المحافظون الجدد
 

عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبد القوي العبسي / لا ميديا -
الحديث هنا عن عصابة تحكم البيت الأبيض منذ أكثر من أربعة عقود، عصابة متمرسة في الإجرام، كانت ولا تزال حتى اليوم تريد أن تجر البشرية جميعها إلى منزلق الهاوية وشفير الحرب العالمية المدمرة، وهي من أذاقت الشعوب الفقيرة والمستضعفة كل أنواع الإجرام والموت الجماعي، وهي التي كان لها اليد الطولى في اتخاذ القرارات الإجرامية الإمبريالية التي تسببت في تدمير الكثير من البلدان العربية وعلى رأسها العراق، وساندت الكيان الصهيوني الإجرامي المحتل، وأفسدت شعوب أمريكا الجنوبية، وحاصرت وحاربت كل الدول المقاومة الممانعة، ووقف مؤخرا بعض عناصرها يدعمون أيضاً جريمة الحرب العدوانية الظالمة على اليمن.

عصابة حاربت وحاصرت دول المعسكر الاشتراكي حتى تمكنت من القضاء على التجربة الاشتراكية في هذه البلدان، وبهذا قضت على آمال الشعوب الكادحة في تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وتمكنت من اختراق الاتحاد السوفييتي وساهمت في إسقاطه من الداخل بالاختراق والخيانة، ومن الخارج بالحصار والتحريض والإنهاك الاقتصادي والتخريب الثقافي... عصابة فاشية صهيونية بامتياز، ومن خلالها اجتمع النقيضان وامتزجت القذارتان.
المحافظون الجدد هم رسل الخراب والدمار في هذا الكوكب، وهم اللعنة التاريخية التي أصابت الحضارة الغربية الرأسمالية في طور احتضارها وفصلها النهائي الأخير، وهم بلا شك حكام فترة السقوط، وأبرز علامات الأفول الغربي والانحطاط الحضاري!

المحافظون الجدد.. من هم؟! وما دورهم؟!
البداية كانت في منتصف الستينيات تقريبا مع مجموعة منشقين ومرتدين عن الفكر الثوري اليساري، عندما فوجئ الوسط السياسي اليساري في أمريكا بما حدث من تراجع فكري وثقافي ارتدادي لمجاميع من مثقفي ومفكري وناشطي هذا اليسار في تياره الراديكالي تحديدا، وانتقالهم صوب مواقع اليمين الأمريكي الليبرالي المحافظ حاملين معهم بعض السمات الطبعية والتقاليد والمفاهيم الراديكالية من هذا اليسار (التروتسكي على وجه الخصوص).
وكانت نتيجة هذا التحول الفكري الثقافي الرجعي الارتدادي إلى مواقع الليبرالية ونزعة المحافظة بثوب جديد ظهور حركة فكرية وسياسية ليبرالية محافظة تحمل نزعات قومية أمريكية وتصورات مركزية ومحورية عن بلدهم أمريكا ومكانتها ودورها العالمي وحضارتها الفريدة وفق المنظور الرسالي التوسعي ذاته للأفنجيلية (الأصولية المسيحية الصهيونية) والطموح العولمي الإمبراطوري لقيادة شعوب الأرض نحو تحقيق رسالة السماء في بناء مملكة الناجين والمخلصين بالعقيدة الصحيحة.
هؤلاء اصطحبوا معهم وأبقوا على أهم بعض التقاليد والمفاهيم الثورية من فكرهم السابق وأقحموها بشكل فج وتعسفي، وتمثلوها في البنيان الفكري السياسي لاتجاههم اليميني المحافظ الجديد، وأهم هذه المفاهيم هو مفهوم الثورة العالمية الدائمة بعد إفراغه من مضمونه الثوري الأممي، حيث تحول هذا المفهوم لديهم وبحسب المضمون العولمي الأمريكي الإمبريالي المغلف بالدور الرسالي القيمي المسيحي الخلاصي للشعوب إلى دعوة للغزو الدائم والحرب الدائمة على الشعوب البربرية الجاهلة المحرومة من نعمة الخلاص المسيحي اليهودي والواقعة تحت نير الشر والاستبداد والجهل والدكتاتورية، المحرومة من النعم الموجودة بزعمهم في المجتمع الأمريكي: الديمقراطية وحقوق الإنسان ونظام السوق الرأسمالية والحرية الفردية.
