المتذمر والحكيم
 

عبدالملك سام

عبدالملك سام / #لا_ميديا -

كنت جالسا "كافي خيري وشري" كما يقال، عندما دخل ذلك الرجل المسن إلى المكتب.. كان من النوع الذي يبدو أنه قد يتعارك مع قدميه في أية لحظة، أي أنني سأسمع الكثير من التذمر إذا ما فتحت فمي، لذلك قررت أن أسكت مهما كان الكلام مستفزا.
سألني أين يمكن أن يجد فلان، فرددت بأدب جم بأنه يتسكع في مكان ما.. عندها - كما توقعت - فتح الرجل فمه بأقبح العبارات منتقدا ما وصلنا إليه من التسيب والإهمال بسبب "الحوثي" طبعا! فوجدت نفسي أرد وقد نسيت أني عاهدت نفسي على السكوت لكي لا أتورط في حوار غير مجد.. وما هي إلا بضع كلمات حاولت أن أشرح فيها للرجل الكبير أن كل الموظفين مازالوا هم لم يتغيروا من أيام النظام السابق، وأنه لم تتح فرصة بعد للثورة أن تقوم بأي تغيير... فجأة قاطعني ليصب جام غضبه علي، طالما وأنا منهم، باعتباري موظفاً قديماً!
تحدثنا لمدة نصف ساعة تقريبا رغم أن الرجل كان يبدو مستعجلا! لقد وجد مغفلا ليقوم بسلخه حتى يشعر بأنه أدى ما عليه، كما أنه بالتأكيد سيذكر لأصدقائه متفاخرا عندما يجتمعون لاحقاً كيف أنه أهان أحد الحوثيين اليوم! ورغم أني أكدت للرجل - بأدب واحترام - أننا كلنا نريد أن ينتهي هذا التسيب والفساد، إلا أنه لم يكن يريد أن يخرجني من دائرة الاتهام، لذا فقد راح يحدثني مستخدما كلمات من نوع "أنتم، كلكم، عليكم… الخ".
ظللت أصغي بعد أن عجزت عن مجاراة هذا الرجل المسن لسببين، أولهما أني خفت عليه من أن يصاب بجلطة دموية لأني وجدته محمر الوجه وهو يتحدث بصوت عال وقد تجمع اللعاب اللزج بجانبي فمه. أما السبب الثاني فإنه كان يلجأ إلى السباب، الذي لم أسمع مثله طوال حياتي، كلما وجد نفسه في وضع المهزوم وضعيف الحجة، فمن كان يدافع عنهم كانوا الأسوأ دون منازع، وكانت كل مبرراته واهنة وتصطدم بالمنطق السليم.. لذا لم أجد بداً من أن أسكت وأسمع محاضرة طويلة مليئة بالكثير من التناقضات، راجياً أن ينتهي كل هذا.
وجاءت النجدة أخيرا عندما دخل المكتب مسن آخر ليرحمني من هذا العذاب، لقد استمع لكلمات الرجل وهو مبتسم وكان يضحك أحيانا حتى ظننت أنني سأضطر لأن أسمع كلاما من الاثنين بدل أن كان واحداً فقط.. كان القادم يومئ برأسه ليشجع الرجل على الانتهاء، ثم إنه بحنكة كان يوجه للرجل أسئلة جعلته يتلعثم وينصت، تحدث إليه عن أساليب النظام السابق غير الإنسانية والتي عانى هو شخصيا منها، وتحدث إليه أن ما ينعم به من حرية وكرامة هي نتاج ثورة 21 أيلول الشعبية، ووافقه في أن الوضع صعب، ولكنه سأله عن الذي وضعنا في هذا الوضع الصعب؟ ثم شرح له أن العدوان ومرتزقته هم المسؤولون عن ذلك، وكانت الخاتمة سؤالاً كدت أصفق للرجل الحكيم على براعته عندما سأله من أية منطقة هو، تلعثم الرجل ثم أجاب بأنه من محافظة تعز وقد نزح إلى صنعاء! فسأله عن السبب فأخبره بأنه هرب مع أسرته من الاقتتال الدامي وانعدام الأمن! هنا تكلم الرجل الحكيم بأن الأحرى به أن يشكر "الحوثيين" لأنهم حافظوا على الأمن، وإلا لما كان سيجد مكانا آمنا يفر إليه، وبأن الأوضاع الصعبة التي نعاني منها هي نتاج محاولة دول الاحتلال ومرتزقتها خنق الشعب ليستسلم لهم، والنتيجة ستكون وخيمة على الجميع كما نرى في تلك المناطق المحتلة.
إلى هنا سكت الرجل المسن الغاضب، وليبعد عنه الحرج غيّر الموضوع، وتكلم باقتضاب ثم رحل، أما أنا فكنت أبتسم في وجه الشيخ الحكيم الذي عرفت أنه من منطقة أرحب.. فعلا هؤلاء الكبار الأعزاء يتمتعون بحنكة وثقافة لم نتعلمها نحن في أكبر الجامعات، بلد الحكمة والإيمان.. سألني عما جاء من أجله، ثم غادر.. أما أنا فكنت مشغول البال وأنا أفكر فعلا أنه لولا العدوان والحصار فإن مشاكلنا كلها كانت ستحل، وكان الناس سيشعرون بالتغيير فعلا، ولكن أيضا لا ننسى أنه بفضل هذا العدوان والحصار استطعنا أن ننظف ساحتنا الداخلية من كل الفاسدين ومصاصي الدماء الذين عانينا منهم لعقود.. الغد أجمل بإذن الله بعد أن ننتصر وينزاح هذا الكابوس، ولن يبقى هناك ما نختلف عليه بالتأكيد.

أترك تعليقاً

التعليقات