(مِعول النبي) و(القاهر اليمني) !
 

عبدالرحمن هاشم اللاحجي

ظلت معركة الخندق الشهيرة بتعدد مفاهيمها ومعانيها العسكرية وخططها الحربية الفريدة، وأبعادها ونتائجها الجيوبوليتيكة القديمة، نقطة أساسية ومحورية في رسم ملامح التاريخ الإسلامي المعاصر، كونها أسهمت في قلب موازين القوى وتغيير متراجحات الصراع، الكوني في صالح الوجود الإسلامي، بما نتج عنها من تفتيت للتحالفات العربية - العربية العقيمة، وصهر للمحددات الجامعة بينها، حيث أدت في المجمل العام إلى بروز قوة فتية في شبه الجزيرة العربية، تضاهي قوتي الفرس والرومان. 
مؤرخون وكتاب ومراقبون كثيرون حاولوا في بداية العدوان البربري التحالفي على اليمن، أن يربطوا بين المعركتين من الناحيتين النظرية والفلسفية، لكنهم باتوا اليوم أكثر إيماناً بقناعاتهم واستنتاجاتهم وهم يشاهدون نتائج المعركة الكونية الحالية تقترب رويداً من نتائج معركة الخندق، حيث التفتيتات التحالفية أصبحت على أشدّها تقريباً منذ بداية العدوان، وألواح سميكة من العلاقات الاستراتيجية القديمة بين الدول المتحالفة ذات العلاقة، انكسرت في خضم الأحداث والمصالح الآنية لتلك الأطراف، حيث لم يتبقَّ لملوكها وأمرائها سوى دموع التباكي على الأطلال!
في واحدة من المعجزات الإلهية العجيبة التي رافقت سير حفر خندق المدينة المنورة، واجه المسلمون صخرة كبيرة وصماء عجزوا عن تفتيتها، فوصلت أصداء القضية إلى مسامع القائد الأعلى للجيش الإسلامي، فأخذ فأساً حادة وضربها ضربتين، ومع كل ضربة كان يصرخ بالتكبير، ويعطي نتائجها إلى من حوله، فأما الأولى فقال بأنها (أضاءت قصور غمدان في صنعاء)، وأما الثانية (فاهتزت منها عروش كسرى). وفي تلك الأثناء كان الصحابة يتداولون تلك النبوءات في ما بينهم دون أن يهتموا بمعرفة أبعادها الثاقبة، واكتفوا بتجميع الصخر المفتت والإشادة بقوة النبي في هذا الجانب!
لم يكن يتبادر إلى ذهنية البدوي الواقف على مساحة صغيرة لاتتعدى عشرات الكيلومترات، أن انعكاسات تلك المعركة ستمتد لتشمل آفاقاً واسعة تفوق امتداد نظره المحدود بملايين المرات، وهو الذي لم يتوقع أن يخرج من عنق الزجاجة حياً، ناهيك عن أن يفتح اليمن وبلاد فارس من مكانه المحاصر. يبدو الأمر أقرب للخيال، ومدعاة للسخرية والضحك في حينه، ومناسباً جداً لأن يطلق على من قاله المجنون والكاهن الأبله، لكن الأحداث التالية أتت لتبيّن عظمة ودقة استراتيجيات النبي ومصداقية تنبؤاته وتوقعاته.
قبل أيام فقط أرسلت الوحدة الصاروخية في الجيش اليمني صاروخين نوع (قاهر) إلى قاعدة الأمير خالد بخميس مشيط، كهدية مجانية بمناسبة قدوم الشهر الفضيل، فوصلت اهتزازات تلك الضربات الباليستية إلى طاولة الحوار في الكويت، وتطايرت على وقع ذلك جميع الأوراق التفاوضية من على الطاولة المستطيلة، ووقف العالم في حالة من الذهول والتعجب على صلابة اليمنيين وحكمة قيادتهم في التعاطي مع أبجديات المعركة الكونية، كما أصيب حينها صبيان المملكة وأطفالها بإسهال شديد جعلهم يرسلون طائراتهم بعجالة إلى الأجواء اليمنية على حيرة واستحياء من أمرها، كاشفة عن هزيمة مدوية، ومعلنة قدوم عام جديد من الانهيارات الهرمية على مستوى الأسرة الحاكمة في مملكة العُزل الدولية!
لقد كانت الضربات الأخيرة بمثابة المؤشر الأكثر وضوحاً لما ستفضي إليه نتائج المشاورات المرتقبة، فإن نجحت فالوفد الوطني سيحصد نصيب الأسد منها، وإن كتب عليها الفشل فالميدان لم يعد هو الميدان! والمعركة لن تكون كسابقتها، وما إرسال القوة الصاروخية للجيش اليمني صاروخين من الطراز الفتاك إلى العمق السعودي إلا رسالة (أممية) قصيرة تقول: لا خيار أمامكم سوى إنجاح المشاورات، وهنا تلعثم صانع القرار السعودي وفضل الهدوء والتريث ربما ليعيد ترتيب أوراقه، وأية أوراق بقيت معه وهو الذي فقد أغلبها تقريباً نتيجة طيشه وتهوره منذ عام وأكثر؟!
لم يعد هناك أي تقاربات أمريكية- سعودية أو سعودية- إماراتية أو خليجية- خليجية أو سعودية - خليجية، فعقود من العلاقات الأمريكية السعودية تدهورت مؤخراً بدرجة فادحة، وتضارب المصالح الحيوية بين المملكة والإمارات في الجنوب اليمني طفا على السطح مؤخراً، إضافة إلى أسباب أخرى، وها هو الوفد الوطني المشارك في الكويت يعقد اجتماعاته الدائمة بأمراء بقية الدول الخليجية وسفراء الدول الأجنبية، ويبلغهم سلام وتحيات الشعب اليمني الصامد، ويبيّن لهم بعضاً من كرمه وسماحته وعفوه لمن أحسن إليه، حتى قيل بأن نوعاً من العلاقات الصلبة ستعود إلى الواجهة مجدداً، وستفتح أغلب الدول سفاراتها قريباً، وستعود الأمور إلى سابق عهدها، وهذا أمر مستحسن ومرغوب فيه.
 لمعة الصاروخين الباليستيين الأخيرة التي هزت قاعدة خميس مشيط الجوية، تشبه إلى حد كبير لمعة الفأس أو المعول الذي ضرب به النبي صخرة الخندق، وتوشك جزئية النتائج والنبوءات الأخيرة أن تكون هي نفسها، حيث لا فارق جوهرياً أو ثانوياً بين المعركتين، بدليل ما تم وما هو مستنتج من قراءة أبجديات المشهد السياسي الحالي.
التاريخ يعيد تكرار أحداثه، ويعيد إنتاج نفس معاركه البطولية، والعناية الإلهية التي حظي بها المسلمون في غزوة الخندق، حاضرة وملموسة ومُدركة في معركة الشرف والكرامة التي يخوضها اليمنيون، ويا رب وفقنا لإدراك الأشياء بنظرات قرآنية بعيداً عن سطحية البدوي أو شطحات الكهنة والمشعوذين. 

أترك تعليقاً

التعليقات