ما قبل السابع من أكتوبر
 

عدلي عبد القوي العبسي

عدلي العبسي / لا ميديا -
برز السابع من أكتوبر كعملية نوعية فارقة في الصراع العربي الإسلامي مع الكيان الصهيوني، وفي لحظة تاريخية تمثل خط البداية لانحدار قوة ونفوذ المشروع الصهيوني، وتآكله وانحسار نفوذ القوى العالمية الداعمة له من الخلف، وهي قوى الغرب الإمبريالي الأطلسي: (انحسار النفوذ إقليميا وعالميا، بل حتى بدء تآكل قوة هذه الدول من الداخل اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وأمنيا وأخلاقيا).
حدث عظيم، أثبت فشل وعجز المشروع الصهيوإمبريالي الطامح إلى ابتلاع المنطقة، جاء ليؤكد حقيقة بداية دخول المنطقة في عهد جديد، ومشهد جديد من التعددية القطبية الإقليمية، ومن الشراكة الإقليمية مع الشرق والغرب، بعيدا عن مخطط الابتلاع الشيطاني الذي سنورد ملامحه أدناه.
وإذا أمعنا النظر في هذا الحدث التاريخي الجلل، سنجد أن هناك ترابطا واضحا بينه بوصفه ذروة مسار تصعيد النضال الفلسطيني وبين تطورات مسارات سياسية وجيوسياسية أخرى في المنطقة وهي: مسار تطور الصراع الجيوسياسي الاقتصادي، ومسار تطور الجهود السياسية الصهيوأمريكية من أجل فرض أجندة التطبيع وإدماج الكيان في المنطقة والتحالفات المضادة في شرقهم الأوسط الجديد.
وفي هذا نلاحظ ما يلي:
في ما يخص تطورات الصراع العربي الفلسطيني، يأتي هجوم السابع من أكتوبر كلحظة ذروية أو كانعطافة نوعية في التصعيد النضالي الفلسطيني، ضمن مسار تراكمي نضالي امتد لسنوات طويلة، وازداد قوة وفاعلية تحديدا منذ أيار 2021، أي منذ عملية "سيف القدس" التي نفذتها فصائل المقاومة بقيادة حركة الجهاد الإسلامي، وتمكنت فيها من إلحاق الهزيمة بالكيان سياسيا وعسكريا، وتسديد ضربة موجعة لمصداقية قوته وجيشه وإمكاناته المزعومة، وهو الكيان الذي وصفه قائد المقاومة اللبنانية السيد حسن نصر الله ذات يوم بأنه "أوهن من بيت العنكبوت!".
في هذين العامين المجيدين من التاريخ النضالي الفلسطيني، شهدت فلسطين التاريخية ما يشبه "انتفاضة ثالثة"، عبر زخم هائل من العمليات الفدائية، والهجمات الاستشهادية، والاشتباكات العسكرية شبه اليومية المجابهة للعدو أثناء الاقتحامات العدوانية لمدن الضفة وبلداتها، بالإضافة إلى كل الجهود التي تصدت لتهجير المواطنين من منازلهم في القدس (جريمة الشيخ جراح) وغيرها، وكذلك عبر الوقفات الاحتجاجية، والمظاهرات والمسيرات والإضرابات، وتشكيل التنظيمات الصغيرة المسلحة التي تصدت ببسالة لقوات الاحتلال وأذاقت العدو ويلات الخيبة ومرغت كرامة قواته في الوحل كما رأينا في مثال تنظيم "عرين الأسود".
أجل، كانت الردود الشعبية والطليعية الفدائية شبه يومية تقريبا في الضفة الغربية والقدس، ووجدت لها صدى في أراضي 48 وتفاعلا بأشكال مختلفة.
كل هذه الأعمال النوعية تسجل بمجموعها صفحة نضالية ذهبية، مهدت للوصول إلى هذا اليوم المجيد.
رافق هذه الجهود أيضاً المساهمات في غزة، والتي قرر قادتها وأبطالها في هذه الفترة الزمنية الذهاب إلى التهدئة بعد معركة "سيف القدس"، وإيهام العدو بالرغبة في الهدنة الطويلة، وهذا ما أظهرته حركة حماس تحديدا لخداع العدو، وفي نفس الوقت كان هناك التحضير والتخطيط الهادئ الرزين الطويل المدروس الذكي لعمل عسكري هجومي ضخم نوعي، وغير مسبوق، يباغت الكيان ويصيبه في مقتل، وهو ما حدث فعلا بعد ذلك وما كشفت عنه مفاجأة السابع من أكتوبر.
