عدلي عبد القوي العبسي

عدلي العبسي / لا ميديا -
في خلفية كل صراع سياسي تاريخي توجد عوامل عدة، اقتصادية وثقافية وسياسية وجيوسياسية. وفي حالة الجغرافيا العربية ومحيطها الحيوي، كانت الاعتبارات والدوافع الجيوسياسية حاضرة بقوة في خلفية مشهد الصراع العربي مع العدو الاستعماري الغربي، في كل المحطات التاريخية.
وفي اللحظة التاريخية الراهنة، مطلع العقد الثالث من الألفية، أصبحت هذه الدوافع تكتسب أهمية أكبر، وتكتسي وضوحاً أكثر مع تزايد الرغبة في تشديد السيطرة على الممرات المائية والطرق التجارية من قبل دول الغرب الاستعماري، وذلك خشية من امتداد نفوذ دول المعسكر الشرقي الأوراسي العظمى (روسيا والصين) إلى الإقليم، وهي الدول التي قررت المضي في تشكيل نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، نظام يتشارك النفوذ والمصالح الجيوسياسية فيه أقطاب عدة، بحيث يكون للقطب الأوراسي العملاق دور الريادة في تشييده على أسس السلام والتنمية العادلة والتبادل المتكافئ.
ولهذا فهي تسعى إلى أن يكون لها دور محوري في الإشراف والحماية والاستثمار، في كل العقد الحيوية الاقتصادية على طول المسارات المائية والبرية التجارية لطريق الحرير الجديد، بل وتشييد المزيد منها بعيدا عن السيطرة الغربية الاستعمارية، تحقيقاً للتوازن المطلوب، وتجسيدا واقعيا لمبادئ العالم الجديد المتعدد الأقطاب، مع إعطاء أفضلية نسبية مطلوبة في السيطرة على ممرات (غرب آسيا)، لكونه إقليما جغرافيا حيويا مهماً من أقاليم «أوراسيا الكبرى»، وهو الإقليم الذي يمر فيه الجزء الأهم من شريانها الاقتصادي التاريخي الأكبر المسمى «طريق الحرير» (البري والبحري)، على امتداد زمني يصل إلى آلاف السنين.
وهكذا كانت المزايا الجيوسياسية التي تتمتع بها المنطقة الأهم (غرب آسيا) تاريخيا على رأس الأطماع الاستعمارية الغربية، وأكبر دوافع الغزو على مر التاريخ، لكونها تضم أهم المضائق البحرية التجارية العالمية: مضيق باب المندب، مضيق هرمز، ثم لاحقا قناة السويس.
وحكاية مضيق باب المندب مع الأطماع التجارية والغزوات الاستعمارية للدول والإمبراطوريات الكبرى خير شاهد على هذا الصراع الجيوسياسي المتجدد بتبدل الغزاة الغربيين الاستعماريين، وإن كانوا تقريباً من أرومة واحدة وعقلية واحدة وثقافة واحدة. وهي حكاية طويلة مثيرة من حكايا التاريخ، أو قل مهازل التاريخ التي تتكرر دائما ولا تنتهي، منذ أيام السعي الروماني والإغريقي والقبطي للسيطرة على باب المندب والبحر الأحمر، ومحاولات إضعاف الهيمنة اليمنية الحميرية عليه في القرون القليلة التي سبقت وتلت الميلاد، وصولا إلى العصر الوسيط، الذي اشتدت فيه الأطماع والمنافسة، مع ظهور إمبراطوريات كبرى مترامية الأطراف، مدججة بالعتاد والتقدم في تكنولوجيا السلاح وبناء السفن وعلوم البحار.
ونشير هنا تحديدا إلى ساحة الصراع الأهم، وهي الجغرافيا العربية في جنوب العالم العربي، حيث الممرات والمضائق المائية الأهم التي تمثل عصب التجارة العالمية بين الشرق والغرب، وحيث اصطدمت جيوش الإمبراطوريات والممالك المشرقية العربية والإسلامية مع الإمبراطوريات الغربية الاستعمارية الصليبية المتعاقبة.
وسنخصص مقالتنا هذه للحديث بإيجاز عن ملامح الصراع العربي واليمني مع أعتى إمبراطورية غربية استعمارية صليبية في التاريخ الوسيط، وهي الإمبراطورية البرتغالية؛ لكونها تمثل الموجة الاستعمارية الغربية الأولى على منطقتنا، وهي الحركة الاستعمارية الملهمة، والأستاذ التاريخي للإمبراطوريات الغربية الاستعمارية التي جاءت بعدها إلى منطقتنا في سلسلة زيارات الدم والنهب والإذلال والغطرسة، ونقصد بها الإمبراطوريتين البريطانية والأمريكية.
