لَيّ ذراع التاريخ
 

هيثم خزعل

هيثم خزعل - كاتب لبناني -

"في بداية التسعينيات، بعد أزمةٍ اقتصاديّة، استنتج الفريق اللبناني - السوري الحاكم أنّه قادرٌ على إمساك البلد سياسياً وعسكرياً، ولكنّه لا يملك خطّةً لتسيير اقتصاده وجلب الاستثمارات من الخارج لإعادة الإعمار ومنع الانهيار. كانت الفكرة أن "يوكَل" الاقتصاد إلى شخصيّةٍ مختصّةٍ، خبيرةٍ ناجحة، تعرف كيف تبني نموذجاً حديثاً يصبح لمرحلة ما بعد الحرب. وكان اسم هذا الشخص: رفيق الحريري".
ينهي عامر محسن مقالته في "الأخبار اليوم" بهذه الفقرة التهكمية. وهي بالمناسبة مغالطة واختزال تاريخي للحظة تأسيسية في تاريخ لبنان الحديث.
رفيق الحريري لم يكن خيارا أتى بعد أزمة اقتصادية. الأزمة المفتعلة حينها كانت بمثابة سجادة حمراء قدم عليها الرجل للرأي العام اللبناني بصفته نتاجا لتحسين شروط التسوية مع الأميركي في الإقليم فرضه العقل الاستراتيجي للقيادة السورية من خلال إسقاط مشروع انزياح لبنان بشكل كلي إلى الحضن "الإسرائيلي" باغتيال بشير الجميل وتفجير مقر المارينز.
مهدت للرجل جرافات شركة "أوجيه" التي كانت تعمل على إزالة ركام معارك بيروت قبل نهاية الحرب والمنح الجامعية التي قدمته للرأي العام كثري من أصحاب الأيادي البيضاء.
بالعودة إلى مطلع التسعينيات، هذا التاريخ هو تاريخ فاصل على مستوى العالم والإقليم. هو تاريخ تثبيت الولايات المتحدة لقواعدها في الخليج (حرب الخليج الأولى) وسقوط الاتحاد السوفياتي، وانطلاقة مشروع "السلام مع إسرائيل" الذي حملته أميركا. لم يكن الإتيان بالحريري على رأس السلطة التنفيذية في لبنان وترويج خطته لإعادة الإعمار إلا تعبيرا عن موازين القوى في العالم والإقليم والتي استقرت بشكل كلي لصالح تيار الـ"99% من أوراق المنطقة في أيدي أميركا".
بخروج مصر من معادلة الصراع مع "إسرائيل"، والتحاق قيادة منظمة التحرير برهان التسوية والسلام، ظلت سوريا محافظة على ثوابتها الوطنية، ومنعت سقوط لبنان، واحتضنت قادة الفصائل الفلسطينية المناوئة لعرفات، مستفيدة من غطاء دولي وفره لها الاتحاد السوفياتي. التسوية التي أنهت الحرب الأهلية في لبنان كانت تسوية سورية أميركية ضمنت سوريا من خلالها مكسبين أساسيين: إزاحة أي تهديد لأمنها القومي من بوابة خاصرتها اللبنانية الرخوة، ومنع لبنان من الذهاب منفردا إلى مفاوضات السلام مع "إسرائيل" (وحدة المصير والمسار).
ضمن هذا المسار جيء بشخص الحريري كنتاج للتسوية العاكسة لموازين القوى، بصفته الحصة الأميركية- السعودية في التسوية التي أنهت الحرب الأهلية، وبرعاية مباشرة من التيار التسووي الأميركي الهوى في القيادة السورية (الثلاثي خدام-كنعان-الشهابي)، وليس كخيار اقتصادي للفريق السوري اللبناني الحاكم (مع التحفظ على هذا التوصيف ولا مجال للتوسع هنا في هذه النقطة).
كتبنا ما تقدم لتوضيح التالي:
أنت لا تستطيع لي ذراع التاريخ والعبث به في سبيل تدعيم نظري لمقال مبني على منهجية خاطئة فحواها اعتبار لبنان وحدة تحليل مستقلة ومعزولة. كما أنك في سبيل تفسير إعادة إنتاج علاقات القوة داخل المجتمع لا يمكنك فصل زعماء الطوائف عن جذورهم الاجتماعية واعتبارهم "طبقة حاكمة" تارة، وطورا "طبقات حاكمة" سياسية مالية أو ما اصطلح على وصفه منذ بداية الأزمة بالأوليغارشيا. كيف يمكنك أن تفسر استمرارية آل جنبلاط منذ ما قبل نشأة الكيان إلى يومنا وتقلبهم من كونهم إقطاعيين إلى مؤسسي حزب واحتكارات وحصص في مصارف وتقلب تبعيتهم من التركي إلى البريطاني والسوري والأميركي، إلا باعتباره استمرارية للقرابة الدرزية في تكيفها مع المعطى الخارجي بحثا عن الريع والحماية؟ وقس على ذلك.
وكيف يمكنك تفسير بروز قوى ممثلة لطوائف كبيرة، كأمل والمستقبل والتيار، سوى بتعطل الإقطاع التقليدي كقناة لتوزيع الريع مع زيادة التعداد السكاني للقرابات اللبنانية؟
لا يمكن استخدام العدة النظرية الغربية الحداثية في مقاربة مجتمعات مأزومة، بنيتها الاجتماعية سابقة على الرأسمالية، احتكت بالرأسمالية واستتبعت فأنتجت نمطا مشوها منها. تكيفت هذه البنى في هذا النمط كي تضمن استمراريتها، فأضحت مثلا العصبية اليزبكية "حزبا ديمقراطيا" و"بنكا للموارد". 
إن كنت تحذر من إعادة تكوين "منظومة القوة" كما تسميها، فلهذه المنظومة جذور اجتماعية لا ترى من منظار المناهج الحديثة الدارسة للمجتمعات الرأسمالية وهي مكمن قوتها الحقيقي.

* كاتب لبناني.

أترك تعليقاً

التعليقات