عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبد القوي العبسي / لا ميديا -
الصين وروسيا وحلفاؤهما يسعون الآن إلى تشكيل تكتل عالمي جديد من أجل السلم والتقدم وحرية الشعوب، في لحظة تاريخية هي حقاً لحظة مفصلية لتأسيس نظام عالمي جديد، وهو تأسيس يجري باقتدار وإبداع نضالي مدهش تقدره وتحترمه جميع شعوب المعمورة، التي باتت تثق في قيادة روسيا والصين، وترى فيهما الآن بمثابة المثال والنموذج للدولة المقاومة في وجه آلة الهيمنة والغطرسة والتنمر الاستعماري الغربي.
يحتاج هذا التأسيس قبلاً إلى خوض غمار معارك جيوسياسية في الإقليم الأوراسي والعالم، وتنفيذ سلسلة من العمليات العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية تحقق مفهوم الأمن الجيوسياسي الشامل أثناء معركتها العسكرية الراهنة من أجل الحفاظ على أمنها، والتي تمثل أيضاً المسمار الأخير في نعش الهيمنة الأمريكية على العالم.
بإمكان روسيا استخدام ثقلها وأهميتها في فرض العقوبات وإحداث أزمات للدول المعادية؛ لأنها دولة مهمة تنتج وتصدر منتجات للعالم أجمع في قطاعات حيوية هامة، فهي تنتج وتصدر الطاقة (النفط والغاز والفحم)، وتنتج وتصدر معادن ثمينة أهمها اليورانيوم المخصب والنيكل والماس، وتصدر الغازات النادرة ومحركات الصواريخ واللقاحات الفيروسية والأسلحة الفتاكة والقمح والأسلحة والأسمدة والاستثمارات والسياحة...
ويكفي أن تعلم أن أمريكا تعتمد على المحركات الروسية «سويوز» في نقل الصواريخ إلى الفضاء، بما فيها صواريخ «سبايس إكس» التي يملكها الملياردير الأمريكي المخترع إيلون ماسك، وتعتمد على اليورانيوم المخصب المستورد من روسيا في تشغيل الكثير من مفاعلاتها النووية.
أمريكا تعتمد على الغازات النادرة (زينون، كريبتون، بالاديوم...) وغيرها من الغازات المستوردة من روسيا، وغاز «النيون» من أوكرانيا، وتحديدا مدينة أوديسا، لتصنيع أجهزة الليزر الضرورية لتصنيع الرقائق الإلكترونية، والتي هي ضرورية لتصنيع الأقمار الصناعية والصواريخ والدبابات والطائرات والألواح الشمسية والهواتف وغيرها من أجهزة التكنولوجيا الحديثة.

أوروبا تعتمد على النفط والغاز والفحم وكذلك المعادن الروسية.
دول «الشرق الأوسط» وأفريقيا ودول أخرى تعتمد على إمدادات القمح من روسيا وأوكرانيا. الكثير من دول العالم تعتمد على استيراد الأسمدة من روسيا للزراعة وإنتاج الغذاء.
بعض الدول تعتمد على الأسلحة الروسية الفتاكة في تقوية جيوشها، وبعض الدول في «الشرق الأوسط» تعتمد على السياحة الروسية. الكثير من الدول تعتمد على اللقاحات الروسية في مكافحة وباء «كورونا» ومتحوراته.

لماذا قرر الغرب الأطلسي تدمير روسيا والصين؟
الجواب بسيط جداً: لأن روسيا والصين وحلفاءهما قرروا اتباع استراتيجية شاملة تعمل على إنهاء الهيمنة الإمبريالية الأمريكية على العالم، وجعلها مجرد دولة عظمى محصورة في الزاوية الشمالية الغربية من العالم، دولة مسالمة منكفئة على ذاتها، تكف أذاها وشرورها عن العالم.
ومن جملة ما يسعون إليه إنهاء عصر البترودولار والدولرة، وإنهاء دور المنظمات الدولية الاقتصادية والسياسية الخاضعة للنفوذ الأمريكي الأطلسي، وطرد أمريكا والغرب من قارات العالم القديم عسكرياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً بحلول منتصف القرن الواحد والعشرين، وتأسيس نظام عالمي جديد يقوم على أسس التعاون والتضامن الأممي والندية والتكافؤ والمساواة والحرية للشعوب واحترام سيادة الدول على قرارها وثرواتها.
وقبل ذلك اتباع سياسة «تقطيع الأناكوندا»، وهي طوق الحصار الثعباني الذي يحاول حلف «الناتو» ضربه حول المحيط الروسي والأوراسي الأوسع من كل الجهات. وما سياسات أمريكا في أفغانستان والعراق وإيران وتركيا وبلاد الشام والبلقان والقوقاز وأوكرانيا وكازاخستان وناجورني كاراباخ وتركستان الصينية وإقليم أركان البورمي وكشمير وخراسان وبلوشستان ودول البلطيق الثلاث وبولندا، إلا سلسلة طويلة تضم حلقات عديدة من التآمر والتخريب الجيوسياسي ضد الصين وروسيا وحلفائهما وكل المجموعة التي يمكن أن نسميها أوراسيا الكبرى.

