عبدالرحمن هاشم اللاحجي

في الواقع هناك شرطان أساسيان ينبغي توفرهما في أية ثورة (حقيقية) هادفة، وبغض النظر عن نجاح هذه الثورة (وهو الأغلب) أو فشلها في تحقيق أهدافها المؤملة، فإن هذين الشرطين لازمان لانطلاقها من نقطة الصفر: 
الشرط الأول: منظومة فكرية ثقافية معاصرة تسيطر عليها فكرة الخلاص من خطر ما، تكون منبثقة من صميم قيم المجتمع، وأعرافه وعقيدته، وعلى حسب قوة هذه المنظومة ومرونتها وواقعيتها تتغير اتجاهات المجتمع نحو الظفر بتلك الأهداف، أو بعضها، أو قد لا تظفر بشيء، خصوصاً إن كانت هذه المنظومة ضعيفة لا تقوى على الصمود والتحدي أمام الأخطار الحتمية.  
الشرط الثاني: قيادة هرمية واعية تضمن عملية الضبط والسيطرة، وتجيد المناورة السياسية، وتتسم بالفاعلية والإرادة القوية، وباختصار موجز: كل ما يتعلق بأمور القيادة.
دعونا من فضلكم نعد للشرط الأول، فهو محور حديثنا في هذه المقالة البيّنة، ولنترك الشرط الثاني لمناسبات أخرى.
المعروف عن المنظومة الفكرية لثورة ما، أنها تُشوّه، وتُحارب فكرياً في مراحلها المبكرة، وذلك كي لا تتمكن هذه الأفكار من النفاذ الى أدمغة المجتمع الغارق في السبات، فتوقظه وتغير اتجاهه، وهذا ما لم يحدث مع المنظومة الفكرية للثورة اليمنية الخالدة، نقصد مع (الملازم). 
لم يحدث أن تعرضت الملازم للتشويه، لأنه لا يوجد أساساً ما يجعلها كذلك (مشوهة)، ولم يحدث أن حوربت فكرياً لأن المفكرين والباحثين وأصحاب الشأن يقفون عاجزين أمام أسطرها الواضحة دون أن يتبادر الى أذهانهم مجرد كلمة (ناقدة) أو حتى عابرة سبيل. 
إنهم يجدون كل ما فيها (صواباً)، و(حقائق)، لذلك يفضلون الهرب والتواري تارة، والظهور بألسنة خافتة وخجولة تُحذر من (مُفردة) الملازم تارة أخرى. 
من هنا، وأمام كل تلك الحصافة والدقة والواقعية التي انفردت بها هذه المنظومة الحضارية المتكاملة، كان لزاماً على تلك العاهات المريضة المليئة بأوساخ التاريخ وأوبئة الحضارات، أن تعمد الى قمعها واستئصالها. القمع الذي لا يبقي لها أثراً في (الورق)، ولا حتى في عقول قارئيها ومعتنقيها. 
لقد تعرضت الملازم، ومعتنقو الملازم، لعملية استئصال ممنهجة لم تتعرض لها أية منظومة فكرية في التاريخ، وكان ذلك بهدف الحيلولة دون وصولها الى السواد الأعظم من أبناء مجتمعنا التائه (في ذلك الوقت)، لكن، ومع كل ذلك القمع المُدقع والمحو الممنهج، ها هي وصلت إلينا (كما ولدت)، وأصبحت في متناول شريحة واسعة من أبناء (عالمنا الواسع). 
ومن الواضح أن الانتصار الساحق الذي توجت به الملازم في نهاية المطاف، كان هو السبب الخفي الذي جعل تلك (العاهات) تخشاها منذ البداية، وتعمل لها ألف حساب. 
وبمعنى أوضح: لو لم تكن هذه المنظومة فعّالة، ومؤثرة، وهادفة، ومعاصرة، وسليمة، وقادرة على إنتاج عقول ثورية حضارية معاصرة، غير تلك العقول الضحلة التي حاول الاستعمار إنتاجها، لما خشيها أحد، ولما آمن بها أحد، ولما وجدت طريقها للنور، ولدُفنت في مراحلها المُبكرة. 
إن هذا هو المنطق بعينه، عندما تتعرض مجموعة (ملازم) لكل ذلك التوحش، ولفترة تزيد عن 8 سنوات، ثم تتربع بعد تلك المدة الطويلة وتسود على مختلف الثقافات الأخرى، وتصبح لسان حال المجتمع، فإن ذلك دلالة دامغة على علوّها واكتمال أفكارها.
وما من شك أن العموميات التي أطلقناها على هذه الملازم ليست كافية للإجابة على سؤالنا، وحتى تكون كذلك فإن الأمر يتطلب الغوص في أعماقها وسبر أغوارها. ذلك الغوص الهادئ الذي يجعل الباحث أكثر نباهة وقدرة على استخراج اللآلئ والمرجان من أعماق بحر (الملازم) الزاخر. 
إن المفكرين والمثقفين والقادة العرب والمسلمين على اختلاف أيديولوجياتهم، وجنسياتهم، وأذواق كتاباتهم، وبلاغة مؤلفاتهم وكثرتها، ودقتها، لم يتمكنوا من صناعة ثورة فكرية (حقيقية) على النحو الذي صنعته الملازم. 
