عبدالرحمن هاشم اللاحجي

أطلال من الذكريات البينية تنسفها عاصفة المصالح الاستراتيجية الأمريكية (نهاية متوقعة فما الذي كان يتوقعه أمراء البترودولار؟!) 
العلاقات الأمريكية السعودية في خبر كان



ظلت العلاقات الأمريكية - السعودية بتعدد ملفاتها وقضاياها التاريخية الماضية، زاخرة بالتعاون المتين والتنسيق الفعّال، وحافلة بالروابط الودية والمثمرة بين الطرفين على كافة الصُّعد الاقتصادية والعسكرية واللوجستية والاجتماعية و.. إلخ.
منذ نشأة المملكة السعودية في العام 1906، ارتبطت بشكل مباشر بالدولة البريطانية العظمى، واستمدت منها جميع عوامل القوة والبقاء والديمومة، ولكن ومع بروز العديد من الأحداث التي صاحبت القرن العشرين، كان للمملكة دور كبير جداً في تنفيذ المخططات الاستعمارية في الشرق الأوسط، نظراً لارتباطها الوثيق مع الولايات المتحدة وإسرائيل، حيث مثلت أداة حقيقية في رسم ملامح النظام العالمي، خصوصاً في الأحداث التي تخللت المنطقة العربية في ستينيات القرن الماضي، وصولاً الى حرب الخليج الأولى فالثانية، وأخيراً هرولتها الساذجة وراء الأمريكان في محاربة الإرهاب والتطرف، دون أن تعلم أنها هي المعنية بالإرهاب كما يقول مشروع القرار الأمريكي الأخير الذي تمت الموافقة عليه من قبل أغلب أعضاء الكونجرس الأمريكي، قبل أيام. 
بدأت العلاقات المتينة في التدهور والاضمحلال منذ وقت قصير، وتحديداً منذ زيارة الملك سلمان إلى الولايات المتحدة منذ أكثر من عام. عشية تلك الزيارة نشرت (النيويورك تايمز) مقالاً للكاتب الشهير توماس فريدمان، في 2 أيلول 2015، بعنوان ساخر: (الإسلام المتطرّف صديقنا الأبدي: السعودية)، حيث قام بتعرية وجه السعودية المتورطة بنشر الإرهاب في العالم كلّه، ويفضح حقيقة الأيديولوجية الوهابية المتّسمة بالعنف والتطرّف والفساد، وخطرها على العالم، ويعتبر داعش والقاعدة والنصرة الفروع الأيديولوجية للوهابية التي تنشرها السعودية في الجوامع والمدارس من المغرب إلى باكستان وإندونيسيا. إلا أن ذلك المقال لا يُقارن بالضخّ الإعلامي الذي اتّخذ منحىً تصاعدياً بدءاً من فيلم وثائقي عرض على (بي بي سي)، إلى سيل المقالات عن خطر الوهابية وعنفها، إلى نشر نتائج دراسات أجريت في مراكز الأبحاث عن تغاضي الحكومة الأميركية عن حقيقة أن معظم منفّذي هجمات 11 أيلول هم من الإرهابيين السعوديين، إلى التهديد بنشر الصفحات الـ28 من التقرير الخاص بتلك الهجمات، والتي أخفاها بوش الابن بعد أن دفعت السعودية له الثمن اللازم، حيث يعتقد أن هذه الصفحات تحتوي على أسرار تورّط العائلة المالكة السعودية بهجمات 11 أيلول الإرهابية. ولكنّ ما نشر عقب زيارة أوباما الأخيرة إلى الرياض، والاجتماع بزعماء الخليج والملك سلمان، يدخل عتبة أخرى في العلاقة الأميركية - السعودية، التي غدت محطّ تساؤلات مشروعة. إذ سارعت جريدة (الإندبندنت) إلى نشر آلية الحديث بين الملك سلمان والرئيس أوباما، وكشفت أن كتلة الورد الأبيض أمامهما كانت تخفي جهازاً ينقل الجواب الذي يجب أن يقوله الملك إلى شاشة يقرؤه الملك سلمان، وأنّ شخصاً ما يجلس أمام حاسب يضع له الأجوبة كي يقرأها. ولذلك فإن الملك سلمان لا ينظر إلى ضيفه، بل ينظر إلى الشاشة التي توضع عليها الأجوبة! كما تضمّن المقال استقراء جديداً بأن آمال بني سعود مبنيّة على أن تغيير الإدارة الأميركية من أوباما إلى خلفه، قد يُحدث صدمة في الرياض، لأن الجمهوريين والديمقراطيين قد اتخذوا موقفاً واحداً من السعودية، وأنّ أيام شهر العسل لن تعود حتى بعد انتهاء ولاية أوباما. كما أن سيلاً من المقالات أخذ يتحدّث عن استحقاقات عائلات ضحايا 11 أيلول، وأنّ أميرين سعوديين قد دفعا رواتب لهؤلاء الذين قاموا بالتفجيرات في نيويورك.
