شارل أبي نادر

شارل أبي نادر / لا ميديا -
عندما تكلم رئيس حكومة العدو، يائير لابيد، مباشرة بعد إنجاز ترتيبات إخراج وثيقة تعيين الحدود البحرية، زعم أنه استطاع "انتزاع اعتراف لبناني" بما سماه "دولة إسرائيل" (الكيان الغاصب)، كما ادعى. لكنه لم يكن يتوجّه بهذا الزعم إلى اللبنانيين؛ لأنه يعلم جيداً أن هؤلاء اللبنانيين المؤيدين للمقاومة أو حتى غير المؤيدين لها يعلمون جيداً أن لبنان (الدولة والمقاومة) لم ولن يعترف بكيانه الغاصب، وأنه يضع نصب عينيه وبكل إمكانياته هدفاً استراتيجياً يعمل عليه، وهو: إنهاء وجود كيانه الغاصب من المنطقة.
في الواقع، لقد توجه لابيد في ادعائه هذا إلى الداخل "الإسرائيلي" بشكل عام، وإلى المعارضة بقيادة نتنياهو بشكل خاص، والتي تعمل على مراكمة النقاط التي سوف تستغلها لاستهدافه (استهداف لابيد) في الانتخابات الفاصلة التي أصبحت على الأبواب. والسبب في هذا التوجه للداخل هو أن لابيد يعلم جيداً أن نقطة الضعف التي يمكن أن تتسلل منها المعارضة هي النجاح في إقناع الناخبين "الإسرائيليين" بأنه استسلم لمعادلة كاريش وما بعد بعد كاريش، والتزم بمطالب لبنان كاملة، تحت تهديد مسيّرات وصواريخ حزب الله، وأنه بتحقق هذا الاقتناع لدى نسبة غير بسيطة من "الناخبين"، سوف يخسر الانتخابات ويربح نتنياهو.
عملياً، يمكن استنتاج ذلك من مضمون وأبعاد بعض ما أشار إليه أمين عام حزب الله، سماحة السيد حسن نصر الله، خلال خطابه الأخير، في معرض كلامه المفصل عن مراحل وتفاصيل تعيين الحدود البحرية للبنان، وذلك لناحية النقطة التي تعمل أو تحاول أن تستغلها المعارضة "الإسرائيلية" اليوم بوجه لابيد، وهي صحيحة بشكل كامل. ويعلم الأخير جيداً أن هذه النقطة هي صحيحة، وأنه مهما حاول تبرير ونكران استسلامه والتزامه بمطالب لبنان نتيجة الخوف من حزب الله، فإن الناخبين "الإسرائيليين" ليسوا أغبياء، وقد لمسوا هذا الخوف وهذا التنازل. ولكن، ما يهم لابيد ونتنياهو وكل الأطراف السياسية الصهيوينة والناخبين "الإسرائيليين" بمختلف توجهاتهم هو شيء آخر مختلف بالكامل عن المفاعيل الفعلية، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، والتي حققتها وستحققها "إسرائيل" بعد انطلاق عملية استخراج الغاز من كاريش، أو المفاعيل الدولية التي أمّنت لها استقراراً بالعلاقة مع الغرب المتعطش حالياً لأي مصدر طاقة من أي جهة كانت، والتي أراحت الغرب المتوجّس بالوقت نفسه من حدوث أية مواجهة جانبية تشتت تركيزه عن مواجهة روسيا في أوكرانيا.
وهذا العامل المختلف، الذي يهم كل الداخل الصهيوني، يختلف أيضاً عما يفترض أن يحققه لبنان مبدئياً من هذه الاتفاقية، من بدء مسار استقرار مالي وسياسي واجتماعي، ومن نجاح في إعادة بعض التوازن إلى علاقته بالمجتمع الدولي الذي كان يحاصره ويضغط عليه، لأسباب أغلبها تتعلق بموقفه من "إسرائيل".
هذا العامل المهم للكيان برمته، وللبنان (الدولة والمقاومة) أيضاً، يمكن اختصاره بالنقاط التالية:
من خلال هذا الإنجاز الاستراتيجي للبنان، استطاع لبنان أن يفصل الصراع مع العدو بشكل كامل عن موضوع "تعيين حدود حقول بحرية فيها مكامن غاز"، بحيث يبقى هذا الصراع بكامل معادلاته وقواعد الاشتباك الخاصة به، غير مرتبط بتاتاً بهذا التعيين، وتبقى في مكان آخر مفاعيل معادلات الردع وقواعد الاشتباك الرئيسية التي تحيط بالصراع مع "إسرائيل"، مستقلة ومنعزلة عنها، ولتكون هذه النقطة الحساسة والتي تتعلق بنجاح لبنان في فصل وثيقة تعيين الحدود عن الصراع مع العدو هي مكمن الخسارة "الإسرائيلية"، حيث فشلت "إسرائيل" في مبادلة اعترافها بمطالب لبنان بالسلام أو التطبيع معه، أو حتى بضمانات أمنية حول هدوء وأمان مجرّد ودائم؛ مع التأكيد أن ضمانة تطبيق هذا الاتفاق ترتبط بعنوان المرحلة القادمة الذي حدده السيد نصر الله بأنه "لن يستطيع أن يستمر العدو في استخراج النفط والغاز وبيع النفط والغاز إذا مُنع لبنان من استخراج نفطه وغازه".
وتشكّل هذه وثيقة تعيين الحدود التي فُرضت على الكيان تغييراً مفصلياً في أسس الصراع بين العدو من جهة، وبين المقاومة في لبنان بشكل خاص ومحور المقاومة بشكل عام. بمعنى أن هذا التغيير المفصلي خلق معادلة جديدة في الصراع تقوم على أن لبنان (الدولة والمقاومة) كسر كبرياء "إسرائيل" وهشم غطرستها وأوقف مسار تسلطها. وبعد أن كانت تعتبر أن قدراتها العسكرية والمالية وعلاقاتها الإقليمية والدولية يمكن أن تعطيها جواز مرور لفرض كل ما تريد فرضه، ولرفض كل ما تريد رفضه، وخاصة مع دولة (محاصرة ومنهارة اقتصادياً) مثل لبنان، أصبحت تجد نفسها اليوم في موقف وموقع مختلف أمام كل اشتباك أو إمكانية اشتباك، وخاصة في فلسطين المحتلة بكافة ساحاتها، أو مع لبنان، وأصبحت فعلاً، وبمجرد أن تُهدد بمواجهة محدودة أو بحرب واسعة (وهذا هو مكمن خوف كل الكيان)، أصبحت تخشى خسارة وضياع كل ما دأبت على التمسك به عدواناً، لأنها اقتنعـــت -كمـــا يبــــدو- بأنهــا ستجد نفسها في هـــذه الحـــــرب أو في هذه المواجهة خاسرة وغير قادرة على خوضها.

أترك تعليقاً

التعليقات