(مران ذمار)!
 

عبدالرحمن هاشم اللاحجي

قبل أكثر من 5 سنوات أيقظني حُلم غريب في ليلة قمرية صاخبة، لقد رأيت في ما يراه النائم أن عشرات العربات المدرعة التي أشاهدها اليوم على شاشات التلفزة، تحترق في نجران والمخا وجيزان، رأيتها تطاردني أنا ومجموعة من أقراني الشهداء (كانوا لا يزالون على قيد الحياة حينها)، وذلك في فضاء منزلنا القديم الكائن في قريتي النجيبة الواقعة في الجهة الشمالية الغربية لمدينة ذمار. إنها مديرية جبل الشرق.   
تبدت تلك العربات من جميع الجبال المطلة على المنزل، كما لو أنها أفواج هائلة تتدفق باتجاهنا ناوية سحقنا، وعلى ترانيم التسبيح التي تشدو بها مساجد العاصمة صنعاء قبيل صلاة الفجر، استيقظت من منامي (مفزوعاً)، ليتبادر إلى ذهني وعلى الفور مجموعة من الأسئلة المبعثرة التي لم تستطع ذاكرتي المتواضعة ترتيبها بسرعة... فماذا عسى ذلك الحُلم المُرعب أن يكون؟ وماذا تعني تلك العربات المجنزرة التي تجري باتجاهنا بسرعة خاطفة؟ وكيف لي أن أعود أساساً إلى قريتي البعيدة، تلك القرية الخاوية التي هجرتها مع والدي ووالدتي وبقية إخواني، قبل 20 عاماً، وسكنا في أرقى حواري وشوارع العاصمة صنعاء؟!
لم أكن أعلم حينها أن ثمّة أمراً عظيماً ينتظرنا في قادم الأيام، ولم يتبادر إلى ذهني لحظة أن الرغبة الإلهية الحكيمة تقتضي أن نعود إلى جيناتنا الحضارية المعاصرة، وأن نكون لبنة أساسية في إعادة صياغة هذا التاريخ... التاريخ الذي يجب له أن يكون، لا تلك الصفحات المخزية التي جرى تطويعنا عليها.
إنها لحظات مؤلمة، أن ترى أصدقاءك وأبناء عمومتك يتساقطون أمامك بين الساعة والأخرى، لكنها الضريبة الطبيعية التي يجب أن تدفعها الشعوب (النبيهة) لتنال حريتها واستقلالها، وهذا ما نعيه جيداً... أن عليك أن تبقى - وعلى ذات النسق - قابضاً على بندقيتك (الكلاشن)، تطوف الجبهة تلو الأخرى، باحثاً عن تلك المدرعات السخيفة لتصطادها، ومنتظراً دورك في مشوار الخالدين.
قبل أيام، تلقيت دعوة من أحد أبناء عمومتي لحضور مراسم زفافه، ترددت قليلاً، ولكني حزمت أمتعتي، وقررت الذهاب. لم يكن الهدف هو ذاته ما جاء في دعوة (ابن عمي)، إنما لأني اشتقت حقيقة لتك القلعة الشهباء الحصينة التي تربطني بها روابط وجدانية عميقة، وأطلال من الذكريات الجميلة التي لا يتسع المجال لذكرها هنا.
تبدو أرضاً مختلفة تماماً، كما لو أنها ودّعت عصراً من العصور التاريخية الأزلية، ودخلت عصراً آخر في لحظة فارقة، وبغمضة عين... على مدخل المديرية، وتحديداً في سوق (الجُمعة)، حيث المركز الذي يجتمع فيه أغلب سكانها ليقضوا حوائجهم اليومية أو الأسبوعية، استوقفتني بعض اللافتات والعبارات المخطوطة على الجدران... لم تكن هذه قريتي قبل 7 أعوام تقريباً، عندما دخلتها مطارداً خائفاً أترقب، بمعية بعض أبناء عمومتي (الشهداء)، كل شيء هنا تغير (الثقافة، الروحية، القضية، الهدف، الاستعداد للتضحية، الإقدام).. كل شيء تغير.. كل شيء دون استثناء.