ويكفي أن تقرأ حكاية التاريخ الأسود للإمبراطورية البرتغالية، لتعرف وتفهم طبيعة التقاليد الاستعمارية الراسخة في أذهان أجيال عديدة من الغزاة الهمج المجردين من أي إنسانية أو أخلاق أو أعراف أو قيم دينية حقيقية.
أناس لا تربطهم بالسيد المسيح ومُثله ومبادئه أي رابطة حقيقية، وهم لا يمثلونه وهو لا يمثلهم، وهو بريء منهم ومن أفعالهم الشريرة المخزية.
وهاكم بإيجاز، قصة عدوان ظالم شيطاني أسود تخجل البشرية من تذكر مآسيه وحكاياه المظلمة.
برزت أولى قصص المقاومة العربية الباسلة الكبيرة والصغيرة، تحديدا على طول جزر وسواحل اليمن الطبيعية الكبرى من كمران غربا إلى الساحل الشرقي للخليج العربي الفارسي، وهي الحوادث والبطولات التي تم تهميشها كثيرا في كتب التاريخ!
من يقرأ عن تلك المرحلة التاريخية وصراعاتها وقصصها وبطولاتها ونهاياتها، يتعجب كثيرا، حتى لينطق قائلا والدهشة تملأ وجهه مرددا المثل العربي القائل: «ما أشبه الليلة بالبارحة!»، أو المقولة التاريخية الشهيرة: «التاريخ يعيد نفسه»!
في تلك الفترة التاريخية، تحديدا في النصف الأول من القرن السادس عشر، في جغرافيا اليمن جنوبا عند خليج عدن ومضيق باب المندب، بل وإلى أطراف جغرافيا اليمن الطبيعية (أو اليمن الكبرى) إلى سواحل عُمان والخليج العربي الفارسي، فوجئ العرب والمسلمون واليمانيون باحتشاد هائل لسفن ضخمة، كانت تابعة لإمبراطورية الشيطان الجديدة الصاعدة، وهي الإمبراطورية البرتغالية الاستعمارية الغربية الصليبية الحاقدة، والتي أراد ملكها وقادتها مواصلة مسلسل الحقد والتنكيل بالعرب والمسلمين، بعد تمكنهم من إسقاط الحكم العربي في الأندلس، وأرادوا التحول إلى غزاة فاتحين، ليس باسم الصليب ونقل الرسالة والتبشير، وهو الخداع الظاهري الثقافي الديني التبريري الذي كان يمارس على البلهاء السذج بمباركة بابا الكنيسة الكاثوليكية، وإنما كانت تُحركهم في العلن شهوة السيطرة على تجارة التوابل القادمة من الهند وأطرافها، والتي كانت تدر ذهبا وفضة ويجني التجار والدول والممالك منها أموالا طائلة (وهي التي كانت تعادل في أهميتها أهمية النفط والغاز في عصرنا هذا)، وقد رغب البرتغاليون الغزاة، وبإصرار وحماسة عجيبة، في انتزاعها من قبضة السيطرة العربية الإسلامية، مهما كان الثمن والتضحيات! يقودهم في هذا التحرك الهمجي الاستعماري قائد بحري مغامر ذو خبرة في فنون البحار والقرصنة والغزو، ومتشبع بالحقد على العرب والمسلمين، وممتلئ بشهوات وأطماع للمال لا حدود لها! وهو المدعو «ألفونسو دي ألبوكيرك»، والذي كان الساعد الأيمن لملك البرتغال، وتلقى منه الأوسمة وحاز المزايا العديدة والصلاحيات المطلقة، نظير ما قدمه له من خدمات وهدايا وثروات وأموال مسروقة من ثروة الشعوب المستعمرة.
قرر هذا القائد البحري المغامر القرصان شن معارك التنكيل والإبادة بالسفن والبحارة وكل المقاومين من أبناء المدن والجزر والموانئ على امتداد السواحل البحرية في الأمريكيتين وأفريقيا، ولم يكتفِ بأراضي الغرب والوسط، فراح يتجه شرقا صوب الأراضي والبحار الذهبية المشرقية (آسيا والهند وأرض العرب)، وركز هجومه أكثر على القلب الاستراتيجي لخطوط التجارة، أي على الممرات المائية للسفن في بحر العرب، وخلجان ومضائق الأرض العربية، حيث كان التجار العرب المسلمون المسيطرين على تلك التجارة المتجهة إلى أوروبا عبر أرضهم العربية. ولأن البضائع كانت تصل إلى أوروبا مرتفعة الثمن، بعد سلسلة من الاستقطاعات الجمركية على امتداد منطقة الأرض العربية، يمكنك أن تفهم السبب المباشر والدافع الاقتصادي المباشر وراء هذا التحرك الاستعماري، حيث كانت الرغبة الاستعمارية في السيطرة على منابع الثروة مجانا وبدون تكاليف، والاستحواذ عليها تماما، ومنع العرب والمسلمين من الانتفاع بها بأي شكل من الأشكال!
