عنه.
التوصية الرابعة: يجب أن تكون مصفوفة العمل مرنة وقابلة للاستجابة للمتغيرات العالمية الطارئة، وخصوصاً ما يتعلق منها بجانب حماية القوة الشرائية، فعندما تتجه الصين وروسيا لاستبدال تعاملاتهما التجارية بعملتيهما المحليتين وتحجمان عن التعامل بالدولار، يجب أن تُهيئ الجهات المعنية -من داخل مصفوفة العمل- الأرضية الاقتصادية المناسبة للاستجابة لتلك المتغيرات الطارئة.
من المؤكد أن للحديث بقية.

أترك تعليقاً

التعليقات