عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبد القوي العبسي / لا ميديا -
بريطانيا دولة صغيرة الحجم جغرافياً؛ ولكنها دولة صناعية عظمى، كانت وإلى وقت قريب دولة إمبراطورية تحكم العالم، وكان القرن التاسع عشر هو ذروة صعودها التاريخي كإمبراطورية عالمية تهيمن على مساحات واسعة من العالم حتى لقبت بالإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس.
نشوء الرأسمالية وحدوث الثورات الصناعية والعلمية فيها هو ما مكنها من بلوغ مستوى القوة والقدرة على استعمار أجزاء واسعة من أراضي العالم القديم الغنية بالخيرات والمواد الخام اللازمة لنهضتها الصناعية، وهو ما ضاعف أيضاً قدراتها وثرواتها وهيمنتها.

استولت بريطانيا الكولونيالية على تلك البلدان ونهبت خيراتها ودمرت صناعاتها وحولتها إلى أسواق لتصريف منتجاتها، ومناجم ومزارع وحدائق خلفية لها، وسيطرت على ممرات التجارة العالمية، لتحوز بذلك مرتبة الدولة القائدة للعالم الرأسمالي الحديث. واستمر جبروتها وتحكمها العالمي هذا ما يقارب القرنين من الزمن.
فـي ذروة صعــود بـريطانيـا عالميــا استطاعت هي وحلفاؤها الأوروبيون، ومعهم تركيا العثمانية المريضة، إلحاق هزيمة عسكرية وسياسية بروسيا القيصرية في ما سمي بـ"حرب القرم" منتصف القرن التاسع عشر. كانت تلك ربما هي المرة الأولى -من بين مرتين في التاريخ الحديث- تنهزم فيها روسيا في الحرب ضد قوى الشيطان الغربية الأطلسية، وماعدا ذلك انتصر الروس في معظم حروبهم التاريخية مع الغرب، وأبرزها حرب نابليون وحرب هتلر ضدهم.
بريطانيا، التي كانت تحكم العالم، بقي لديها شيء من ذلك النفوذ الضخم إلى وقت قريب، أي إلى عقود قليلة مضت، ثم بدأ انحسارها التاريخي يترافق مع الصعود المشرقي الصيني الأوراسي، والذي حدث تاريخيا على شكل موجتين تاريخيتين: موجة ستالين/ ماو في القرن العشرين، وموجة بوتين/ بنغ في القرن الراهن.
لدينا هنا بنغ الأول (دنغ شياو بنغ) مؤسس الانطلاقة التنموية الصينية العملاقة الحديثة، وبنغ الثاني (شي جين بنغ) الذي يقود حالياً معركة الإطاحة بالنظام العالمي الأمريكي ليؤسس بدلا منه النظام العالمي التعددي بقيادة الصين وروسيا، وليضع الصين في مرتبة قائدة مسيرة الحضارة البشرية في القرن الحادي والعشرين.
في الموجة التحررية الأولى التي قادها ستالين وماو تسي تونغ بدأت النهضة الصينية الروسية. في تلك الحقبة الذهبية ردد الزعيم العظيم المناضل "ماو" الجملة الشهيرة: "ستتغلبون على بريطانيا"، مكررا بذلك الجملة نفسها التي قالها الإمبراطور ميجي الياباني في منتصف القرن التاسع عشر.
التاريخ أثبت صحة تينك النبوءتين العظيمتين، وبالفعل تغلبت الصين على بريطانيا في معظم المجالات، ليست الصين فقط، بل واليابان وروسيا ودول أخرى أيضاً.
وعليه، لم يعد يصح أن نقول بعد كل هذا: "كلام يا بريطانيا"، كما كان يردد عجائز قريتنا "المعدنيون" (نسبة إلى أنهم كانوا في عدن)، بل وحتى الكثير من المتعلمين والمثقفين القرويين المبهورين، الذين كانوا يرتادون المستعمرة البريطانية (عدن) بحثاً عن العمل والإقامة والبهرجة والقشور الحضارية الزائفة، وكانوا يسبحون بحمد بريطانيا صبح مساء.
لم يعد بالإمكان الآن أن ننخدع ببقايا الضجيج والصخب الكولونيالي البريطاني، ولا مكان بعد اليوم للمتبرطنين (أي: مخرجات الثقافة والسياسة الاستعمارية البريطانية) من بني جلدتنا، ولن نقبل أن يساكنونا أرض الوطن حين وطيس المعركة القادمة، وما بين كلامنا هذا والثورة التحررية القادمة فقط طرفة عين أو لحظة بمقياس التاريخ، وإن غدا لناظره قريب!
