شارل أبي نادر

شارل أبي نادر / لا ميديا -
من يتابع اليوم الحراك أو الاشتباك المباشر وغير المباشر بين حزب الله وبين العدو الصهيوني، على خلفية الكثير من ملفات الاشتباك، وخاصة في ملف الترسيم البحري وانتزاع حقوق لبنان في المنطقة المتنازع عليها وفي المناطق الأخرى، يجد أن مستوى هذا الاشتباك أعلى بدرجات من مستوى اشتباك بين كيان أو إخطبوطي بأذرع إقليمية ودولية من جهة، وبين حزب أو مقاومة محلية، تملك الحد الأدنى من القدرات المناسبة لمواجهة هذا العدو - الإخطبوط، من جهة أخرى.
هذا الاشتباك شبه المتوازن تقريباً بين الطرفين، وهذا المستوى من الضغط الذي يمارسه حزب الله، والذي استطاع من خلاله أن يفرض موقفه القوي في ملف الترسيم البحري لصالح لبنان، والذي هو عمليا موقف غير متناسب مع الفارق في القدرات والإمكانات التي يملكها الكيان الصهيوني، يستدعي أولاً: عرض المعطيات التي تترجم هذا التوازن أو الموقف القوي لحزب الله، ويستدعي ثانياً: البحث بجدية وبموضوعية عن الأسباب التي ساهمت بنجاح حزب الله في انتزاع هذه القدرة بمواجهة العدو القوي.
لناحية المعطيات أو الوقائع التي تترجم موقف المقاومة القوي، يمكن تحديد أهمها بالتالي:
إذا حصرنا الآن هذه المعطيات فقط، بما يتعلق بملف الترسيم البحري مع الكيان الصهيوني، والتي تشكل عمليا امتدادا أكيدا لمعطيات متراكمة عن قدرة الردع ومعادلات القوة، والتي فرضها حزب الله خلال مسار طويل من المواجهة، يمكن القول بأن المقاومة استطاعت في هذا الملف (الترسيم)، وعبر مناورة متكاملة ومدروسة ومخططة بدقة وبعناية، إعلامية وسياسية واستعلامية وأمنية وعسكرية أن تعرقل مخططا صهيونياً كاملاً لاستخراج الغاز من بحر فلسطين المحتلة.
وهذه العرقلة التي أصابت مخطط الكيان الصهيوني لاستخراح الغاز، لم تصب فقط المناطق البحرية المتنازع عليها مع لبنان، بل أيضاً أصابت كل الحقول البحرية لفلسطين المحتلة، والتي تتجاوز الخمسة حقول، وتمتد جنوبا حتى حدود فلسطين البحرية مع حدود مصر البحرية، وتمتد أيضاً نحو الغرب حتى حدود قبرص البحرية.
عمليا، وحيث كان الكيان الصهيوني قد وصل إلى نقطة متقدمة من الجهوزية شبه الكاملة للبدء في الاستخراج من كامل البلوكات البحرية، ضمنا من حقل كاريش، بعد أن كان قد سخّر لذلك جهودا ضخمة، وعلى فترة طويلة من العمل المتواصل، مالية وتقنية وعلمية وأمنية، وحتى عسكرية لحماية مناطق العمل، هو اليوم، وبعد أن حاول تجاوز الحقوق اللبنانية، أُجبر على تعليق كامل هذا المسار بضغط وبتهديد من حزب الله، وبطريقة كانت مفاجئة وصادمة له، حيث لم يكن ينتظر أن يجرؤ حزب الله على اتخاذ هذا الموقف، والذي يتجاوز موقف وقدرة حزب، ليصل إلى موقف لا يمكن لأي دولة أن تفرضه، إلا الدول القوية صاحبة القدرات والإمكانات الضخمة.
أيضاً، حساسية وأهمية ما فرضه حزب الله من معادلات بحرية، تجاوزت عرقلة مخطط الكيان الصهيوني في استخراج الغاز، ليصل إلى عرقلة مخطط واشنطن وحلفائها الأوروبيين، لتأمين سريع وقبل الشتاء القادم لغاز بديل عن الغاز الروسي، حيث يرتبط الملفان أو المخططان معاً بشكل كبير وشبه كامل؛ أولاً: لما يمكن أن تؤمنه المناطق البحرية في لبنان وفي فلسطين من كمية غير بسيطة من هذا الغاز البديل، وثانياً: لضرورة وأهمية وجود هدوء وأمن على كامل المناطق البحرية في شرق المتوسط، لكي تعمل الشركات المعنية، بكل سهولة وراحة وأمان، الأمر الذي لن يكون متوفرا حتما في حال حصل الاشتباك البحري، أو غير البحري طبعاً، بين حزب الله وبين الكيان الصهيوني.
فكيف لحزب الله أن يفرض بموقعه وبموقفه هذه العرقلة المزدوجة لملفين، إقليمي ودولي، ومن أهم الملفات التي يعوّل الغرب اليوم عليها بشكل كبير، كعنصر أساسي من عناصر المواجهة الدولية ضد روسيا؟!
لا بد هنا من العودة إلى الأسباب التي استطاع حزب الله من خلالها خلق وفرض هذا الموقف القوي، وبناء وامتلاك هذه الإمكانيات غير المتناسبة أساساً مع حجمه ومع موقعه.
في الواقع، لا يمكن لحزب الله أو لأي جهة أو حزب أو طرف آخر، أن يصل فجأة وبسحر ساحر إلى هذا المستوى غير الطبيعي من القدرات، فمن المنطقي والأكيد والثابت حتما، أن الوصول إلى هذا المستوى من الإمكانيات هو أولاً: نتيجة مسار طويل من الالتزام بمبادئ وبعقيدة وبفكرة المقاومة والمواجهة، ومن الاقتناع الكامل والصادق بضريبة التضحية وبذل الدماء، وثانياً: نتيجة مسار طويل وشاق ومؤلم ومتعب، من السهر ومن العمل الدؤوب في التدريب والتجهيز، وفي تطوير القدرات التكتيكية والتسليحية، عبر الحصول عليها في أصعب الظروف وأخطرها، من المعارك بين الحروب ومسارات الاستهداف الجوي والصاروخي العنيف من العدو، أو عبر تحديثها أو تصنيعها، وفي أصعب الظروف أيضاً، والتي قد تكون أصعب من ظروف نقلها من خارج لبنان وحفظها.
أيضاً، هذا المسار من النجاح، لا يمكن أن يحصل، لا بل من المستحيل أن يتحقق بفترة زمنية قصيرة أو متوسطة، حيث الدول والجيوش الكبرى عادة، ولكي تصل إلى هكذا مستويات، تحتاج لفترة زمنية كبيرة، تتجاوز أحياناً عشرات السنوات، وعبر تسخير جهود ضخمة، مالية وعلمية ومهنية، وفي ظروف داخلية مواتية، غير الظروف التي عاشها حزب الله وما زال وخلال مسيرة طويلة منذ نشأته وحتى اليوم، من الاستهدافات الداخلية والإقليمية والدولية، سياسيا ودبلوماسيا وماليا.
إنها مسيرة الأربعين عاما. إنها بالتحديد الحاضنة الأم لهذا المسار الصاخب والشاق، مسار التضحية والعطاء المخضب بالدماء وبالشهداء، مسار مشبع بالعمل الدؤوب وبالسهر وبالتخطيط وبالصبر وبالالتزام، مسار بناء وفرض الردع الاستراتيجي.

أترك تعليقاً

التعليقات