عبدالرحمن هاشم اللاحجي

أفصح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، خلال مؤتمر صحفي عقده مع نظيره السعودي عادل الجبير، في الرياض، عصر الخميس الماضي، عن مقاربة جديدة للحل في اليمن، تتركز على أولوية حفظ أمن المملكة السعودية، ولخصها في نقاط، أهمها: تسليم الصواريخ الباليستية إلى طرف ثالث، و(نزع) السلاح من المناطق المهمة كالممرات المائية والحدود الدولية، وتشكيل (حكومة وطنية).
كيري أعلن عن (قلق بلاده حيال الهجمات على جنوبي السعودية)، في إشارة إلى العمليات العسكرية التي يشنها الجيش اليمني واللجان الشعبية في ما وراء الحدود، ردًّا على الغارات الكثيفة والمجازر بحق اليمنيين، كما أكد مراراً، وفي سياقات مختلفة، على أن (واشنطن ملتزمة بأمن السعودية، وعليه لابد أن يكون الحل في اليمن مقروناً باحترام أمن السعودية).
ولم يخفِ كيري الدوافع التي تقف وراء مقاربته، وإن حاول تبرير ذلك بإطالة المأساة في اليمن، لكنه اعترف ضمنياً أن المقاربة لإخراج المملكة السعودية من مأزقها بعد تطورات الأحداث في الحدود.
على امتداد القرون الماضية ظلت المملكة السعودية بتدخلاتها السافرة وتعسّفاتها اللاهوتية في اليمن والشرق الأوسط بصفة عامة، عُرضة للابتزازات الاقتصادية والسياسية الأمريكية، فمع انطلاق شرارة الثورة اليمنية في مطلع العام 2011م، لعبت المملكة السعودية دوراً محورياً وأساسياً في تنفيذ السياسة الأمريكية التي هدفت إلى تجريد الثورة اليمنية وإفراغها من أهدافها وثوابتها المشروعة، وأسهمت بشكل جاد وفاعل في تنفيذ تلك السياسة الملعونة، دون أن يكون لها أي مشروع أو بُعد مستقبلي يخصها، بينما فضلت السير في المشروع الأمريكي الرامي إلى تفتيتها وبعثرتها إلى إمارات مجزأة ومتناحرة.
ما ذهب إليه كيري في مؤتمره الصحفي ليس جديداً، فقد سبق وحذرنا منه في أكثر من مقالة نشرناها، ونصحنا فيها ساسة المملكة وأمراءها السكارى بتفانٍ وإخلاص، ومع أن الرجل لم يشر صراحة إلى الرغبة الأمريكية ببعثرة السعودية إلى أجزاء متناحرة، إلا أن المحلل السياسي العادي يفهم ذلك ضمنياً في سياق مقاربة الرجل الكيدية والخطرة. 
من المناسب جداً أن نعيد ما نشرناه في الماضي حول الرغبة الأمريكية بتفتيت السعودية، فقد سبق أن نشرنا مقالاً بعنوان: أمريكا ومشروعها القادم تفتيت اليمن أم أقلمة السعودية؟! وذلك على صفحات صحيفتنا الرائعة (لا)، في بداية العام الحالي يناير 2016م، وإليكم المقال:
(بالعودة إلى الفترة التالية لثورة فبراير المجيدة، فسنتان فقط من عُمر المبادرة الخليجية المشؤومة كانت كفيلة بإثبات خلو العقل السياسي السعودي من أدنى الأبجديات والمفاهيم السياسية، بعكس المشروع الأمريكي الذي حاول جاهداً انتزاع الموافقة السياسية اليمنية في تقسيم اليمن إلى أقاليم متعددة يسهل السيطرة عليها وإدارتها من بُعد، كما هو الحال في النموذج العراقي ودستور بريمر الجائر.
وبالرغم من وجود التباينات والاختلافات في السياسات الأمريكية والسعودية بشأن اليمن، إلا أن التأثير الأمريكي على القرار السعودي كان واضحاً وملموساً، فبالقدر الذي أرادت المملكة إبقاء الدولة اليمنية ضعيفة ومهترئة استجابة لوصية جدّهم القائلة (قوّتكم في ضعف اليمن)، كانت الإرادة الأمريكية تسعى جادة لبناء دولة قوية قادرة على حماية مصالحها وأمنها القومي، وهو الأمر الذي دفع بالمملكة للمضي في المشروع الأمريكي نتيجة غياب المشروع والرؤية الاستراتيجية الكاملة لما تريده مستقبلاً من جهة، والهيمنة الأمريكية على القرار السيادي للمملكة من جهة أخرى!