وبالنظر إلى بشاعة وحقارة جرائم الاغتيال الصهيوني، التي ارتكبت في السنوات القليلة الماضية بحق القادة الأبطال الكبار في محور المقاومة، وأبرزهم الجنرال القائد البطل الشهيد قاسم سليماني، كان توقع الرد الانتقامي العنيف المزلزل للكيان مسألة مفروغا منها ومسألة وقت ليس إلا!
حتى قادة الكيان ومدراء استخباراته وأجهزته الأمنية ومن خلفهم داعموهم الأمريكان كانوا ينتظرون ردا عنيفا مزلزلا، لكنهم لا يستطيعون تقدير حجمه وزمنه وطبيعته!
وكل خدع التطمينات والإلهاء بأنواعها، التي مورست مع الصهاينة والأمريكان، كشفت مدى براعة ودهاء وذكاء قادة محور المقاومة، وكوادره الأمنية والسياسية والعسكرية، في مقابل غباء وضعف ورخاوة وغرور قادة وكوادر العدو الصهيوني!
كان التحضير لعمل هجومي نوعي كبير، والاشتباك الواسع مع العدو المحتل مطلوبا لأسباب عديدة.
ففي الخط الاستراتيجي المقاوم لفصائل المقاومة الفلسطينية، ومن خلفها محور المقاومة، حتما ستجد تخطيطا لمثل هكذا هجومات تصعيدية نوعية، وهذا ما لا يفقهه الأغبياء من أنصار "نظرية المؤامرة" الذين اعتادوا على الحديث عن ألعاب كبرى، يتواطأ على تنفيذها كل الأطراف، لتمهيد وتهيئة الأرض الفلسطينية المحتلة، ومنها غزة، لمشاريع جيواقتصادية سياسية كبرى في الإقليم.
أما أنصار التفكير الموضوعي العلمي فيرون أن الدوافع وراء هذا الحدث الكبير المذهل والمفاجئ متنوعة وكثيرة ومترابطة وهي:
وقف الممارسات التصفوية الخطرة للقضية الفلسطينية، عبر مشاريع التطبيع والتهويد والتهجير والاغتيالات وضم المستوطنات وتنفيذ بنود صفقة القرن، بالإضافة إلى دوافع انتقامية تأديبية ردا على جرائم اغتيال القادة المناضلين الكبار، وأخيرا بالتأكيد هناك الردود الاستباقية لإفشال مشاريع جيوسياسية اقتصادية استعمارية تشكل خطرا على المصالح الحيوية لشعوب المنطقة، وخاصة شعوب محور المقاومة، ومعها الشعبان المصري والجزائري، وأيضاً وقف مخطط سرقة ثروة الغاز الطبيعي في حقول الغاز المقابلة لقطاع غزة، وأهمها حقل مارين للغاز وهذا ما سنبينه لاحقا بإيجاز.

وضع كارثي لا يمكن احتماله
وقبل كل هذا وذاك، كان لا بد من عمل يفك الحصار، ويرفع المعاناة الاجتماعية الشديدة عن أبناء الشعب الفلسطيني، وفي هذا الصدد نسأل أنفسنا، كيف كان يمكن رفع الحصار عن غزة من دون إجبار الاحتلال بالقوة والعنف المسلح المشروع على وقف مسلسل التجويع والإفقار، فالأوضاع الاجتماعية شديدة التمييز والهشاشة والإفقار وانعدام الأمن الغذائي قد بلغ حدا كارثيا غير مسبوق، خاصة في ظل اشتداد الأزمة الاقتصادية العالمية، وانعكاسات الحروب والأوبئة على تفاقمها وازدياد شدتها ووطأتها على معظم مجتمعاتنا العربية ككل، والتي يعد الشعب الفلسطيني أكثرها معاناة وتضررا تحت نير الاحتلال، وفي غزة تحديدا، حيث كانت الأوضاع بالغة السوء تشهد على ذلك تقارير المنظمات الأممية الإنسانية.