كان هدف الغزاة الصليبيين المستعمرين -إذن- هو شن الحرب الاقتصادية والجيوسياسية ضد الدول والممالك العربية والإسلامية، وتحقيق السيطرة والنفوذ العالمي على البحار والممرات والسواحل والجزر، في كل ما يقع على طريق التوابل وطريق الحرير البحري الناقل لتلك البضائع الثمينة المتنوعة من توابل وحرير وعاج وخيول... إلخ.
هذا التحول الجيوسياسي الذي طرأ في جغرافيا المحيطات والبحار الثمينة والسواحل والموانئ والجزر الاستراتيجية لم يحدث إلا بعد أن شهدت الأرض الأوروبية الغربية، بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حدثين تاريخيين مهمين، هما: صعود القوة البرتغالية البحرية الكبيرة غرباً في مقابل صعود دولة العثمانيين واستيلائهم على القسطنطينية شرقاً، وبدء حركة الكشوف الجغرافية في مطلع القرن السادس عشر وما أحدثته من انقلاب جيوسياسي كبير في العالم أجمع.
رأينا بعدها كيف تحولت البرتغال إلى دولة بحرية عظمى، وتمكنت من بناء قوة بحرية كبيرة، بعد أن اكتشف ملاحوها طريقاً جديدة إلى الهند عبر رأس الرجاء الصالح، وأشهرهم هنري الملاح ومن بعده فاسكو داجاما.
وكان هذا الكشف الجغرافي الهام هو رد الفعل التاريخي على سقوط القسطنطينية المسيحية (عاصمة بيزنطة) بأيدي العثمانيين الأتراك المسلمين، وهو الحدث الذي حرك وحفز الغضب لدى العالم المسيحي ككل والآيبيري تحديداً، فالأتراك المسلمون أخضعوا بيزنطة، والعرب يتحكمون في التجارة العالمية، وهذا ما فتح شهيتهم انتقاما وطمعا بالسيطرة على الطرق المائية التجارية ما بين الشرق (الهند وإندونيسيا والصين) وأوروبا عبر البلاد العربية، والسيطرة على المضائق المائية ذات المواقع الاستراتيجية الجيوسياسية المهمة، التي تعبر منها سفن المشرق إلى أوروبا.
وكما أشرنا من قبل، هناك ممران: الممر الشرقي، وهو مضيق هرمز الذي يفتح إلى الخليج العربي - البصرة - تركيا وبلاد الشام ثم إلى أوروبا؛ والممر الثاني الغربي، باتجاه خليج عدن - مضيق باب المندب الذي يقع عند مدخل البحر الأحمر وصولاً إلى البر المصري ثم إلى ميناء الإسكندرية.
وكان غرضهم الأساس من ذلك -كما أسلفنا- هو الاستحواذ بالكامل على الطرق التجارية في المحيط الهندي والعالم العربي، والتحكم بالسفن التجارية المحملة بالتوابل والحرير والعاج والخيول وغيرها من البضائع، فقرروا السيطرة على هذه الممرات المائية وخنق العالم العربي تجاريا وتدمير ممالكه اقتصاديا!
فحركوا أساطيلهم البحرية الضخمة التي تحوي تلك السفن الحربية الكبيرة الحجم المدججة بالعتاد والتكنولوجيا وغير المألوفة من قبل، وسيطروا على أجزاء من ساحل الهند الغربي (غوا وماليبار) وبحر العرب وجزيرة سقطرى وموانئ خليج عُمان ومملكة هرمز العربية وبعض موانئ الخليج العربي.
وتحكموا بحركة السفن التجارية، وفرضوا عليها إتاوات، وقتلوا البحارة العرب والهنود وغيرهم، ونهبوا البضائع وفرضوا حالة من الرعب الرهيب، وأذلوا الشعوب المشرقية والجنوبية إذلالا شديدا، ولعلهم كانوا الأكثر بشاعة في العصر الوسيط من بين كل أصناف الغزاة الغربيين، وفشلوا في السيطرة على البحرين والبصرة، ودخلوا في فترات هدنة وصراع مع الإمبراطورية الفارسية الصفوية، لكنهم نجحوا في السيطرة على الخليج العربي، من خلال سيطرتهم على مملكة هرمز العربية، وتحكمهم بجزيرة هرمز وموانئ عُمان والخليج.
