بين أمريكا الأمس وعالم اليوم!
 

مطهر الأشموري

مطهـر الأشموري / لا ميديا -
في واحد من أكثر التحوّلات الاستراتيجية غير المتوقعة خلال العقود الأخيرة، فرض أنصار الله في اليمن واقعاً جديداً على خريطة الملاحة الدولية، وبخاصة في البحر الأحمر وباب المندب، عبر أدوات عسكرية غير تقليدية ومنهجية صراعية تقوم على الجمع بين الردع الثابت والضغط المرحلي الموجّه. هذا التحوّل لم يقتصر على المعطى العسكري، بل امتد ليشكّل إعادة تعريف للهندسة الجيوسياسية في المنطقة، وأسفر عن إرباك غير مسبوق في مراكز اتخاذ القرار داخل الولايات المتحدة، وأدى في نهاية المطاف إلى رضوخ أمريكي لشروط صنعاء الثورية، مقابل تعليق الهجمات على المصالح الأمريكية فقط، مع الإبقاء على وتيرة الهجمات المتصاعدة ضد الكيان الصهيوني، الذي بات يتلقى الضربات بشكل منفصل ومنهجي باستخدام صواريخ فرط صوتية.
خلال ما عُرفت بـ"الحرب الباردة" فإن ما جرى في الأمم المتحدة، ومجلس الأمن تحديداً، كان صراعاً داخل النظام الدولي، وهو في الوقت ذاته صراع على النظام، ولهذا فإن انهيار الاتحاد السوفييتي جعل أمريكا تتعامل مع هذا النظام الدولي كتابع حصري لها، أو بين أدوات تحقيق كل وأعلى ما تريد من المصالح.
روسيا أمضت فترة غير قصيرة لإعادة بناء ذاتها، والصين بطريقتها انطلقت، وبدأ العالم يستعيد توازنه أمام الهيمنة الأمريكية، التي استعبدت العالم أو فرضت سقوفاً للعبودية على مستوى العالم، وبالتالي فإن قرار روسيا استعادة أسس ومعايير أمنها القومي ومواجهة أمريكا والغرب في أوكرانيا هو بمثابة قرار تمرد على الهيمنة الاستثنائية الأمريكية. والانطلاقة العملاقة للصين وربط ذلك بحقها في توحيد الصين واستعادة "تايوان" هو كذلك تمرد رافض لاستمرار الهيمنة الاستثنائية الأمريكية ويطالب برد الاعتبار للقانون الدولي وبإعادة كافة الصلاحيات للأمم المتحدة، ويرفض رفضاً قاطعاً العقوبات الأحادية أمريكياً في العالم، باعتبار ذلك تعطيلاً للأمم المتحدة وسلباً لصلب دورها وصلاحيتها.
ولهذا فالتعامل مع المشكلة الأوكرانية هو خيار أمر واقع لأمريكا، وربطه بـ"ترامب" هو حاجية أمريكية، لتبرير تغيّر الموقف الأمريكي تجاه هذه المسألة.
بين ما يُقال وما يطرح إزاء ذلك هو أن أمريكا تريد تفكيك التقارب الصيني ـ الروسي، وذلك بين الاحتمالات الجائزة. ولكن هذه ليست مشكلة العالم من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ما يعيشه العالم من تفاعلات ومتغيرات يحتاج إلى رؤى أعمق وتعامل للحيلولة دون السير إلى ما هو أخطر على العالم.
فكرة إحلال التباعد بين روسيا والصين بدلاً من التقارب، أو تفكيك تحالفهما الاستراتيجي، كما يُطرح، باتت من الأفكار والتفكير الماضوي، أمام وقع وإيقاع العالم مع المتغيرات، ولم يعد بمقدورها معالجة واحدة من مشاكل العالم، وبالتالي لن ينتظر لقياس ومردود هذه الاحتمالية.
المشكلة الأوكرانية تقدم المثل؛ لأن ترامب ظل يكرر ويؤكد أنه حين يصل إلى الرئاسة سيحل هذه المشكلة خلال 24 ساعة.
ولهذا فمشكلة العالم ببساطة هي أمريكا؛ كونها تستجر فترة هيمنتها الاستثنائية -وقد ولت- للتعامل على قواعدها ومعاييرها مع العالم، وبالتالي فهي واقعياً وفعلياً ترفض دور الأمم المتحدة وصلاحيتها التي يتضمنها ميثاق تأسيس هذه المنظومة الدولية. وبالتالي فروسيا ليست المشكلة الأوكرانية، هي كل مشاكلها، وترامب هذا لا يستطيع إقناع روسيا بتقبل إلغاء صلاحية الأمم المتحدة أو تهميش دورها باستمرار العقوبات الأمريكية الأحادية، حتى لو كان ترامب قادراً على حل المشكلة الأوكرانية بكل شروط روسيا. ولعل أهم مبدأ تصر عليه روسيا هو التعددية القطبية، وعدم تجزئة الأمن في العالم. وبالتالي لم يعد أحد في هذا العالم يفكر بطريقة دق إسفين بين الصين وروسيا، وفرض العقوبات الأحادية كبديل للأمم المتحدة والقانون الدولي غير أمريكا، فيما لم يعد أحد في العالم يتصور أن التاريخ وأن العالم سيعود للوراء ربطاً بأطماع أمريكا الاستعمارية.