لقد كانت بالفعل أولى المديريات التي احتضنت الفكر القرآني منذ بزوغ فجره على مستوى محافظة ذمار عموماً، وما ساعد على ذلك هو أن بعض أبنائها النُّجباء الذين انطلقوا في خضم الأحداث التي شهدتها الحروب الـ6 على محافظة صعدة، قد عملوا على تكريسه لدى طبقة (القُربى)، ثم توسع الدور رويداً رويداً حتى شمل جميع قرى وأرياف محافظة ذمار، ولقد كانت الفترة الممتدة من العام 2011 وحتى اليوم، بمثابة (الفترة الذهبية)، التي استطاع خلالها المقاومون الأبطال أن ينفذوا إلى كل شبر داخل المجتمع الذماري الأصيل. 
على جهة اليمين، وقبل دخولك إلى قرية (عامد)، حيث النواة الأولى التي انسلخت منها شرارة التغيير الجذري، ترى مقبرة فريدة من نوعها.. إنها مأوى الخالدين الذين قضوا نحبهم خلال الحرب الكونية التي تشهدها اليمن منذ نحو 30 شهراً. أخذت القبور حوالي 25% من مساحة الأرض، فيما تتهيأ النسبة المتبقية لاستقبال المزيد من الجثامين الطاهرة التي تطرق أبوابها على نسق شبه يومي تقريباً.
تبدو مرّان أخرى، لا شيء يجعلها مختلفة إطلاقاً سوى الاسم، وبعض الفوارق الطفيفة المتعلقة بـ(السبق)، ونحوه. إن التضاريس والجغرافيا، والتاريخ، والهوية، والقضية، والمظلومية، والجود، والتضحية، والقيم،.. التي تتسم بها هذه المنطقة- جبل الشرق- هي ذاتها التي يلمسها الشخص المهتم عند زيارته لـ(مران صعدة)، تلك المنطقة التي أخذت النصيب الأكبر من المظلومية، ودافعت بكل إباء وشجاعة عن مشروع: الثورة اليمنية الكُبرى. 
في جلسة الظهيرة، وأثناء تناولنا أوراق شجرة القات في ضيافة (العريس)، وصلت إلى أصداء مجلسنا المؤقت رسالة هادئة تفوح منها رائحة الخلود.. لقد ترجل الشهيد الحي عبدالقوي الجبري، ابن قريتي، ذلك الشاب النبيل الذي صحبته لفترة محدودة في مدينة تعز، ثم غادرنا (فجأة) إلى الحدود السعودية –اليمنية، ومنها عاد إلى المخا (موزع)، ليستقر به الحال هناك، ويرحل إلى السماء في لحظة غادرة جبانة، لكنه لم يكن كأي رحيل على الإطلاق.
إن الموقف القوي الذي ظهر عليه الشهيد وهو في آخر أيامه، يؤكد حجم اليقين الذي يتمتع به أبناء المديرية في مواجهة الغزاة. إن هذا اليقين يبرهن بجلاء صدق التوجه، وعظمة القضية التي يؤمن بها أمثاله من العُظماء الذين سبقوه أو أولئك الذين ما يزالون ينتظرون دورهم.. وما أكثرهم.
لم تمضِ سوى ساعات فقط حتى وجدتُ أغلب الكُتّاب والناشطين والقادة يكتبون ويشيدون بمواقف الشهيد، وتضحيات أبناء قريتي الجميلة، ولقد شعرت بأنه من المخجل والمعيب على قلمي أن يظل متهكماً على غير عادته المندفعة، لذلك قررت أن أصل أهلي وربعي وأبناء قريتي بمقالة خالدة علّي أقتبس نوراً من فيض ما يجودون به، ولسان حالي يقول: أن تكتب متأخراً خير من ألا تكتب إطلاقاً.
إنها حالة واحدة فقط من جملة عشرات بل مئات الحالات المشابهة، أعني أن اليمن من أقصاها إلى أقصاها قد تحولت إلى (مرّانات) مكلومة، ومضطهدة، وأنه لمن السخرية المثيرة للضحك حد الإعياء أننا لا نزال نسمع ذات الإسطوانة المشروخة التي نسمعها باستمرار منذ 15 عاماً. تلك الإسطوانة التي تقول بأن الأوغاد سيُعيدون السواد الأعظم من أبناء شعبنا المجاهد إلى (الكهوف). إن على تلك البيادق الحمقاء أن توقفنا عند حدنا إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً. ولا نظنها تستطيع.

أترك تعليقاً

التعليقات