أما في الممر الغربي، المتمثل في خليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر، فقد أخفقوا إخفاقاً ذريعاً في السيطرة على عدن، التي هي في لغة التجارة والجيوسياسة: أهم مدينة في العالم ومحط أطماع كل الغزاة الإمبراطوريين عبر التاريخ، وذلك لكونها صاحبة أهم موقع استراتيجي في العالم، لوقوعها على مقربة من مدخل البحر الأحمر، وهو ميناء يمتاز بخصائص جغرافية طبيعية ملائمة لرسو السفن والتموين.
ركز البرتغاليون أنظارهم على ميناء عدن، الذي كان خاضعاً لحكم الدولة الطاهرية، وشنوا ست حملات عسكرية فاشلة، وفشلوا في الاستيلاء أيضا على ميناء الشحر، الذي كان يزود المقاومة اليمنية في عدن بالتموينات الضرورية، بعد معركة دامية مع الأهالي والمقاومة امتدت لثلاثة أيام، اضطروا بعدها إلى الانسحاب مخلفين وراءهم مذبحة بشرية رهيبة، وسبعة شهداء عظام من قادة المنطقة فيما سمي بمعركة الشحر، وهو يوم خالد من أيام التاريخ النضالي اليمني ظل ملهماً لأجيال عدة من أبناء الشعب اليمني، وفشلوا أيضا في السيطرة على باب المندب والبحر الأحمر، بفعل تصدي الحملة العسكرية المصرية المملوكية لهم، بقيادة القائد حسين الكردي في عهد السلطان قانصوه الغوري.
شهدت اليمن الطاهرية بعد ذلك فترات من التقلب والخذلان والمهادنة مع البرتغاليين، وكان تركيز حكامها وقادتها على الصراع مع الأئمة الزيديين في الشمال آنذاك، ورفضهم التعاون مع المماليك المصريين في دحر العدو البرتغالي، وذلك على حساب يقظتها المطلوبة لمواجهة العدو الأجنبي المستعمر الغازي، بمعنى أنهم فضلوا قتال الإخوة اليمنيين وخذلان الجيش المصري المملوكي على قتال الأجانب الغزاة الطامعين، للأسف الشديد، وكل هذا كان بسبب غياب بعد النظر لديهم، وضعف الوعي السياسي، وعدم إدراكهم لحقيقة الأطماع الغربية الاستعمارية الصليبية، وعدم استيعابهم لمدى خطورة تلك التحركات والمطامع الجيوسياسية الاستعمارية في موانئ اليمن وجزره وسواحله ومضيقه الشهير باب المندب!!
لذلك فإن الطاهريين قد انحدروا في مهاوي الهلاك وانهيار دولتهم القوية، التي كانت تحكم أغلب أرجاء اليمن، حتى حدث لاحقا أن تم دحرهم نهائيا من المنطقة بعد الغزو العثماني التركي لليمن، الذي تذرع بأن الطاهريين، حكام جنوب ووسط وشرق اليمن، لم يعودوا أهلاً لحماية ديار العرب والمسلمين الجنوبية، وحماية الأرض المقدسة في مكة والمدينة من الخطر الاستعماري الصليبي البرتغالي الغشوم.
واستمرت هيمنة البرتغاليين بعد ذلك على سواحل الهند الغربية والمحيط الهندي وبحر العرب وخليج عُمان والخليج العربي وسواحل أفريقيا الشرقية والغربية ما يقارب المائة عام، إلى أن تمكن الصفويون الفرس من طردهم من منطقة الخليج العربي، وتمكن العثمانيون الأتراك أيضا من طردهم من خليج عدن والبحر الأحمر، ثم بعد ذلك تعرض جيشهم مع جيوش أوروبية أخرى لهزيمة كبيرة من الجيش العربي المغربي بمساعدة من العثمانيين الأتراك بقيادة حاكم المغرب الشريف الهاشمي السلطان (عبد الملك السعدي)، في المعركة التاريخية الشهيرة المسماة معركة «وادي المخازن» أو «موقعة الملوك الثلاثة»، وهو الحدث التاريخي الكبير الذي تسبب في القضاء على الإمبراطورية البرتغالية، وطي صفحة فترة مظلمة ساد فيها نشاط استعماري صليبي غربي حاقد على بلدان المشرق الأقصى والأوسط.
ويسجل التاريخ للأشراف السعديين في المغرب تمكنهم من تدمير الإمبراطورية البرتغالية، والقضاء على جيشها تماما، بعد سلسلة طويلة من معارك المقاومة البطولية ضدها في مياه وسواحل المغرب، وتمكنوا من تحرير سبتة وطنجة وأصيلة وغيرها من المدن الساحلية، وبهذا أراحوا المشرق العربي والمغربي العربي معاً، بل والعالم الإسلامي أجمع، من طغيان تلك الإمبراطورية الشريرة.

أترك تعليقاً

التعليقات