وبهذا الطرح أثاروا جدلا واسعا وشكوكا وردود فعل في أوساط النخب الأمريكية والمجتمع الأمريكي، ودفعوا الكثير إلى التساؤل حول مصداقية كونهم محافظين وكونهم جدداً.
وللتفصيل والشرح أكثر عن أهم خلفيات ومسببات النشوء نقول: برزت هذه الجماعة الساقطة فكريا وقيميا على وقع الأزمة العامة للإمبريالية كصدى لمخاوف الأقسام الأكثر محافظة من البرجوازية الأمريكية المتأزمة في منتصف القرن العشرين بعد صدمة التحولات الثقافية والاجتماعية الجذرية التي اعترت العالم آنذاك جراء بروز الثورة الاشتراكية في الشرق وانتشار تأثيرها إلى قطاعات واسعة في الغرب الأوروبي والأمريكي، والآثار الكارثية التي خلفتها الحرب الكونية الثانية وتأثير الثورة العلمية التكنولوجية وموجات الهجرة الواسعة إلى أمريكا وتأثير اتساع المطالبات الديمقراطية والحقوقية للأقليات والطوائف المضطهدة في أمريكا.
عبّرت هذه الأقسام التي غدت الأكثر رجعية من بين صفوف البرجوازية المحافظة المأزومة عن خشيتها من كل هذه التحولات الاجتماعية وما خلقته وصنعته من تحولات ثقافية وفكرية وظواهر اجتماعية ثقافية يسارية وليبرالية بعضها متطرف طارئ (خاصة بعض حركات اليسار الجديد كأبرز مثال) هزت في الصميم ثقافتها وأيديولوجيتها اليمينية المحافظة والسائدة في المجتمع الأمريكي على مدى قرنين من الزمن والقائمة على الأيديولوجية المسيحية الصهيونية والعرقية البيضاء والنيوليبرالية الرأسمالية المتوحشة. وكرد فعل ثقافي وفكري وسياسي على تلك الحركات الاجتماعية المضادة والثقافة المضادة المصاحبة لها أخذت هذه الجماعة تقود حملة مجتمعية وثقافية وإعلامية وسياسية مضادة لهذه الاتجاهات الجديدة، التي رأت أنها تهدد روح أمريكا والأمة الأمريكية والقيم الأمريكية الفضلى القائمة على أسس الأفنجيلية والعرقية البيضاء والنيوليبرالية والتكليف الرسالي الموهوم المزعوم من الرب بقيادة البشرية إلى طريق الخلاص.
وقد تبلورت في البدء جماعة المحافظين الجدد إبان صراع الأجنحة داخل الحزب الاشتراكي الأمريكي (انحل في العام 1972)، ثم بعد ذلك تمكنوا من استقطاب قيادة تيار الديمقراطيين الاجتماعيين الذي نشأ عنه "كارل جيرشمان"، وكان المحافظون الجدد يتوزعون على الجناح اليميني، بينما انشق أنصار الجناح اليساري وتوجهوا للسيطرة على الحزب الديمقراطي ووقفوا موقف المؤيد لاتجاهات اليسار الجديد ودعموا برنامج تحقيق العدالة الاجتماعية الذي أطلقه الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون منتصف الستينيات، والذي سمي "برنامج المجتمع العظيم"، وفيه قرارات اجتماعية تاريخية مدهشة بخصوص الضمان الاجتماعي ودعم التعليم والصحة والنقل والإسكان والبيئة وتنمية المناطق الريفية، وإقرار الحقوق المدنية للأقلية السوداء.
