طاهر علوان

طاهر علوان الزريقي / لا ميديا -
الفـن الدرامي ليس تجلياً من تجليات المجتمع المدني والحضاري فحسب، بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع وضرورة من ضرورات نموه وازدهاره وتطوره ووظيفة اجتماعية تشبع الحاجة الجمالية للإنسان وتساعده على صياغة الواقع واحتوائه.
الفن الدرامي وثيق الصلة بالحوار بين الجماعات وتعميم الديمقراطية واحترام التعددية وكبح النزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء، الفن الدرامي يحثنا دائماً على أن نحيا في عالم واحد إنساني متضامن تتقاسم شعوبه خيرات الأرض دون استغلال وتزدهر فيه إنسانية الإنسان دون ظلم أو عدوان.
الدراما مرتبطة بشكل مباشر بحياة الناس وبعلاقاتهم وواقعهم، مرتبطة بالجمال والقوه الإنسانية الإبداعية، مرتبطة بالقدرة الفائقة على تحريك الجماهير وتوعيتها وتثقيفها وربطها بالواقع وبالعلاقات القائمة، وإنارة الطريق للقوى المظلومة وجماهير الجياع للكيفية التي يتحركون بها لمواجهة قوى الظلم والفساد، والقوى التي تعرقل تطورهم ومعالجاتها بأساليب فنية درامية ومعايير ومقاييس إبداعية ملتزمة بشروط العمل الدرامي ومقتضياته التقنية والموضوعية، والابتعاد عن النصوص الهزيلة والرتيبة والمملة والمكررة والمكونة من عدة حواديث مفتعلة متداخلة وملفقة ومحشوة قسراً، وتتعاقب دون ترابط درامي.
وانطلاقاً من هذه الرؤية سوف أحاول بكل لطف وموضوعية أن أكون موضوعيا بالقدر الذي يمكن فيه للإنسان أن يكون موضوعياً في وطن ما عاد يشبه الأوطان، وعلى هذا الأساس سوف تكون المراجعة صعبة ويكون النقد قائماً على أساس أن الماضي لم يزل بطلاً في الحاضر وعلينا أن نحدد موقعه في رحلته معنا إلى المستقبل.
ونحاول بكل صدق وأمانة ومسؤولية رصد وتقييم محتوى طغيان تلك المسلسلات الرمضانية التي تغتال أحلامنا الصغيرة مقابل تحقيق أحلام شخصية وشهرة زائفة لمسلسلات هابطة ومكررة تفرض علينا قسراً كل عام من جهات رسمية وشبه رسمية تملك الإمكانيات المادية الهائلة، بحيث تستطيع أن تزيح عن طريقها كل مبدع وكل مسلسل راق وهادف ومغاير لها، تستطيع أن تحتل الصدارة بقوة الإثارة والدعاية والإعلام من شلة مسيطرة على القنوات التلفزيونية، شلة عديمة القدرة والموهبة والإبداع وخلق الجديد والرؤية الجديدة والتجدد في الشكل والمضمون.
الدراما أصبحت صناعة دون إلغاء الجانب الفني الإبداعي، أصبحت تصوغ ذاكرة المجتمع وتحلم بالمستقبل لتحطم الماضي التعيس وتضيء الحاضر بكل زواياه المفرحة والمفجعة، وتخوض في أحداث ومعادلة الموت والحياة والخلود الإنساني والحب والفرح والحزن، وصناعة أسئلة خارج حدود المألوف والمتداول المعروف، وتنتج مسلسلات تزين الرحيل باللقاء وتزين الحزن بالفرح، وتزين الحرمان بالتواصل، وتزين الكراهية بالمحبة، وتبحث عن هدف خالص النقاء والنبل، وتوضح إمكانية الحياة وتحملها هذا الكنز الدائم التوالد هو سر وجودنا فى أرقى معانيه الإنسانية وفي كل حالاته.
