عدلي عبد القوي العبسي

لو رجعنا الى الوراء وقلبنا صفحات التاريخ الحديث والمعاصر، لأطلقنا تسمية (عصر الثورات الشعبية) على الحقبة التاريخية الممتدة لأكثر من خمسة قرون،    هي عمر الرأسمالية. 
هذا النظام العجيب المحفز للتطور التكنولوجي والمعرفي، والمولد للأزمات والاستغلال والفقر والحروب والديكتاتوريات، والمولد للثورات، المحفز لها والمعيق لها أيضاً.  
الملفت للانتباه حقاً في تاريخ هذا النظام الاقتصادي الاجتماعي العالمي، هو هذا التضافر المتين والتحالف العميق بين الاستبداد الإقطاعي الأرستقراطي الملكي الامبراطوري والبورجوازيات الناشئة، لتشكل تحالفاً طبقياً حاكماً في وجه ثورات الشعوب الطامحة للتحرر والاستقلال، سواء شعوب بلدان هذه المراكز الامبراطورية أو الملكية القوية، أو بلدان الشعوب الفقيرة المجاورة المحيطة جغرافياً التابعة الطرفية سياسياً واقتصادياً. 
حكايا تاريخ القمع وإسقاط الانتفاضات والثورات في بلدان المحيط الطرفي من قبل دولة المركز الامبراطوري أو الملكي القوي المجاور، حكايا تمتلئ بها صفحات التاريخ في بقاع عدة وأقاليم شتى، خصوصاً في القرنين المنصرمين، وهو ما نلاحظه في تاريخ القرن التاسع عشر تحديداً في أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا، وفي القرن العشرين في العالم العربي وأفريقيا وآسيا.
والقارئ للتاريخ كان يلحظ دائماً تكراراً وتشابهاً من أوجه عدة في الأحداث التاريخية، أو ما نسميه الثورات المضادة، أحداث القمع والتصفية أو الاحتواء والتمييع لهذه الانتفاضات والثورات الشعبية التحررية الوطنية والديموقراطية أيضاً. 
كان يوجد دائماً مركز استبدادي امبراطوري لملكية أوتوقراطية تجاورها بلدان محيطة تابعة ضعيفة واقعة تحت النفوذ الامبراطوري الاستبدادي السياسي، وفي معظم الأحيان الاستعماري الاقتصادي. هذه البلدان كانت تشهد موجات ثورية متعاقبة على مدى القرنين أو الثلاثة المنصرمة، تسعى فيها للتحرر من الوصاية والنفوذ المتعدد الأشكال الذي يفرضه نظام هذه الامبراطورية الاستعمارية الأجنبية أو الشقيقة المجاورة الحليفة التي يقودها نظام ملكي مستبد يفرض هيمنته المتعددة الأشكال والمستويات على بلدان الجوار المحيطة التابعة.
تحكم هذه الامبراطوريات أو الملكيات المستبدة القوية ـ كما قلنا ـ طبقة أرستقراطية إقطاعية متحالفة مع بورجوازية ناشئة متطورة طبيعياً في الغرب الاستعماري، أو تابعة طفيلية في الطرف الشرقي في الامبراطوريات الأضعف المتحالفة. 
كان التحالف الطبقي الحاكم يتخذ من الأيديولوجيا الدينية أو القومية الرجعية، وشعارات الرابطة الدينية الجامعة أو الرابطة القومية في بعض الأحيان، سلاحاً فعالاً لتعضيد النظام وضمان حشد الجماهير الشعبية المفقرة والأمية، والتفافها حوله في جماهير البلدان التابعة أو في البلد المركزي المجاور.. كانت هذه الملكيات المستبدة الاستعمارية أو الحليفة للاستعمار في مراكز النظام الرأسمالي وأطرافه، تسعى دائماً الى قمع الثورات الشعبية التحررية الوطنية والثورات الديموقراطية البورجوازية، وإجهاض مشاريعها التقدمية، خصوصاً في البلدان المجاورة، حيث القبضة السلطوية الأضعف، مخافة أن ترتد عواقبها إليها في المركز، وتسقط أنظمتها.  