لم يستسغ المحافظون الجدد الاتجاهات الاجتماعية اليسارية التي أطلقها الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون منتصف الستينيات، وبدؤوا يبتعدون عن الليبرالية الاجتماعية للحزب الديمقراطي شيئاً فشيئاً، متذرعين ببعض القضايا، مثل رفضهم الانسحاب من فيتنام وسياسة المهادنة مع الاتحاد السوفييتي والشيوعيين، ورفضهم الثقافة المضادة، وتبرمهم من الانحياز الديمقراطي للأقلية السوداء، وإقرار الحقوق المدنية... وهكذا.
وقد وجدت البرجوازية الأمريكية وطليعتها اليهودية الصهيونية الماسونية المهيمنة أن أنسب طريقة لمواجهة ظواهر الانعزال الأمريكي ودعوات التنمية والسلام والرخاء والمساواة الحقوقية والابتعاد عن صراعات الخارج التي دعا إليها اليسار الجديد، خاصة الحركة المناهضة لحرب فيتنام، والتي يرونها تخدم الروس وحلفاءهم أكثر، وتضر بقوة أمريكا وتهدد عرشها الإمبراطوري وتماسكها المجتمعي وريادتها الحضارية، وجدت أن أنسب طريقة هي الشروع في استقطاب كل حركة فكرية وثقافية وسياسية تحمل مشروعا مضادا يستند إلى تقاليد النواة الأصيلة المؤسسة للأمة الأمريكية والدولة الأمريكية (باعتبارها الدولة الأكبر الداعمة لليهود والدولة التي تسيطر عليها الصهيونية والماسونية)، والقائمة على تمكين الصهيونية من بسط النفوذ العالمي، خاصة بعد تأسيس "دولة إسرائيل".
ورأوا أن جماعة المحافظين الجدد (ذوي الخلفية اليهودية الصهيونية المعادية لروسيا ستالين والاتحاد السوفييتي) هي المؤهلة أكثر نظريا وسياسيا ونفسيا؛ كونها سليلة اليسار المعادي للسوفييت والمخترق من استخبارات الغرب والدوائر المتنفذة فيه، رأوا أنها الأنسب لتصدر حركة مواجهة المد الشرقي الشيوعي السوفييتي، بوصفهم أبناء جيل المعارضين اليساريين اليهود الحاقدين على النظام السوفييتي ودولته الثورية المقاومة للنفوذ الإمبريالي الغربي والرافضة للحركة الصهيونية والمحبطة للأطماع الماسونية لحكم العالم، بل والمعادية للنشاط اليهودي الثقافي والديني، والانفصالي الانعزالي الحقوقي في أوروبا الشرقية وسائر أرجاء الاتحاد!
هؤلاء الحاقدون هم من يمكن توجيههم واستخدامهم للانتقام السياسي التاريخي ضد الدولة الثورية العظمى التي سلبتهم حقوقهم واضطهدتهم وتسببت في فرارهم ومغادرتهم إلى الغرب وأمريكا تحديدا، يمكن استخدامهم للترويج لمفهوم القيادة الأمريكية للعالم والرسالة الخيرية للمسيحية الأنجلوساكسونية البيضاء، وخيرية وصحة نموذجها السياسي الاجتماعي وقيمها ومبادئها الإنسانية المباركة من الرب، وبهذا تكون قد استفادت من طاقتهم العدوانية المحفزة بروح الانتقام وحماستهم للنهوض بالدولة الأمريكية المنافسة والند عالميا للروس والتي بإمكانها إيقاف ولجم الزحف الثوري السوفييتي الرهيب والتمدد الأحمر الاشتراكي في أرجاء العالم في الفترة 1945 ـ 1975، وإيقاف خطر المشروع السوفييتي الثوري العالمي وثورته العالمية الدائمة على المشروع الغربي الاستعماري الصهيوني الماسوني الذي يسعى إلى حكم العالم أجمع تحت قيادة حكومته العالمية الخفية، بمعنى أنهم إذ يقدمون الدعم لمشروع عولمي إمبريالي هجومي محفز بالعقيدة الدينية الصهيومسيحية ومدجج بالتكنولوجيا والإعلام ومختلف وسائل الهيمنة الأيديولوجية وصناعة الرأي العالمي، يستطيعون من خلاله مواجهة المشروع الثوري العولمي الآخر للخصوم الشرقيين، بوصفه مشروعا عولميا هجوميا ثوريا مدججا بالتكنولوجيا والتنظيم والدعاية الثورية الرهيبة، وهم بهذا يطبقون قاعدة "لا يفل الحديد إلا الحديد"!!