نقول ذلك ونحن نعي جيداً ما نقول... إذا كانت عشرات الآلاف من الكتب والمجلدات والأطروحات العالمية قد أوجدت مجتمعات عربية وإسلامية مكبلة وضعيفة لا تملك قوت يومها، ولا تستطيع الوقوف أمام أعدائها لمدة أسبوع واحد، فإن بضع ملازم قرآنية مجمعة قد أوجدت مجتمعاً يمنياً قوياً لا يستهان به. 
لقد أحدثت هذه المنظومة المذهلة نقلة نوعية شاملة في نمط تفكير المجتمع، وغيّرت اتجاهه (تماماً).. ذلك الاتجاه الحضاري الفعّال الذي يجعل الفرد يُنتج، ويبتكر، ويتفنن في إبداعاته وميولاته المختلفة. 
وفي لحظة حرب كونية... إن المجتمع الذي تمكّن من صناعة منظومته الدفاعية الخاصة ابتداء من خرطوشة البندقة وانتهاء بصاروخ باليستي يصل مداه لأكثر من 2000 كيلومتر (حيث لا يزال يخفي في جعبته الكثير)، وخلال فترة قياسية لا تتعدى الـ3 سنوات، وهو يعاني من حصار مطبق، وعدوان لأكثر من 20 دولة بترسانتها التكنولوجية والاقتصادية الضخمة، لهو مجتمع جدير بحرف أنظار العالم نحو ثقافته، وأفكاره، وأبجديات انطلاقته، وما يؤمن به. 
وإذا لم يلتفت الآن فلا مشكلة، غير أننا نأسف على إهداره فرصة (ثمينة) كان بوسعه انتهازها سريعاً عبر القيام بتدريس هذه المنظومة في أرقى وأقوى جامعاته ومعاهده، مع قناعتنا المطلقة أنه سيفعل ذلك، حيث ما تزال هذه الفرصة سانحة خلال المستقبل المنظور. 
إنها بحق موسوعة ثورية حضارية متكاملة.. إذا كانت الثقافات هي المدخل الأساس لدراسة حضارة ما، فإن المجتمع اليمني العظيم يشق طريقه اليوم نحو (الحضارة) من أوسع أبوابها.
ثم إن أولئك (البوّابين) الذين يقفون على مداخل هذه الحضارة، كُثر، ومتعددو أغراض، وسيكون من المناسب لو أننا قمنا باصطيادهم في خاتمة مقالنا هذا، وحتى يكون ختامنا (مسكاً) كما يقال:
1- فئة الخطر المرعب: قلنا في البداية بأن الشرط الرئيسي لأية منظومة فكرية هو أن تحشد المجتمع وتوظف طاقاته نحو خطر محدق.. إن النجاح الباهر الذي حققته (الملازم) هو أنها وجهت المجتمع العالمي عموماً صوب خطر فعلي يتمثل (بأمريكا وإسرائيل ).. ولهذا كان من البديهي جداً أن تسعى هذه الفئة المتضررة لقمع هذا الفكر، وإن بطرق ملتوية وملتبسة تجهلها الكثير من شعوب وأنظمة العالم، وهذا ما سنتحدث عنه باستفاضة في مقالات قادمة بإذن الله.
2- فئة المصالح: ونعني بهذه الفئة الحكام المستبدين، ومرتزقتهم، ومعاونيهم، إضافة الى المؤسسات والمنظمات التي تنفذ أجندات الفئة الأولى، وتنطوي تحتها.. إن الدافع الرئيسي لهذه الفئة هو الخشية على مصالحها من الضياع، مع أن هذه المصالح مصانة في (الملازم) بالشكل الذي لا يمس الكرامة، ولا يهدر الحقوق، ولا يضيع السيادة الوطنية.
3- مؤدلجو الثقافات المغايرة: بإمكانكم أن تتخيلوا شخصاً تربى منذ نعومة أظفاره على ثقافة (مغلوطة)، كيف سيكون مستقبله أمام ثقافة ثورية معاصرة وسليمة؟! بالتأكيد سيكون حاله أشبه بذلك الذي يصارع الغرق في بحر متلاطم الأمواج، فلا يجد سوى (قشة) صغيرة ليتشبث بها. إن أمريكا وإسرائيل هما القشة، وهما مستنقع الغرق لو تأملنا ذلك قليلاً فقط. 
4- ذوو الشهادات والمكانات المجتمعية الرفيعة: الدافع الأبرز لهذه الفئة هو الغرور والتعالي، وأحياناً الحسد والانتقام من الفكرة ذاتها لسبب تافه يعود الى (عجز) هذه الفئة عن الإتيان بمثلها، بالذات النخب المجتمعية النهضوية كالمفكرين والمثقفين وصنّاع الرأي... الخ.
5- المثقلون والمُحبطون: وهذه الفئة من أقل الفئات حظاً، وأكثرها تعاسة، لأنها تعرف الحقيقة جيداً، وتفترض لذاتها افتراضات تثبيطية ضيقة يتجاوزها الواقع ويقفز عليها مسافات طويلة.

أترك تعليقاً

التعليقات