كان هذا يحدث في كل مراحل الموجات الثورية المتتالية التي اجتاحت هذه البلدان في كل الأقاليم العالمية التي ذكرناها أعلاه.
ولك الآن عزيزي القارئ أن تستحضر في ذهنك أو تسترجع من ذاكرتك أو قراءتك للتاريخ، تاريخ هذه الأقاليم العالمية المعاصر كل الانتفاضات والثورات الشعبية الناجحة والفاشلة، خصوصاً في القرنين المنصرمين. 
وسأذكر لك هنا بعض الأمثلة، أولها كيف تحرك التحالف الملكي الرجعي الأوروبي الذي كانت تقوده امبراطورية النمسا والمجر، والامبراطورية البريطانية، والقيصرية الملكية الروسية، لاحتواء مد الثورة الفرنسية المتصاعد، والذي يهدد باجتياح قارة أوروبا بشعارات المواطنة وسلطة الشعب والعلمانية والعدالة الاجتماعية.  
تحرك رجعي بشعارات الحفاظ على القيم والدين والأمة والثقافة والتقاليد، مكيلاً سيلاً من التهم كالماسونية والغوغائية والأفكار الهدامة والخيالية والعبثية والعدمية، وما الى ذلك، تحت عنوان الامبراطورية الرومانية المقدسة أو التحالف الملكي الأوروبي المسيحي في ما بعد، في توظيف واضح للمفاهيم المغلوطة عن الدين، ولتضليل الجماهير الأمية الجاهلة بمداعبة عواطفها الدينية استغلالاً لجهلها بالدين وأبعاده العميقة. 
وكانت في سبيل وأد الثورات والانتفاضات دائماً ما توظف الجماعات الدينية الأصولية وميليشياتها المسلحة لقمع الأفكار التحررية للشعوب التي تنادي بلقمة العيش والمساواة والحقوق والتحرر من الظلم والاستبداد، بل وحتى تقرير المصير للجماعات القومية المضطهدة أو الشعوب الواقعة تحت نير الاستعمار. 
المتابع والمثقف العادي والقارئ البسيط لهذا التاريخ سيلحظ خمس موجات ثورية تقريباً، موجات كبرى وطويلة تمتد لأكثر من 30 عاماً شهدتها أوروبا والعالم العربي والعالم أجمع. 
ففي عالمنا العربي لدينا موجة عمر مكرم وعبد القادرالجزائري، وموجة أحمد عرابي، وموجة سعد زغلول، وموجة جمال عبد الناصر، وموجة حسن نصر الله. 
وفي أوروبا والأمريكتين موجة روبسبيير، وموجة ماتزيني، وموجة لينين، وموجة جيفارا، وموجة شافيز. 
 وقف أمام كل هذه الثورات في هذه الموجات الخمس، امبراطوريات استعمارية وامبراطوريات أو ملكيات قوية حليفة لها في الأقاليم التابعة الطرفية.  
تم القمع أو الإجهاض أو الاحتواء، وبكل الوسائل الوحشية والناعمة، لمسار هذه الثورات بمختلف أنواعها وحالاتها وخصوصياتها، وفي كل هذه المراحل أو الموجات الخمس.  
هو إذن تاريخ يحكي لنا قصة طويلة مكررة مؤلمة مأساوية ملهاتية عن تضافر الاستعمار والاستبداد لقمع ثورات وانتفاضات الشعوب بدعوى ظاهرها الحفاظ على التقاليد والقيم وما تسميه صحيح الدين واستقرار المجتمع ووحدته وتماسكه من فوضى الرعاع والدهماء والغوغاء ومؤامرات الماسونية والصليبية والطاغوتية الشرقية الكافرة. 
 والمسلسل طبعاً لم ينتهِ بعد، فما زال لدينا أجزاء وأجزاء وموجة تلو الأخرى حتى يندثر الاستعمار والاستبداد نهائياً من المعمورة، وتتحقق أحلام وتطلعات الشعوب في العدالة والكرامة والحرية.

أترك تعليقاً

التعليقات