كما أنهم ومن جانب آخر، وتحقيقا لهدف آخر، يرون أن تعزيز العولمة (وفق المفهوم الأمريكي) والسيطرة على الأقاليم العالمية السبعة وإقامة الحكومة الخفية العالمية الغربية الماسونية الصهيونية، هو التحقيق الأمثل والضمان الأمثل لأمن "إسرائيل" ولضمان استمرار الهيمنة الصهيونية الماسونية على العالم.
والأولوية من وجهة نظرها هو في تشديد العداء للاتحاد السوفييتي وحلفائه، والتصدي للهجوم التاريخي الثقافي الفكري السياسي الذي يقوده على الغرب المسيحي الصهيوني الرأسمالي الإمبريالي المحافظ؛ لكون الاتحاد السوفييتي يشكل في التحليل الأخير خطراً على بقاء الدول الغربية الاستعمارية التي يحكمها في قمة الهرم الماسونيون الأثرياء، ولكونها هي الدول الداعمة فعلاً لليهود والصهيونية وما تسمى "دولة إسرائيل"، وهذا ما يفسر لنا جزئياً استقطاب مفكرين ومثقفين وناشطين أمريكيين من أصول يهودية ومن صفوف اشتراكية معادية للسوفييت من تلك الحركة اليسارية الراديكالية المعارضة لستالين، وتصعيدهم إلى مواقع القرار في أمريكا ليكونوا أدوات الهجوم الحاقد المدمر على السوفييت.
وقد انخرطوا بكثافة فترة الثمانينيات، إبان حكم الرئيس ريجان، وتمكنوا من استقطابه إلى فكرهم وبرامجهم واستغلوا سذاجة تفكيره وفاشيته وتاريخه المكارثي السابق، كجاسوس لصالح المكارثية إبان الخمسينيات، في تمرير مشاريع كبيرة استراتيجية تستهدف استنزاف وإرهاق الاتحاد السوفييتي بسباق التسلح، مثل مشروع برنامج "حرب النجوم" سيئ الصيت، والذي لعب دورا استنزافيا ومنهكا للدولة السوفييتية كما هو معلوم.
وخير فريق يمكنه أن يدفع بهذا الاتجاه هم هؤلاء الذين ينحدرون كما قلنا من جماعات يسارية شتى بعضها تروتسكية (تحديدا من الجيل التروتسكي الثالث المخترق أمنيا والمصاب بداء التحريفية الشديدة والذين لم تسلم حتى التروتسكية نفسها على ما فيها من أخطاء من تشويههم!)، والبعض منهم هم أدعياء للتروتسكية ويمثلون أجندات سياسية موجهة أمريكياً!
وفعلاً، حدث الاستقطاب الماسوني لهؤلاء وليس فقط الاستقطاب الحكومي الأمني؛ إذ "كانوا يتلقون دعما على الدوام من منظمات ومراكز تمويلية تابعة لروتشيلد وسوروس وغيرهم"، كما يؤكد الكثير من الباحثين والمراقبين والمؤرخين.
الجدير بالذكر والمثير للدهشة هو أن هؤلاء اليساريين المزيفين اليهود (وبعضهم من أصول أوكرانية!!) قد تم التمكين لهم وجلبهم إلى وسائل الإعلام ودوائر صناعة القرار في الخارجية والجيش والبيت الأبيض والمراكز البحثية ومختلف المؤسسات الأمريكية المؤثرة!