نحن بحاجة إلى الكثير من الصدق كي نقف على أرجلنا، بحاجة إلى الابتعاد عن التحالف مع آفة التكرار الممل، بينما الحياة تجود بكل جديد ولا تتوقف، والتغيير هو القانون المطلق الذي يحكم حركتها إلا في المسلسلات الرمضانية، مسلسلات الصراخ والاستعراضات المبتذلة والمفتعلة وبدون شكل ولا مضمون، مسلسلات لا تريد الخروج من التكرار والخطاب المباشر والصوت العالي المفتعل والسقوط في الإسفاف والابتذال والتهريج والمشاهد السمجة والمكررة والمملة.
هناك في الأدب ما يسمى النص الوراثي ويقال ذلك عن أدب يكرر نفسه يكرر أخطاءه من جيل إلى جيل، وهذا النص يشبه زواج الأقارب حيث تظهر التشوهات في وجه أو عقل أو فكر أو قلب الأبناء، فكيف إذا كان النص الدرامي الوراثي مصنوعاً في مسلسلات رمضانية باهتة مشوهة تتكرر كل عام بنفس الإيقاع والرتابة وبنفس السماجة تغزو وتقتحم كل بيوت الجمهورية من الشمال إلى الجنوب وتترك أسوأ الآثار في نفوس وعقول المشاهدين دون رقيب أو اعتراض من أي جهة رسمية مسؤولة ومخولة لحماية عقولنا ومشاعرنا وأخلاقياتنا من كل ابتذال وإسفاف وإفساد للذوق والإحساس، حمايتنا من الفن الهابط والمطعم بالكم الهائل من التهريج والنفاق والكذب والخداع واغتيال كل جميل في حياتنا وتغذية الدمار الروحي وإغراقنا في وحل المسلسلات الهابطة والتي تثير القرف والاشمئزاز.
مسلسلات لا يهمها معاناة الإنسان، لا يهمها معنى الوطن والحرية والتحليل الفني والإبداعي والاجتماعي للأزمات المتتابعة وتخفي حقائق الأزمات وجذورها الداخلية أو الذاتية والأدوار التي تقوم بها الأطراف الخارجية، وتوظيف العلاقات والوقائع والأحداث لخدمة هدف إنساني مشروع وعظيم، وتمجيد الصراع القائم في سبيل لقمة العيش والحرية والدفاع عن القيم الفاضلة والإنسانية، وفتح آفاق رحبة أمام المشاهد وانتشاله من الإحباط والتشاؤم واليأس وانسداد الأفق بمسلسلات هادفة ومتطورة بأسلوبها الفني والتقني والموضوعي وبمعالجة درامية متقنة بشكلها ومضمونها وبرؤية إخراجية إبداعية حديثة ومتجددة وبتصميم فريد من نوعه دون تكرار وافتعال للحوادث والأشخاص، دون صراخ واستجداء للعواطف والمحاولات السمجة لانتزاع الضحكات والبكاء.
مسلسلات لم تفتح آفاقاً واسعة أمام جماليات المشاهد الاجتماعية الهادفة والمؤثرات التقنية والمتطورة والحس الفني الرفيع وغياب المضمون والسيناريو الهادف وترابط الأحداث والغياب الأبرز للقيم الفاضلة والوعى الوطني والأخلاقيات الإنسانية الملتزمة لقضايا المجتمع ومعاناة الناس والأزمات والتناقضات الحياتية والنفسية ومتاهة الحياة والتقاليد.