الآن وقت العودة إلى مجد النضال المشرقي الأممي، حيث ستصطف كل الشعوب، لا أقول شعوب المعمورة وإنما الشعوب المقهورة، خلف راية ثورية تحررية ضد بقايا الاستعمار، وضد ما تبقى من فلول الهجمة الاستعمارية الغربية الجديدة التي مضى عليها ثلاثة عقود من الزمن.
الآن وقت ترديد عبارة: "كلام يا روسيا"، "كلام يا تشاينا"، إن كان لنا أن نفخر أممياً وتحررياً بأصدقاء لنا أبطال قد قرروا أن يسدلوا الستار التاريخي على حقبة عربدة الغرب الظلامي البربري. بدأ يحدث هذا الآن!
بريطانيا إبان الموجة التحررية الأولى منتصف القرن الماضي تلقت أولى ضربات الانتقام التاريخي في حروب التحرير الوطنية التي امتد لهيبها واكتسحت معظم أرجاء قارات الجنوب. بريطانيا آنذاك انهزمت تاريخياً وفقدت معظم مستعمراتها، بسبب أن روسيا السوفييتية ومعها الصين الشعبية حرضتا وشجعتا دول الجنوب الأفروآسيوي اللاتيني على التحرر من هيمنة الاستعمار الغربي البريطاني الفرنسي، وقدمت لمعظم تلك البلدان الثورية السلاح والتدريب والدعم الاقتصادي واللوجستي والثقافي والسياسي.
وفعلاً، تمكنت تلك البلدان من الانتصار في ثوراتها التحررية الوطنية، واستطاعت تحقيق الاستقلال وطرد البريطانيين والفرنسيين المستعمرين الغزاة من معظم أماكن انتشارهم في جنوب ومشرق العالم. وهكذا انتقمت روسيا تاريخياً المهزومة في حرب القرم انتقامها الأول وتمكنت من القضاء على الاستعمار البريطاني بمساعدتها للأصدقاء الثوريين والرفاق الأمميين في كل ساحات وبؤر الثورة العالمية.
تراجعت بريطانيا بعد ذلك وانزوت في زاويتها الشمالية الغربية وفقدت مكانتها وصيتها الإمبراطوري وغربت عنها الشمس! لتبقى فقط دولة صناعية مأزومة، قابعة في زاوية تموضعها الأصلي، جزيرة صغيرة في شمال بحر الظلمات!
وفي خضم موجة الصعود الصيني الروسي (الأوراسي) الثانية التي شهدها العقدان الماضيان، تراجعت بريطانيا أكثر واضمحل نفوذها السياسي والثقافي العالمي، وأصبحت تابعة بشكل أكبر لهيمنة وتوجيه وتحكم ابنتها الكبرى: أمريكا (نسخة كبيرة أكثر قبحاً وبشاعة منها).
فشلت بريطانيا أوروبياً على كل الصعد. ضاقت ذرعاً بأوروبا. لم تستسغ جيوسياسياً التفوق الألماني والمنافسة الفرنسية. أراد بها اليمين السياسي الأفنجيلي الهروب من حاضرها المتقزم. خرجت من أوروبا عبر عملية "بريكسيت". وصل إلى كراسي الحكم فيها قيادات بلهاء مرتبكة لا تفقه شيئاً من فنون الحكم، غارقة في ذهنية العظمة البريطانية والاصطفاء الإلهي والهوس الأفنجيلي، ولا تجيد شيئاً سوى تدبير الدسائس الصغيرة وممارسة الخداع الديماغوجي للجماهير.
بريطانيا مع هؤلاء الأقزام أرادت أن تستعيد شيئاً من مجدها الغابر. حاولت -ولا تزال تحاول- استعادة نفوذها في المستعمرات في رابطة الكومنولث وغيرها.
ها هي تعود إلى محمياتها (مشيخاتها) في الخليج، تفكر في عقد اتفاقيات للتجارة الحرة معها، وتعزز فيها نفوذها العسكري والأمني، تضع قدماً جديدة لها في درة تاجها الإمبراطوري السابقة (عدن). تعيد احتلالها للمدينة اليمنية العربية بوسائل جديدة (احتلال بالوكالة)، وبطرق بالغة الدهاء والخبث عن طريق دويلة الإمارات الخليجية، والتي هي ليست أكثر من كونها مستعمرة بريطانية ومنطقة نفوذ انجلوأمريكي. لكن هذا التحرك المحموم لاسترجاع ما يمكن استرجاعه من مجد الماضي ومن كعكة الشرق العربي، يجد نفسه محاصراً بحضور قوي لقوى إقليمية مقاومة ودولية شرقية مخاصمة؛ قوى لا تعترف في خطابها السياسي والثقافي والفكري ولا تقيم وزناً في طموحها الجيوسياسي لشيء اسمه الهيمنة الغربية والنظام العالمي الأنجلوأمريكي ومصالح بريطانيا ونفوذها. كل ما تعرفه هو أنه ينبغي طرد قوى الطغيان والاستكبار والجبروت الغربي الأطلسي خارج المنطقة.