وهم -كما قلنا- أعلنوا تحولهم إلى صفوف اليمين المحافظ والليبرالية المحافظة بوصفهم جماعة محافظة جديدة تعبر عن خيبة أملها ورفضها لكل مفاهيم النزعة اليسارية الراديكالية التي اعتنقوها سابقاً، والعودة إلى التقاليد والروح الأمريكية المحافظة.
وأظهر المحافظون الجدد إيمانهم العميق بالقيم والثقافة الأمريكية القائمة على رسالة نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان ومبادئ الكتاب المقدس والقيادة العالمية لشعوب الأرض وتحريرها من الدكتاتوريات والاستبداد!
لاحظوا هنا وفي ظروف أزموية عابرة كيف يتحول بعض اليساريين الانتهازيين البرجوازيين الصغار من النقيض إلى النقيض!!
حدث واستمر هذا الاستقطاب والتمكين والترويج لجماعة فكرية وسياسية تضم في طياتها تنويعات فرعية تتباين في قضايا ورؤى معينة؛ لكنها تلتقي على مبادئ توجيهية عامة وطوال مرحلة الهجوم اليميني المحافظ على السلطة والمجتمع الأمريكي من السبعينيات وحتى مطلع العقد الثاني.
لا يزال هؤلاء يتبادلون المواقع والأدوار، يتوارون عن الأنظار قليلا ثم يعودون ويجددون خطابهم في كل مرة بإضافة بعض البهارات هنا وهناك، ويركبون كل موجة جديدة، فهم أيضاً يتلونون كالحرباء يقدمون أنفسهم أحياناً على أنهم أصدقاء للبيئة ويتسللون من كم ترامب، وإذا فتشت عنهم تجدهم يقفون إلى يمين بايدن أيضاً!

تأثيرهم ودورهم في السياسة الخارجية الأمريكية
المحافظون الجدد بهذا الظهور والحضور الذي تعزز في منتصف السبعينيات شكلوا رافداً قوياً للتيار السياسي اليميني المؤمن بالكونية الأمريكية الإمبراطورية العنصرية أحادية الثقافة، والذي يستلهم مبادئ وأفكار ما تسمى "الويلسونية المثالية" (نسبة إلى الرئيس الأسبق وودرو ويلسون، الذي دعا إلى تبني واستلهام المشروع الأمريكي العالمي للديمقراطية والسلام وحقوق الإنسان).
المحافظون الجدد أصبحوا بمرور الوقت أقوى تيارات اليمين السياسي نفوذا وتأثيرا في دوائر الحكم في أمريكا خلال الربع الأخير من القرن العشرين. ولكون مجاميع كبيرة منهم التحقت في البداية بالحزب الديمقراطي ثم انشقت عنه لاحقا وانتقلت إلى الحزب الجمهوري الذي مثل بالنسبة لهم بيئة مناسبة للترويج لأفكارهم ومبادئهم، لكن بقيت مجموعات مؤثرة منهم في صفوف الحزب الديمقراطي، وهم قد كيفوا أنفسهم على ما يبدو للبقاء داخل مفاصل الدولة الأمريكية العميقة ودوائر نفوذها، جاعلين من أنفسهم عابرين للأحزاب والمنظمات والمؤسسات والتكتلات ومخترقين لها، وأعطوا لأنفسهم حرية الحركة والتنقل ما بينها بحسب ما تقتضيه دواعي المصلحة ومتطلبات نجاح مشروعهم الفكري والسياسي الشيطاني المدمر!
أبرز منظريهم هم دونالد كاجان وارفينغ كريستول وليو شتراوس، وأبرز كتابهم هم نورمان بودوريتز وابنه جون ودانيال بيل وكذلك وليم كريستول وباقي نشطاء عائلة كاجان روبرت وفريدريك، وأبرز قادتهم هم بول وولفويتز وريتشارد بيرل وإيليوت إبرامز ووهنري جاكسون وجينجريتش وجين كيركباتريك وفيكتوريا نولاند وجون بولتون ورامسفيلد وبلينكن وغيرهم.