كلّ هذا يشير بما لا يقبل الشكّ إلى أن العلاقات السعودية - الأميركية قد لا تعود أبداً إلى سابق عهدها من التعاون على البغي والعدوان، ذلك لأن الاستراتيجيين في الولايات المتحدة ينخرطون بالتحضير لعالم جديد تختلف عناصره ومقوماته وموجبات العمل فيه عن العالم الذي كان قائماً قبل سنوات، وبما أنه من الصعب على بني سعود الإحاطة بهذه الحقيقة، ناهيك عن التعامل معها، فإنّهم مازالوا يعيشون أضغاث أحلام الماضي، ويحاولون إثبات وجودهم من خلال دعم الإرهاب في سوريا والعراق، وتدمير اليمن، وإحكام السيطرة على دول الخليج، وضرب الحركة الديمقراطية في البحرين، وشراء جزر هنا وحكومة رخيصة هناك. لقد تغيّرت الأولويات في الغرب والشرق وفق الدورة التاريخية الجديدة التي يشهدها العالم، والدول الحيّة هي التي تخطّط وتكتب وتعمل وترسم خطواتها وتوجهاتها لعشرات السنين القادمة، على حين تبقى الدول الهالكة منخرطة بردود أفعال هنا وهناك، لا تغيّر من الواقع شيئاً، ولا تساهم في خلق مستقبل مختلف يتناسب مع حجم التغيير المطلوب.
ما يعزز القول هو إقدام الكونجرس الأمريكي، قبل أيام، على تبني مشروع قانون يتهم السلطات السعودية بالضلوع في أحداث الـ11 من سبتمبر، لتكسر الولايات المتحدة آخر لوح سميك من العلاقات القائمة بين الجانبين منذ عقود، وتصبح المملكة السعودية في زاوية ضيقة وحرجة للغاية، فلا الصين ولا روسيا ولا التحالفات العربية- العربية أو التحالفات الإسلامية - العربية التي أنشأها الملك سلمان ونجله، خلال زيارتهما الطائرة قبل أقل من شهر، يمكنها أن تعوض الفجوة الساحقة التي سيتركها الثعلب الأمريكي، خصوصاً مع فداحة الورطة التي تعيشها هذه الأيام في كل من سوريا والعراق واليمن، وفي (لبنان) تهكماً. 
أضف الى ذلك أن إعلان الخزانة الأمريكية عن قيمة الأصول السعودية المستثمرة في أذون الخزانة والسندات، والتي تبلغ قرابة 116 مليار دولار، ولأول مرة منذ 40 عاماً، يعد تحدياً واضحاً وصريحاً لتصريحات عادل الجبير عندما هدد الولايات المتحدة في زيارته الأخيرة، ببيع أصول المملكة في أمريكا، والتي تقدر بنحو 750 مليار دولار، حسب ما نشرته (النيويورك تايمز)، إن هي أقدمت على إصدار القانون المصدر بالفعل والموافق عليه من قبل أغلبية أعضاء الكونجرس، وكأن واشنطن تريد أن تقول للجبير إن أردت أن تبدأ، فمن هنا تكون البداية!