بعد كل هذا، كيف يمكن لطليعة الشعب المقاوم أن تقف مكتوفة الأيدي، وتتفرج على هذا الواقع الأليم المصطنع في معظمه بفعل سياسة الاحتلال الصهيوني الفاشي، كيف يمكنها ألا تأخذ زمام المبادرة وتتجه نحو أقصى أشكال وأساليب التصعيد، والذهاب نحو شن حرب هجومية استباقية نوعية على المحتل الغاشم.

تــأديب العـدو وردعــه
ولوقف مسلسل الامتهان اليومي لكرامة الشعب الفلسطيني، ما كان يمكن السكوت أكثر على تعاظم مشهد القتل والتنكيل اليومي بأبناء الشعب الفلسطيني في مدن وبلدات الضفة وغزة، والتنكيل بالأسرى الفلسطينيين في السجون، الذين نفذوا احتجاجات وإضرابات عن الطعام دون مجيب أو نصير لهم! ودونما أي اكتراث من سلطات العدو للمطالبات الإنسانية بأبسط الحقوق المشروعة لهؤلاء الأسرى، وعددهم بالآلاف، والكثير منهم يعيش أوضاعا مأساوية وحشية، يخجل من فظائعها حتى أعتى نازيي أوروبا!
لم يكن بالإمكان الصمت أكثر، والاستسلام لواقع الحصار والتشريد وخطط تهويد القدس والخليل، وممهداته ما يسمى التقسيم الزماني والمكاني للمسجدين العظيمين، أو التحضير لأفعال هجومية وحشية رعناء على المقدسات الإسلامية: مثل اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، ومنع المصلين من الصلاة، والاعتقالات للشباب المقدسي والتنكيل بالمرابطين، وتنفيذ مسيرات استفزازية للمستوطنين ومحاولات المساس حتى بـ"الوصاية الهاشمية" استخفافا واحتقارا بمن يسمونهم شركاء السلام العرب!
وهم يفعلون هذه الممارسات الهمجية المتطرفة، مدفوعين بخرافات تلمودية دينية مضحكة (اقرأوا مثلا عن البقرة الحمراء!)، استبدت بأذهان قطعان اليهودية الصهيونية وداعميهم من الإفنجيليين المسيحيين الصهاينة المهووسين في أمريكا!

غرور تحالف قوى الشيطان وحساباته الخاطئة
كان النتن ياهو وعصابته من اليمين الصهيوني المتطرف يلعب متغطرسا متباهيا بما يظنها أوراق قوة كثيرة ومتنوعة، يركن إليها في البقاء على السلطة، لأمد طويل، والنجاة من مصير السجن الذي ينتظره، بسبب جرائم الفساد التي ارتكبها، والتهم الجنائية الموجهة إليه والملاحقات القضائية له المستمرة منذ سنوات، التي شكلت كابوسا مرعبا له، حتى تمحورت كل سياساته المجنونة حول المصير الشخصي والذات الخائفة من السقوط سياسيا ومهنيا، بعد سقوطه أخلاقيا وشعبيا!
كل هذه المخاوف قد جعلته مرتبكا، فاقدا العقل والتمييز، وذهب في اتخاذ سياسة أكثر يمينية وتطرفا وفاشية، ورهن نفسه وحكومته لقطعان اليمين اليهودي الصهيوني المتطرف بتحالفه معهم، والخضوع للكثير من سياساتهم وإملاءاتهم، وذهب بعيدا في غيه وتماديه حتى أدخل نفسه في أزمة سياسية عارمة مع السلطة القضائية القوية، بسبب مشروعه حول التعديلات القضائية المطروح، والذي يهدف إلى إلغاء هيمنة السلطة القضائية ممثلة بالمحكمة الدستورية، وتخليص الحكومة والكنيست من قدرة المحكمة العليا على إلغاء القرارات التي تحتاجها سياساته المتطرفة ولإنقاذ نفسه من يد العدالة، بمنح نفسه وأعضاء حكومته والكنيست حصانة تقيهم المساءلة والعقاب!
هذا الموقف والقرار الديكتاتوري الفاشي أغضب الشارع الصهيوني وأحزاب المعارضة التي حركت احتجاجات شعبية ضخمة ضده، استمرت لأشهر عديدة، وتسببت في تصدع الجبهة الداخلية للكيان وحدوث انقسام سياسي حاد غير مسبوق في تاريخ الكيان، كان له أثر اجتماعي بالغ السوء، وصل حد المطالبات بالهجرة وظهور ما تسمى "حركة لنغادر معاً" التي تشجع المواطنين الصهاينة على "الهجرة العكسية" إلى دول الشتات السابقة وغيرها من الدول، أيضاً وصلت الأمور إلى حد عزوف عشرات الآلاف من الشباب عن الخدمة العسكرية! وتنامي فقدان الثقة بالأمان ومستقبل دويلتهم الصهيونية المصطنعة اللقيطة!