والاختراق الأكبر الذي أحدثوه هو قيامهم بالدور الرئيس في صياغة السياسة الخارجية لأمريكا وبعض السياسات الداخلية طوال عهود ريغان وبوش الأب، وصولاً إلى مرحلة ترامب وبايدن. 
هم من أصدر وحرض الرؤساء الأمريكيين على اتخاذ أغلب قرارات شن الحروب وغزو العراق وصربيا وأفغانستان وسورية وليبيا واليمن. وأبرز هؤلاء بول وولفويتز ورامسفيلد، المعروفان بدورهما الرئيس في الحرب العدوانية الظالمة على العراق، وهي الحرب التي فبركها المحافظون الجدد والقائمة على ادعاءات كاذبة ثبت بطلانها فيما بعد كأبرز مثال على جنون وإجرام وبشاعة هؤلاء!
والغريب أن هؤلاء ما زال لهم نفوذ حتى الآن في عهد بايدن الديمقراطي، مما يؤكد مقولة الدعم الماسوني لهم من أباطرة المال الكبار: روتشيلد وسوروس وغيرهما. وقد شكل بايدن أهم العناصر المؤثرة في طاقمه الإداري من هؤلاء الشياطين! وأبرزهم بلينكين وفيكتوريا نولاند!
هكذا كان توجه الإدارة الديمقراطية الجديدة، على عكس ما يفترض أنها توجهات وتفضيلات برنامجية سياسية وفكرية لليبراليين الديمقراطيين ممن اعتادوا على أن ينأوا بأنفسهم عن طروحات الليبرالية المحافظة والمحافظين، والمحافظين الجدد على وجه التحديد؛ ولكن هذا هو ضغط أجهزة الدولة العميقة، وهو ما دفعت به وتفرضه متطلبات الأمن القومي الأمريكي والمصلحة العليا بعد حدوث المتغيرات العالمية الحديثة والخوف الشديد من الصعود الصيني الأوراسي ومن فقدان الهيمنة العالمية وتبخر أحلام الدور الإمبراطوري الرسالي الذي كرسوه على مدى خمسين عاما، وجعلوا منه ثابتا من ثوابت السياسة الخارجية والعقيدة العسكرية الاستراتيجية لبلدهم، وهو ما رسخوه في أغلب فترة العقود الأربعة السابقة، حيث تمكنوا من صياغة مبادئ وتوجهات السياسة الخارجية واضعين كل مفاهيمهم وأفكارهم المنحرفة واللاإنسانية واللاعقلانية في جوهرها في القوانين والتشريعات، وجعلوا منها الدواليب المحركة للسياسة الخارجية الكارثية والعدوانية البربرية.
ومثلما استخدموا الحزب الجمهوري في تمرير غزواتهم الشيطانية وحروبهم الاستعمارية المدمرة المغلفة بالشعارات البراقة الكاذبة، يستخدمون أحيانا الإدارات الديمقراطية في تمرير السياسات التوسعية العدوانية ذاتها، ولا يعدمون الوسيلة في التفنن والابتكار وابتداع شتى المبررات والذرائع الأيديولوجية والإنسانية والأمنية والأخلاقية، مثلما يفعلون الآن في معركة أوكرانيا التي هي حربهم العدوانية الظالمة لتدمير وتفكيك روسيا بعد استنزافها وإضعافها ومحاصرتها بالعقوبات وفرض العزلة عليها.
وما أثار جنونهم هو القرار الروسي الصيني التاريخي، قرار الجماعة الأوراسية الشرقية، قرار تغيير النظام العالمي القائم وإنزال المحافظين الجدد، والداعمين لهم من الخلف، من عرش الهيمنة العالمية. لكن غرورهم وأوهامهم قد أوقعتهم في مزالق الخسارة وخطر السقوط والاجتثاث، وهو ما قد تتعرض له الحركة المحافظة الجديدة كنتيجة منطقية للحرب ضد روسيا؛ والدائرة بالوكالة في أوكرانيا!