إن مهمة الدراما بشكل عام تغيير المفاهيم والقيم والسلوكيات لدى الناس وإرساء وتعديل، بل وحذف بعض القيم والسلوكيات السيئة، لقد صارت الدراما من الأهمية بالشكل الذي تسعى فيه كل الأنظمة وكل جماعة للتعبير عن ذاتها وقيمها من خلالها، فلم تعد الدراما وسيطا ترفيهيا للناس، بل أصبحت وبشكل لا يقبل الشك وسيطاً ثقافياً يمكن من خلاله التعبير عن الآراء والمعتقدات ووجهات النظر سواء لفرد أو لجماعة أياً كانت هذه الآراء والمعتقدات؛ سياسة أو أيديولوجية أو دينية، بشرط الاحتفاظ بمواصفات الدراما من الناحية الفنية والإبداعية والجمالية، والابتعاد عن السموم الفكرية والمغالطات التاريخية والحياتية، وعدم تصديرها البشاعات وكل قبيح وإلغاء كل جميل وإنساني وممتع، وتجسيد العواطف النبيلة والمعرفة العلمية والوعي الإنساني المتطور والملتزم بقضايا البشرية وقضايا الذات الإنسانية وتفاصيل يومياتها على خلفية حركة المجتمع وأزماته وتناقضاته الحياتية والنفسية ومتاهات التقاليد الاجتماعية، ومعالجة قضايا الإنسان اليومية ومعاناته وطموحاته وهواجسه، فشله وانتصاراته، تناقضاته وأحلامه، وبغير ذلك تصبح الدراما برمتها ضرباً من التهريج والابتذال ولا تستنبط حلولاً لمشاكلنا ولا تخلق أدوات نواجه بها كل ما هو بشع وغبي وعدواني وفاسد وغير عادل في حياتنا، أدوات نواجه بها التحديات والأخطار المحدقة بنا من كل صوب وتعيد صياغتنا لنصبح أكثر استعداداً لرفض الوباء الآتي من تلك المسلسلات الرمضانية الهابطة بمواصفاتها العدوانية والشرسة والقاسية على عقولنا ومشاعرنا، وأن تجعلنا أكثر صلابة لرفض تعقيدات الحياة الاجتماعية، تجعلنا نتقبل الحياة بروح طفولية مرحة، وتشعرنا بأن العالم كله ملكنا، وأن ترتبط مواقفنا بالعالم بخيوط ذهبية وعذوبة إنسانية ينسجها الأمل والتفاؤل، والابتعاد عن الخيبات والانحدار والهبوط والتردي وحالة الغيبوبة.
دراما فيها الكثير من العمق والجمال، الكثير من المعاني الإنسانية الراقية، لا عنف وعدوانية، لا دماء تجري، ولا حدائق تشتعل، ولا رؤوس تنفجر، وإنما جداول رقراقة فيها الكثير من السحر والشدو والعذوبة، ذلك هو الموقف القوي والصحيح للوقوف في وجه طغيان المسلسلات الرمضانية الهابطة، والتي ينخر فيها الانحدار والتخلف والفساد حتى العظم، واستبدالها بمسلسلات هادفة مهمتها الأساسية تنمية المشاعر والتذوق الجمالي، تنمية العواطف الإنسانية، تنمية الثقافة وخلق الوعي الإنساني الملتزم بقضايا الوطن والإنسان وصقل الروح وحماية العقل من الابتذال والانحطاط والإسفاف، وتأمين المجتمع من التفتت والتعصب المذهبي والطائفي.
الدراما وسيلة فنية مؤثرة لغرس القيم الإنسانية النبيلة والعادات والتقاليد الفاضلة ومحاربة الفساد والرذيلة والاهتمام بحياة المشاهد، ونقله من الركود والكسل الذهني إلى عالم الإبداع والدهشة إلى عالم التطور والحداثة والواقعية والتكامل الفني المتقن وغير المباشر، بحيث تحظى الدراما والمسلسلات الدرامية باحترام ومصداقية المشاهد، ورفض المسلسلات الرمضانية أو بالأصح الوعكات الرمضانية الموسمية شكلاً ومضموناً تلك المسلسلات التي تحمل كل معاني ومضامين الإسفاف والابتذال والانحدار الفني الموضوعي وصورة التاجر الجشع الذي لا يكترث إلا بمقدار الربح المادي بعيداً عن الضمير الإنساني والالتزام الأدبي والاخلاقي والوطني.
تلك المسلسلات الموسمية الرمضانية الجاثمة كابوساً مرعباً على صدورنا وعقولنا ومشاعرنا وتذوقنا الجمالي لم تكن لتجد طريقها إلينا لولا الاعتماد الكلي والدعم السخي من الجهات الرسمية المشاركة الفعلية في تدمير أرواحنا ومشاعرنا وتذوقنا الجمالي.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

أترك تعليقاً

التعليقات