لم يكترث نتنياهو لكل هذه التطورات السيئة والمؤشرات المرعبة في نظر أنصار المشروع الصهيوني، لكنه بغروره وغطرسته، وركونه إلى تحالف اليمين الديني اليهودي الصهيوني والجماعات الدينية المتطرفة، والتي سعى إلى كسب ودها بمنحها حق التصرف في الكثير من الملفات السياسية الحيوية والحساسة، كالتهويد للقدس والاستيطان وتمرير التشريعات اليهودية المحافظة ووعود الإعفاء من الخدمة العسكرية وغيرها.
كان يظن أن تلك الأوراق ستمكنه من مد النفوذ أكثر داخليا وخارجيا، وتحقيق ما يراه مناسبا وضامنا لإعادة تشكيل ما تسمى "إسرائيل اليهودية" من الداخل، لتغدو دولة دينية يهودية يمينية متطرفة، تقود عملية أكبر وهي إعادة تشكيل المنطقة العربية ومحيطها الحيوي الشرق أوسطي في إطار جديد يسمونه "الشرق الأوسط الجديد"، لتصبح دولة الكيان هي القلب والقائد والمحور لهذا النظام الإقليمي الاستعماري الصهيوني الجديد!
كان مفتونا بأوراق القوة التي لديه، وأهم هذه الأوراق هي ورقة اللوبي الإفنجيلي المسيحي الصهيوني اليميني المحافظ، أو ما يسمى "تكتل الاتحاد المسيحي من أجل إسرائيل" (كوفي)، الذي يعتبره الكثير من المراقبين أقوى اللوبيات الصهيونية في أمريكا، وهو تيار (يميني إفنجيلي مسيحي صهيوني متطرف)، أصبح نتنياهو وحكومته يعتمد عليه أكثر في الحصول على الدعم السياسي والتمويلي والأمني والأيديولوجي، أكثر من اعتماده على تكتل "آيباك" (وهو تكتل في معظمه يهودي صهيوني علماني)، كان لفترة طويلة هو الداعم التاريخي الأساس للكيان في أمريكا.
حدث هذا بشكل واضح بعد تراجع علاقاته مع هذا الأخير، وتضارب الأجندات معه في مسائل حل الدولتين والاستيطان وطبيعة الدولة الصهيونية وغيرها. ويمثل جورج سوروس الملياردير الأمريكي اليهودي الصهيوني العلماني الديمقراطي، صاحب منظمة "المجتمع المفتوح"، والمتأثر بفلسفة الألماني البورجوازي الليبرالي كارل بوبر عن الديمقراطية، والداعم والمروج الأكبر لمشاريع التغيير الديمقراطي عالميا، والمهندس السري في نظر كثيرين لما تسمى "الثورات الملونة"، هو أكبر خصم فعلي حقيقي لتيار اليمين الديني الصهيوني المتطرف الحاكم في "إسرئيل".
وكان يسعى فعليا ولايزال وبقوة ومعه أصدقاؤه المليارديرات اليهود العلمانيون للإطاحة بحكومة نتنياهو، وإحلال حكومة صهيونية أخرى علمانية يسارية وسطية بديلة لها، حكومة تؤمن بحل الدولتين (وهو الحل البائس في نظر الأغلبية من طليعة وقوى وأبناء الشعب الفلسطيني، الذي يسمح بقيام دويلة فلسطينية صغيرة على نسبة ضئيلة فعلية من الأرض لا تتعدى الستة في المائة! حكومة منزوعة السلاح وهشة وفاقدة السيادة الحقيقية! وهو منطق فج أهوج يدل على الهمجية والبدائية والغطرسة لدى أصحابه، يذكرنا هذا الطرح والحكم بالقسمة اليهودية قسمة داوود، أي بحكاية تاريخية دينية شهيرة عن النبي داوود وحكايته مع الشاكي صاحب النعجة وجاره المعتدي صاحب التسعة والتسعين نعجة!).