ربما أن "الترامبية" التي لديها فرصة بالعودة إلى صدارة المسرح الأمريكي مجددا، تمثل أهم محاولات طي صفحة المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري، أو تجاوز وتعديل بعض أفكارها وسياساتها وإعادة ترتيب الأولويات بدعوتها إلى الانكفاء والانعزال والاهتمام بالداخل الأمريكي، رغم أنها لقيت دعما من هؤلاء ونفذت الكثير من أجنداتهم السياسية خارجيا وداخليا!
المفارقة أن دعوة "الترامبية" إلى الانعزال والابتعاد عن الصراعات الخارجية المدمرة مع روسيا تحديدا، والاهتمام بالداخل الأمريكي وقضاياه الحيوية والحساسة هي نفسها الدعوات التي عرف بها الحزب الديمقراطي تاريخيا، والذي يبدو أنه يتخلى عنها الآن بتعصبه وانحيازه الشديد للفكرة المجنونة المسماة بالعولمة الأمريكية الإمبريالية الأحادية، وبما يحمله في سياسته وبرنامجه الحالي من اندفاع محموم واتجاه جنوني للاستمرار والمضي قدما في تنفيذ أجندة المحافظين الجدد، والتي على رأسها هذه النزعة العولمية غير العادلة والمتغطرسة والمدمرة، التي لا تقيم وزنا للمساواة والعدالة الدولية القانونية والتعددية القطبية الحضارية الثقافية، أي أنها لا تطبق الديمقراطية وحقوق الإنسان بجوهرها الحقيقي، لأنها تلغي حقوق الشعوب وتتجاهل الأغلبية الدولية والتنوع الحضاري والثقافي والفكري والقيمي والأخلاقي للشعوب.
ونحن نعرف طبعاً، في الأساس العميق الاقتصادي البنيوي المادي، أن ما يقف وراء اختيار هذه السياسات التوسعية العدوانية المغلفة بالأكاذيب المخادعة والشعارات الزائفة وراء هذه الدمى المتحركة في الإدارات الأمريكية المتعاقبة وقطيع الموظفين الأوغاد هؤلاء هو تلك المصالح الإمبريالية غير المشروعة للشركات العابرة للقارات وعائلات البرجوازية الأمريكية الإمبريالية، وعلى رأسها العائلات الثرية الشهيرة الماسونية، وعلينا وضع ألف خط تحت هذه الكلمة (الماسونية)، ونخبها وتكتلاتها الراغبة في التهام المزيد من ثروات الشعوب، وتحديدا الأراضي البكر غير المستغلة بما فيه الكفاية والموجودة في ربوع القارة الأوراسية وفي أفريقيا والقطب الشمالي وشرق المتوسط وأمريكا الجنوبية.
وهنا لا يمكن بأية حال إغفال عامل النفوذ السياسي الأمني الاقتصادي الإعلامي للقوى والأطر التكتلية والمنظمة لجماعات الضغط والنفوذ الخفية وشبه العلنية، تحت مستويات السطح الظاهرة للمجتمع السياسي الأمريكي!

استقالة العقل الأمريكي وفصل النهاية
جلب مجانين الفكر والسياسة هؤلاء معهم إلى هذا العالم منذ اللحظة الأولى لصعودهم المسرح السياسي العالمي كل أنواع الشرور والموبقات والخطايا في عالم السياسة المعاصرة، أحضروها من غياهب ظلمات الماضي الأوروبي ومن موروث الجهل الدفين من كتب الأساطير اليهودية الشرقية القديمة ومن كل السرديات القروسطية الأوروبية الشريرة التي تستبطن استتباع واستعباد وتهميش الآخر المختلف ثقافيا وفكريا واجتماعيا.
وأهم الأفكار الجنونية التي اعتنقوها: فكرة التفوق الأمريكي وحتمية إلحاق الهزيمة بخصومهم في كل مكان وزمان، والدور الرسالي الخيري المنوط بهم من الرب، وضرورة تصدرهم قيادة وتوجيه العالم، وفكرة اقتراب نهاية العالم وحرب "هرماجديون"، ودورهم المنتظر فيها، بوصفهم -حسب زعمهم- الطرف الذي يمثل الخير فيها، بينما يمثل الصينيون والروس وحلفاؤهم الطرف الشيطاني التابع للدجال!