الاستعداد للمواجهة مع «الناتو»
ثمة تصور مشترك لدى روسيا والصين عن عالم أكثر تقدماً وإنسانية بديلاً لعالم التوحش الرأسمالي الذي يقوده الغرب الأطلسي بزعامة أمريكا. وقد وجد هذان العملاقان الشرقيان في الاستفزاز الأطلسي في أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي فرصة تاريخية سانحة لدفع الناتو إلى المواجهة غير المباشرة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وهي المواجهة التي حتماً ستفضي إلى انقسام العالم من جديد إلى معسكرين شرقي وغربي، وخلق مبررات للقطيعة مع الغرب الإمبريالي المعتدي، والدخول في مرحلة منافسة جديدة وسباق شامل لكتلتين عالميتين يتم عبره تحفيز الطاقات الذاتية الكامنة للبلدين وفق قانون التحدي والاستجابة.
وروسيا الجديدة ومعها الصين الجديدة لديهما القدرة على خوض معركة التحدي هذه مع هذا الغرب الاستعماري المتنمر والظالم والفاسد، ولديهما القدرة على تنفيذ عملية الإطاحة بالنظام الدولي الأحادي المهيمن الذي تم تكريسه على مدى ثلاثة عقود من الزمن، وتحقيق الانقلاب التاريخي المنشود. وهما لم يعملا أبداً في التاريخ المعاصر بشكل مفرد، بل كانتا جزءاً كبيراً مؤثراً من تحالف أممي ضخم أوسع. وهما ستنجحان فقط بمعية حلفائهما الكبار الآخرين. وهذا هو ما يؤكد عليه خبراء الجيوسياسة الروس والصينيون ويشيرون إليه مراراً.
نعم، في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة إنما يتم التوقيع رسمياً على مراسيم دفن الهيمنة العالمية الأمريكية أحادية القطب. ولهذا دلالة تاريخية كبرى، فهذا التحول والانقلاب الجيوسياسي العالمي الذي نشهد فيه أفول إمبراطورية الغرب الاستعمارية، التي يمثل حلف الأطلسي ذراعها العسكرية التدميرية، إنما يعكس ضعفاً شديداً في قوة التكتل الاستعماري في مختلف الجوانب، سببته أزمة النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي الراهنة، والتي يؤكد الكثير من العلماء والباحثين والمفكرين أنها باتت أزمة جذرية نهائية.
هذا النظام العالمي الذي يشكل التكتل الغربي مركزه الوحيد الآن في مقابل تكتلات طرفية كبيرة عملاقة وصغيرة من القارات الثلاث تنمو بشكل متسارع وتتعاظم قوتها وتتصارع مع مركز هذا النظام وتتصادم معه سياسياً واقتصادياً وثقافياً وتعمل بشكل تدريجي على تمزيق جسم النظام العالمي الحالي وإزاحة مركزه الوحيد لينبثق من رحم هذا النظام نظام عالمي جديد انتقالي الطابع، ليس فيه مركز وأطراف، وإنما كتل وأقطاب متعاضدة متكاملة، ولها جيواستراتيجية دولية واحدة تقوم على تحقيق أهداف السلام العالمي والأخوة العالمية والتنمية للجميع والتعاون المتبادل على قاعدة «رابح رابح»، وعلى العكس من الشعارات الكاذبة عن هذه الأهداف التي ترفعها نخب الغرب الإمبريالي التي تسعى إلى تكريس هيمنة أوليجارشية عالمية يتزعمها أشخاص برجوازيون متنفذون أثرياء محدودو العدد ينتمون إلى جغرافيا الغرب الاستعماري.
إن فكرة روسيا الإمبريالية أو الصين الإمبريالية تبدو ركيكة وغير مقبولة لدى الكثيرين، ليس لأسباب عاطفية، وإنما للاعتبارات التالية:
أولاً: لا توجد آليات للاستتباع والنهب الاقتصادي كما هو الحال مع الغرب الإمبريالي.
ثانياً: هاتان الدولتان تقودهما نخبة برجوازية وطنية تحافظ على هيمنة القطاع العام الحكومي بين القطاعات الأخرى.
ثالثاً: لا تتدخل هاتان الدولتان في شؤون الدول الأخرى سياسياً وعسكرياً، ولا تفرضان عليها سياسات معينة، وإن حدث هذا أحياناً فإنه يبقى محدود النطاق والتأثير.
رابعاً: إن ناتج التفاعل الاقتصادي بين هاتين الدولتين العملاقتين والدول الأخرى المحيطة والحليفة والصديقة في معظم الحالات يؤدي إلى تحقيق مستوى جيد من النهوض التنموي لتلك الدول الأخرى الكبيرة والصغيرة، ولا توجد هنا آليات «التخليف» (الدفع إلى الخلف) كما هو الحال في العلاقة بين المركز الإمبريالي الغربي والدول الطرفية في العالم.
إن طبيعة العلاقة بين الصين وروسيا وتلك الدول التي يشوبها مستوى معين من الإجحاف والاستغلال قد يوضحها مفهوم آخر غير مصطلح الإمبريالية الذي يبدو غير مناسب للاستخدام هنا.