كل الشعارات الأمريكية كاذبة ومخادعة، ولذلك فأمريكا ليست غير الاستعمار الجديد الامتداد للاستعمار القديم، وبات يعينها الاقتناع الكامل والنهائي بنهاية وانتهاء الاستعمار القديم والجديد معاً. وأمريكا في كل ما تمارسه لا تريد التخلي عن الاستعمار، ولا تستطيع العيش كدولة غير استعمارية. ومثلما بريطانيا والاستعمار القديم اقتنعت بالتخلي عن الاستعمار، فإن على أمريكا أن تتعايش مع العالم من أرضية هذه القناعة والوعي.
كل ألعاب أمريكا لم تعد تفيد أو تجدي لإبقاء استعمارها، وبالتالي فالأفضل لأمريكا أن تقتنع؛ لأنها ستصل إلى اضطرار التخلي عن الاستعمار كما بريطانيا والاستعمار القديم.
ما دام الاستعمار استمر بمده وامتداده الأمريكي، فالطبيعي تعطيل فاعلية الأمم المتحدة ومصادرة صلاحيتها، وفرض قواعد الألعاب الأمريكية الاستعمارية على العالم، وبالتالي فإن التخلي النهائي عن الاستعمار هو ما سيحقق العالم المتعدد الأقطاب الأكثر عدلاً، وهو ما يعيد للأمم المتحدة اعتباريتها. وتلك هي قضية ومشكلة هذا العالم القائم أساساً.
من الواضح بعد كل هذا أن كل ألعاب أمريكا باتت ماضوية، ولم تعد تصدق أو حتى تمرر على العالم. وما مارسه بايدن في أوكرانيا هو لعبة أمريكية، كما ما يُمارسه ترامب هو لعبة أمريكية.
أن تكون روسيا هي عدو أمريكا الأول "بايدنياً"، أو تكون الصين هي عدو أمريكا الأول "ترامبياً"، فكلها ألعاب أمريكية، وبات المضحك المبكي أمريكياً حكاية دق الإسفين بين روسيا والصين، وكأن العالم يقول لأمريكا: "انتي فين والعالم فين".
الطريف أن أمريكا تعترف بأن اليمن خلال عدوانها عليه كشف لها أن الطائرات المسيّرة والصواريخ أنهت جبروتها العسكري، وأنهت أهم أسلحتها التي كانت تمارس بها إرهاب العالم.
كيف لأمريكا بعد مثل هذا الاعتراف أن تظل في إرادة وتفعيل ذاتها كقوة استعمارية هي الحاضرة فوق كل قدراتها في الزيف والتزييف والخداع؟!
في مخزون الأمثلة اليمنية مثل يقول: "إذا المتكلم مجنون فالمستمع عاقل". وكون أمريكا مازالت تفكر بدق إسفين... وهلم جرا، فهي مجنونة بكل تأكيد وبكل المؤكدات، وزعامة الثنائي "بايدن ـ ترامب" لم تعد تقدم بوضوح غير الجنون والمجون الأمريكي.
إذا رئيس أمريكي سابق (ريغان) رفع شعار "حرب النجوم"، فها هو الحالي (ترامب) يرفع شعار "حرب الفضاء" ويتحدث عن قبته الذهبية.
أمريكا، التي لم تكن مؤهلة لما سمتها "حرب النجوم"، ليست مؤهلة كذلك لما تسمى "حرب الفضاء". ومع ذلك ستظل تكذب، والفارق هو أنها في الماضي كانت تكذب ليصدقها العالم، فيما باتت الآن تكذب لتصدق نفسها، وليس أكثر.
أخيراً، يعنينا توضيح أن ما مُورس في فترة الهيمنة الاستثنائية الأمريكية، مثل "شريعة الغاب"، وبتفعيل قوة كمحصلة تلقائية لصراع الحرب الباردة، هو تجسيد لوضع وتموضع قوة، وليس من ذكاء أو عبقرية للأمريكيين ونحو ذلك.
ولأن هذا الوضع والتموضع الاستثنائي للقوة ولى ولم ولن يعود، فليس أمام أمريكا سوى الاندماج والتعايش والتعامل مع الواقع والوضع العالمي الجديد. وإذا لم تقبل طوعاً، فإنها ستصل إلى القبول اضطراراً وقسراً، وذلك ستكون أثمانه وتداعياته كثيرة وتلحق أضراراً بعيدة وعميقة على مستقبل أمريكا. فهل باتت أمريكا تعي مدى التخبط الذي تسير فيه، والذي بات يُسيّر أمريكا أكثر مما هي تُسيّره؟!

أترك تعليقاً

التعليقات