تعزز نفوذ الخصوم المشرقيين، فيما تستميت بريطانيا وربيبتها "دويلة" الكيان الصهيوني وحليفتها أمريكا في تعزيز نفوذها وإعادة انتشار قواتها بعقيدة عسكرية جديدة واستراتيجية جديدة، فأخذت تعمل مع حلفائها على إعادة تشكيل التحالفات الجديدة وفق المتغيرات العالمية بما يحفظ لها ويعزز استمرارية مصالحها الاستعمارية وأطماعها في ثروات ومزايا المنطقة. لكن بريطانيا الضعيفة هذه وجدت نفسها أخيراً وسط بحر متلاطم من الأزمات الاقتصادية والسياسية المتتالية.
وفي خضم التغيرات الديناميكية العالمية والصعود العظيم لقوى المشرق وقوى عالمية أخرى راحت تخسر أكثر فأكثر، وأخذت الأحداث الكبرى الراهنة تخصم الكثير من معطيات ومزايا وإمكانات العودة لنفوذها ومجدها الاستعماري الغابر.
ها هي بريطانيا الغاضبة من المشرقيين تكابر وتهرب إلى أوهام التاريخ! تتمترس خلف ذكريات زمن ذهبي مضى، وتستعرض قوتها بيأس عجيب، وتنفث سمومها وتصوغ سياسات تآمرية جديدة لتحطيم الخصوم الحضاريين ولعرقلة صعودهم الراهن المجيد، وتحاول أن تعيد التاريخ في ملهاة كوميدية!!
تخترع، مع حليفاتها أو بناتها، "حرب أفيون" جديدة مع الصين! و"حرب قرم" جديدة مع روسيا! ونسيت أن التاريخ قد تقدم عبر ثورتين شعبيتين عملاقتين هما الثورة الروسية البلشفية والثورة الصينية، وهذا التقدم التاريخي الاجتماعي الحضاري الشامل قد مهد للإطاحة بالغرب ونقل الحضارة ومركز الثقل الحضاري العالمي إلى الشرق البازغ الصاعد الجديد.
وقد وصل بها الهوان (بريطانيا هذه) في خضم حركتها لاستعادة شيء من قوتها وهيبتها أنها باتت الآن غير محمية على الإطلاق وغير آمنة لا عسكرياً ولا اقتصادياً. لن تضحك بريطانيا بعد الآن وتقول: ها هو نابليون لا يستطيع أن يغزو بريطانيا، وطائرات هتلر وجيوشه لم تغن عنه شيئاً؛ فهي تعلم جيداً أن غواصة روسية من نوع "بوسيدون" لن يقف أمامها شيء، ولا تنفع معها الصدف العجيبة كما فعلت العواصف الهوجاء مع أسطول "الأرمادا" الإسباني في القرن السادس عشر قبالة شواطئ الجزيرة؛ لأن التقدم التكنولوجي الرهيب عبر سلسلة من الثورات العلمية التكنولوجية المتلاحقة قد جعل بإمكان سفينة واحدة أو غواصة واحدة مدججة بسلاح نووي أن تدمر قارة بأكملها وتمحوها عن وجه الأرض!!
فيما مضى، في أزمنة الطغيان والاستكبار والعربدة، كانت بريطانيا تضحك وتسخر وتتباهى بجبروتها وكلمتها من الدول المستضعفة والشعوب المستضعفة؛ لكنها الآن لم تعد كذلك، وليس في مقدورها ذلك. لماذا؟!
لأنها خائفة وضعيفة، محدودة القدرة جيوسياسياً وليس بمقدورها أن تحمي نفسها ولا أن يحميها حتى حلفاؤها الأقربون.
هي على مرمى النيران وتحت رحمة مشيئة قادة أبطال جدد إذا قالوا صدقوا! وعلى رأسهم القائد بوتين، ليس هذا القيصر الجديد هو نابليون يا بريطانيا ولا هتلر، وإنما هذا هو نفسه جبروت الاتحاد السوفييتي يعود شيئاً فشيئاً، والقيصر بوتين ليس هو كل شيء إنما هو كادر قيادي جيد، جندي مجند في خدمة الوطن العظيم؛ وطن لينين وستالين، وفي وطن بوشكين هذا مليون رجل يشبه بوتين. استطاع بوتين عاشق الوطن والتاريخ أن ينتقم من بريطانيا ويلقنها درساً تاريخياً لا مثيل له.
وفي القرم اليوم في معركة الأمن والسيادة في العملية العسكرية التي ستغير وجه التاريخ ووجه نظام العالم سيكسر القائد بوتين البطل أنف الهيمنة الغربية والصلف والغرور الأطلسي، فالقرم في الواحد والعشرين ليست هي القرم في التاسع عشر، روسيا تلك ليست هي روسيا هذه، وشتان ما بين الروسيتين، وبريطانيا تلك ليست هي بريطانيا هذه وشتان ما بين البريطانيتين.