نظام انتقالي يتبعه نظام عالمي اجتماعي
ما تطمح إليه الصين وروسيا هو بناء إطار حوكمي عالمي عادل تتجمع وتنضوي فيه كتل وأقطاب متعاضدة متكاملة فيما يشبه تأسيساً لنظام عالمي جديد؛ لكن هذا النظام ربما لن يكون هو النظام العالمي الذي سيستقر عليه الحال في القرن الواحد والعشرين، بل هو نظام انتقالي مؤقت سيفضي حتماً خلال عقود قليلة من الزمن إلى بناء نظام عالمي جديد اجتماعي (اشتراكي ديمقراطي) الطابع. وما يجعله حتمي الحدوث هو الضرورات التي لا مناص من التعامل معها للتخفيف من الأزمة العالمية للنظام الرأسمالي، حيث لا مفر من تشكيل نظام جديد أكثر عقلانية ورشداً في الإنتاج والاستهلاك والتوزيع، تنخفض فيه إلى حدود قصوى آليات الاستغلال والهيمنة والنهب لثروات الشعوب، وتتجسد فيه مبادئ التعاون والتكامل والندية، نظام سيتم فيه التخلي تدريجياً عما يلي:
- سيرورة التفاوت الحاد في الدخل والاستقطاب الداخلي للثروة والتمييز الاجتماعي الطبقي والهيمنة الطبقية والاحتكار الطبقي البرجوازي للسلطة.
- هوس النمو المفرط غير المنضبط والاستهلاك المحموم وقيمه وثقافته.
- الطاقة الأحفورية المدمرة للبيئة.
- السياسات الاقتصادية المسببة لكوارث تغير المناخ.
- السباق المحموم للتسلح ومظاهر عسكرة العالم.
- الدعم القذر لجماعات الإرهاب اليميني المتطرف النازي بشكلها العرقي والديني والقومي.
- سياسات الهيمنة الإعلامية الموجهة بالضد عن مبادئ الديمقراطية الحقة.
إنه عالم جديد يولد الآن، هو عالم القرن الواحد والعشرين. وهذا العام سيكون هو عام الحسم العسكري لفرض الواقع العالمي الجديد بالقوة المناوئة والمقاومة لقوة المركز الغربي الاستعماري، وهو عام الجلوس على الطاولة لوضع الترتيبات والإقرار والاعتراف بضرورة السير في أولى خطوات التأسيس القانوني المؤسساتي للنظام الدولي الجديد.

أترك تعليقاً

التعليقات