وبلا شك، فإن الانجرار السعودي وراء القرار السياسي الأمريكي كان واضحاً وكبيراً، فالأوراق الكثيرة التي خسرتها المملكة السعودية في اليمن ابتداءً من دمّاج والمراكز الوهابية، مروراً بمراكز النفوذ القوى التقليدية، وأخيراً الرئيس المخلوع هادي، ما كانت ستخسرها لولا الابتزازات الأمريكية المتتالية التي هدفت إلى إيجاد حالة توازن على مستوى القوى السياسية والعسكرية في اليمن، تمهيداً لتطبيق مشروع الأقلمة وتفتيت اليمن.
لقد وجدت السعودية نفسها بعد ثورة 21 سبتمبر، ودخول الجيش اليمني مدينة عدن، مجرّدة تماماً من أية أوراق فاعلة، باستثناء جماعات مفرقة وأحزاب مهترئة وحكومة مطاردة من قبل الشعب، فحاولت جاهدة إعادة ترتيب ما بعثرته خلال أقل من عام نتيجة الانقياد وراء السياسات الأمريكية وأخطائها الفادحة، إلا أن كل المحاولات لم تكن مجدية، فعمدت إلى التدخل المباشر بقواتها العسكرية ودفاعاتها الجوية المتطورة، بيد أن كل تلك الجهود الضخمة التي حظيت بدعم لوجستي أمريكي واضح، هي الأخرى لم تكن كافية بالقدر الذي تستطيع من خلاله كسر الإرادة اليمنية الراغبة بإحداث تغييرات جذرية على مستوى نظام الحكم الذي كان قابعاً تحت تأثير القرار السياسي الأمريكي طيلة الفترة الماضية!
وبلا شك، فإن الفشل السعودي الذريع في اليمن سيقابله تغييرات جذرية في اتجاهات وأهداف السياسة الأمريكية المرنة التي باتت مدركة تماماً عدم جدوى الحرب، وأن استمراريتها وديمومتها في اليمن تعني فقدانها الكثير من المصالح القومية، كما تضعف تواجدها وحضورها الجيوسياسي في العراق وبلاد الشام.
بالنسبة لأمريكا لا يهمها وجود نظام الحكم السعودي من عدمه بقدر اهتمامها بامتصاصه اقتصادياً وتسخيره لخدمة مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وهو ما تحقق لها طيلة الفترة الماضية، فمليارات الدولارات التي جنتها مقابل صفقات الأسلحة الذكية والمتطورة، والتي بلغت قرابة 100 مليار دولار، ستقوم بتسخيرها في أماكن أخرى تخدم سياساتها الجديدة الرامية إلى ترك اليمن للرجل القوي الذي بإمكانه الحفاظ على مصالحها حتى لو كان ذلك سيقضي عليها سياسياً، ويضعف تواجدها الاقتصادي والاجتماعي، فهي باتت مجبرة تماماً للشروع في هكذا سياسة، سيما بعد قطع جميع أذرعها التي ارتكزت عليها في الماضي.
وبالتأكيد، فإن تلك السياسة الأمريكية في اليمن سيقابلها (تهشيم) للنظام السعودي ليواجه مصيره منفرداً كما صنعت مع المراكز التقليدية والرئيس المخلوع هادي منذ فترة بسيطة، هذا إن لم تسعَ لتفكيكه تحت ضغط القرار السياسي العالمي واليمني على وجه التحديد، ولقد بدا ذلك واضحاً وجلياً من التحرك الجيوستراتيجي للمملكة السعودية وتخبطها في أكثر من صعيد ومحفل). 
لم يكن أحد يحبذ للمملكة أن تسير في نفس الطريق التي رسمها المشرع الأمريكي منذ وقت طويل، لأنها حتماً خطيرة، وستقودها إلى الهاوية، ولكن يبدو أن أمراءها وقواديها الأغبياء مجبرون على أن يسلكوا ذات الطريق، لأن قراراتهم واتجاهاتهم ليست بأيديهم، وهم ليسوا سوى مطيعين ومنقادين لما يأتيهم من دهاليز وغرف البيت الأبيض، وهذه هي الكارثة التي قد لا تصحو منها المملكة إلا في أوقات لا ينفع فيها كثرة الصراخ وغزارة البكاء!

أترك تعليقاً

التعليقات