تغير التاريخ والمجتمع والعلوم والفكر والثقافة والسياسة، تغيرت عقيدة الجندي الروسي والأوراسي المحارب ووسائله وأساليبه وقدراته، وما بعد روسيا البلشفية السوفييتية ليس كما قبلها، روسيا ستالين وصولاً إلى بوتين ليست هي روسيا الكسندر، كما أن أوروبا الجبروت الكولونيالي الإمبراطوري، أوروبا الصعود الرأسمالي العالمي، ليست هي أوروبا الغروب الرأسمالي، أوروبا المأزومة الضعيفة التي تحتاج إلى غيرها.
نعم، بريطانيا مذعورة من سقوط هيبتها وكرامتها، وهذا ما يفسر تحركها المضطرب المجنون في أوكرانيا. بريطانيا خائفة وعاجزة أمام قطعة سلاح واحدة. الآن علمياً وعسكرياً وواقعياً ودون أدنى مبالغة يقول الخبراء العسكريون إن صاروخاً باليستياً روسياً واحداً فرط صوتي ويحمل رؤوسا نووية بإمكانه بمفرده أن ينهيها ويغرقها للأبد خلال ربع ساعة، بإمكانه أن يتسبب بموجة تسونامي عملاقة تغرق الجزيرة، وبإمكان الإشعاع المكتسح أن يحرق الجزيرة، بإمكانه أن يدمر أرضاً ودولة وحضارة عظيمة في غمضة عين!!
يا للعجب، أن تجد بريطانيا ومعها أمريكا في مرمى مصير قارة غارقة أطلانتيسية جديدة، وهذه من غرائب التاريخ والتطور والتقدم التكنولوجي، ومن عجائب المشيئة الإلهية، وإرادة الله القدير أن يخسف بالعلو اليهودي الكبير، أن يجعل الزمن يدور على الباغي المتجبر المستكبر انتقاما لكرامة المستضعفين من شعوب الأرض، والله عزيز جبار منتقم.
من يصدق أن جزيرة الشيطان، الدولة الإمبراطورية العالمية الشريرة التي أهانت وعذبت البشرية، وأذلت وحطمت عشرات الشعوب الفقيرة المستضعفة، وطغت وبغت واستكبرت وتجبرت في الأرض، وعاثت فسادا وطغيانا لا مثيل له في التاريخ، هذه الدولة التي كانت تحرك الطائرات والسفن والغواصات في الحربين العالميتين وكانت تقريباً خارج دائرة الخطر الفعلي! هذه الدولة التي كان يشار لها بالبنان ويعظمها ويمجدها العربان والخونج ويرفعونها إلى مستوى القدرة والجبروت، إلى مصاف الإله!! صارت اليوم وبعد ثلاثة قرون من الغطرسة والعربدة والعلو الصهيو مسيحي (العلو اليهودي الكبير)، هذه البريطانيا (المستحيلة) صارت اليوم تحت رحمة مقلاع معدني تكنولوجي مدمر يصنعه شرقي شجاع ممتلئ بالكرامة والعزة، شرقي قد مل وكره تاريخ الذل والخضوع والهوان، عانى الكثير من ويلات الشر الغربي، ولطالما أهانته هذه الفوضى الكونية المعممة التي تسمى "الغرب".
نعم، مقلاع معدني تكنولوجي مدمر، وباستطاعة هذا المقلاع المردوخي أن يشق "تاما" الكونية إلى نصفين، ويبني على أنقاضها مدينة جديدة وعالماً جديداً. ليست بابل هي الزانية يا هؤلاء، وإنما أرض العلو اليهودي الجديد. ليست بكين ولا موسكو معاقل للشيطان ولم تكونا كذلك أبداً في تاريخهما، وإنما دار الشيطان هي تلك الدولة اللعينة التي لم تعرف البشرية المعذبة منذ صعود هذه الدولة الإمبراطورية الشريرة على مسرح التاريخ طعم الراحة والهناء.
وعندما نقول بريطانيا فإننا لا نفرق بينها وبين ابنتها أمريكا التي حملت كل مساوئ أمها وزادت! أفعال الشيطان البريطاني السوداء كثيرة وكثيرة وتملأ كل صفحات التاريخ المعاصر بلطخات معتمة، ولو اتخذت من مياه المحيط الأطلسي وسائر البحار والمحيطات مداداً لتكتب سجل الخراب والدمار والحقارة البريطانية لنفدت تلك المياه قبل أن ينفد مداد كتبك ومقالاتك.

أترك تعليقاً

التعليقات