قد تكون الهجرة غير المسبوقة لسكان المملكة، والملحوظة إلى الإمارات، وإلى الولايات المتحدة الأميركية، مؤشراً على شعورهم أن المستقبل في بلادهم ينذر بالخطر، وقد يكون كرم الولايات المتحدة بمنح جنسيات لأعداد من السعوديين، يشي بتحضيرها لجيل من السعوديين سوف يعود ليستلم مقاليد الحكم في السعودية بعد أن تجري الترتيبات اللازمة لذلك، كما حدث في ليبيا والعراق ولبنان، وكما يُخطط له في سوريا وغيرها. والحكمة الحقيقية في كلّ ما يجري هي أن (الزبد يذهب جُفاء)، وأنّ التهويل الإعلامي لأي أمر لا يمكن أن يكون بديلاً من الحقيقة. لقد وقّعت الولايات المتحدة اتفاقاً مع إيران لإدراكها أن إيران تجاوزت عتبة مهمة في المعرفة، لا يمكن إعادتها إلى الوراء، وأنّه من الأفضل التعاون معها بدلاً من مواجهتها. كما تتعاون الولايات المتحدة مع روسيا اليوم في الملف السوري، لأن روسيا أثبتت وجودها في المنطقة وعلى الساحة الدولية، بشكل لا يمكن للولايات المتحدة تجاهله. ووفق هذا المقياس، ما نقاط القوّة السعودية التي لا يمكن للولايات المتحدة الاستغناء عنها أو تجاهلها؟ وما موقع السعودية في موازين الربح والخسارة للولايات المتحدة؟ لا شيء البتّة، حتى المليارات التي راكمتها طوال عقود يقوم بنو سعود بإهدارها في حروب ضدّ العرب، على حين تواجه الولايات المتحدة تحدّي صعود قوة الصين، وتحاول إعادة ترتيب أوراقها في العالم وفق المعطيات الجديدة، حيث تضمن استمرارها كقوة اقتصادية وعسكرية تشكّل على الأقل قطباً رئيسياً في عالم متعدّد الأقطاب. إذا كان الحديث مع أوباما يحتاج إلى من يكتب كلمات على الشاشة كي يتمكن الملك من قراءتها، فمن ذا الذي يكتب مستقبل بلد يستخدم المال والسلاح لتدمير دول شقيقة هي رصيد قوته، ظنّاً منه أنه يصنع مكانة إقليمية وعناصر قوة من خلال إضعاف الحميّة العربية، وشقّ صفوف الأمة الإسلامية بإشعال الحروب وتدمير الحضارات ودعم الإرهاب وزهق أرواح الأبرياء؟
لامستقبل يبدو أمام السعودية، ولا طريق واضحة أمام ملوكها وأمرائها، حيث يعيشون حالة من التخبط والطيش. ولأن هذه الحالة باتت مستعصية ومستفحلة، تشتغل السياسة الأمريكية في العمق السعودي على خطين متوازيين؛ الأول: ضغط عالٍ على إنجاح مشاورات الكويت وجنيف، وتوجيه الإمكانات السعودية صوب محاربة القاعدة والمد الشيعي، حيث باتت تحارب في اليمن على رقعتين جغرافيتين في الجنوب والشمال، وبالمثل سيكون في العراق وسوريا، حيث يتم تجهيز قوة رعد الشمال.. والثاني: خلخلة النظام السعودي وضرب الأسرة الحاكمة بعضها بالبعض الآخر، ولا ندري كيف سيكون مستقبل الأمراء وأصحاب السمو في قادم الأيام، عندما يجدون أنفسهم ضمن قائمة الاستهداف الأمريكي المباشر (بالاسم) وتحت صفة (إرهابي) مخضرم..!

أترك تعليقاً

التعليقات