والعجيب أن الكثير من رؤساء أمريكا من فترة السبعينيات وما بعدها كان لديهم اعتقاد قوي وعجيب بفكرة "هرماجديون" الأسطورية وعصرها الحالي، وكانوا يتصرفون وبيدهم الزر النووي كأطفال مهووسين يتأهبون للعبة مسلية قادمة!
وكما نعرف يتم انتقاء هؤلاء المتبلدين محدودي الذهنية والذكاء -وأغلبهم لهم سوابق- بعناية شديدة، ويجري تلميعهم وتصعيدهم وتعبئتهم سياسيا وبرمجتهم على أنماط تفكير محددة، والتلاعب بهم نفسيا وفكريا وثقافيا عن طريق مستشارين ومراكز وكوادر مختارة بعناية.
وقد استبد الغرور ليس فقط بحزب المحافظين الجدد الخفي، بل بكل شرائح وفئات ونخب اليمين المحافظ الأفنجيلي الصهيوني في المجتمع ككل، إلى درجة الاعتقاد بأنهم فقط كأمة أمريكية المؤهلون لاستيعاب وفهم وتطوير العلوم التكنولوجية، بما يعتقدونه في أنفسهم من تفرد ذهني ومواهب ومزايا اختصوا بها دون غيرهم من الأمم!
المضحك والغريب هنا أن المجتمع الأمريكي بطبيعته هو لفيف مهاجرين من شتى الأمم والأعراق والثقافات والطوائف، والكثير من الجهابذة والعباقرة في هذا المجتمع هم روس وأوكران وبولنديون ومجريون وأرمن وصينيون وهنود ويابانيون وعرب ولاتينيون وأفارقة، وليسوا فقط جرمانيين وأنجلوساكسونيين، كما يتناسى ويتغافل هؤلاء الحمقى. لا شك أن هذا غرور متبجح مدفوع بأوهام التفوق العرقي.
عامل آخر ساهم في وصولهم إلى هذا الدرك الأسفل من التفكير الرجعي السيكوباتي، هو -كما قلنا- ميراث الحقد الشديد على روسيا وحلفائها في المعسكر الشرقي، وهو الحقد السياسي والفكري والسيكواجتماعي الموروث عن آبائهم اليهود المهاجرين من روسيا وأوكرانيا إلى أمريكا واليساريين المعارضين لستالين وأدعياء التروتسكية الجديدة في المجتمع الأمريكي.
المحافظون الجدد في ما يمكن استخلاصه وتوقعه مؤخراً هم ظاهرة ما قبل السقوط الأمريكي والأنجلوساكسوني الشامل، وهم المثال الساطع عن استقالة العقل الأمريكي والغربي، في حداثة تأزمت ومدنية اعتراها الانحطاط ومرحلة تراجع حضاري ثقافي فكري شامل، وهي تمثل بلا شك حركة جيل من الساسة والمثقفين أصيب بالارتباك والتخبط، جيل فقد عقلانيته السياسية وانحرف بأفكاره وقيمه عن الطريق العقلاني المستقيم واستقال من ركب الحضارة الإنسانية المعاصرة، وعبر عن ذاته المتأزمة من خلال حركة مشوبة بالوهم واليأس الأخلاقي وتمثل رد الفعل السيكوباتي الجمعي لنخبة ثقافية مأزومة ومجتمع رأسمالي يتأزم وإمبريالية بدأت تدخل طور الاحتضار.
وهكذا يتأكد لنا صوابية التوقع التاريخي لشبنجلر قبل قرن من الزمن بأفول الغرب وصعود الجنس الأصفر، شرق يصعد ويولد من جديد، وغرب يسير إلى الهاوية، ودولة أطلسية إمبراطورية عظمى تبدأ خط بيانها المنحدر هبوطا إلى قاع بحر الظلمات كقارة غارقة جديدة.

أترك تعليقاً

التعليقات