أنصار اليهودي الصهيوني سوروس في جميع أنحاء العالم وفي الداخل الفلسطيني المحتل، يعتبرون أن أي حكومة صهيونية علمانية براجماتية واقعية، ليست متهورة، ولا تعرض الدويلة الصهيونية لخطر الضعف والانحسار وتراجع المكانة والنفوذ في الإقليم والعالم، تأتي بديلا عن حكومة نتنياهو الدينية اليمينية المتطرفة، ستكون خيارا مقبولا دوليا وإقليميا، وقابلا للنجاح والاستمرارية، وسيجد له أنصارا من اليمين الفلسطيني المنبطح من "تيار أوسلو" الانبطاحي الذي يدير السلطة الفلسطينية العميلة، وسيكون بمقدورها (أي حكومة الوسط الصهيوني المقبلة) توفير المناخ الملائم لتمرير الأجندات والصفقات الإقليمية الصهيوأمريكية، والخطط التصفوية التي تترك للشعب الفلسطيني الفتات والحصيلة البائسة!

هؤلاء التصفويون من اليمين الليبرالي الصهيوني ومعهم جماعات اليسار الليبرالي الصهيوني، كانوا، وبكل حماقة أيضاً، يقدمون وعودا وعروضا مجحفة ومخزية ظالمة، تتنكر لتضحيات الشهداء والجرحى والأسرى، وتتخلى عن الحقوق الوطنية، وتسبب المزيد من المرارة والاحتقان والغضب للشعب الفلسطيني، ومن ورائه الشعوب العربية والإسلامية وأحرار وشرفاء العالم.
وبحسب ما تورده استطلاعات الرأي، وما استنتجه بعض المحللين والمراقبين، أن نتنياهو المغرور الذي يتجاهل في هذا الجانب حقيقة التحولات الديموغرافية والفكرية داخل هذه اللوبيات الصهيونية الأمريكية، وأبرزها بروز تيار "الأفنجيليين الشباب"، الذي هم أقل تعصبا لدويلة الكيان وأكثر انتقادا لها، وهم إلى جانب تيار صهيوني معتدل وناقد آخر يسمى "جي ستريت"، بالإضافة إلى تيار اليسار داخل الحزب الديمقراطي بزعامة بيرني ساندرز وجماعته، كل هؤلاء يشكلون بمجموعهم تيارا نخبويا وشعبيا أمريكيا ضاغطا على حكومة نتنياهو، وهو ما عكس نفسه لاحقا في الاحتجاجات الشعبية الضخمة المناهضة للحرب، التي اجتاحت المدن الأمريكية، وفي تعاظم الرأي الناقد في أمريكا المطالب بوقف إطلاق النار فورا، ووقف ارتكاب المجازر بحق الشعب الفلسطيني في غزة ووقف التنكيل بهم أيضاً في الضفة والقدس.
هذه التطورات أيضاً شكلت ضغطا كبيرا على حكومة بايدن، وتسببت في تراجع كبير لشعبيته الانتخابية، وهددت بسقوطه في الانتخابات الأمريكية القادمة، ومن بين هذه الأخبار الرائعة التي أبهجتنا جميعا تلك الاحتجاجات في صفوف الكتلة الانتخابية العربية المسلمة، وفي صفوف المؤسسات الحكومية والمدنية إلى درجة حدوث موجة الاستقالات الجماعية في وزارة الخارجية وفي الوسط الأكاديمي (مثال واضح على ذلك: جامعة هارفارد واحتجاج الطلبة المناهضين للحرب والمنددين بمجازر الإبادة الجماعية، واستقالة رئيسة الجامعة على خلفية اتهامات لها بمعاداة السامية وتسامحها مع الطلاب).
لكن نتنياهو الواهم، البليد، السياسي المصاب بعمى الغرور، والمفتون بمراكز الدعم الصهيوني اليهودي والصهيومسيحي السري والعلني له، يرى في نفسه أن لديه أوراق قوة كثيرة، ويظنها أوراقا رابحة تضمن له الانتصار في معاركه السياسية والحربية، فهو يلعب أيضاً بورقة شركائه الخليجيين الجدد وغيرهم من عربان الانبطاح الرجعيين الذين يشكلون ما يمكن تسميته "التيار الصهيوعربي".
ولديه أيضاً ورقة السياسة الجديدة الإمبريالية الأمريكية في إعادة الاستحواذ على المنطقة من خلال القنطرة الصهيونية ومشاريع التطبيع والتمكين، والمشاريع الجيواقتصادية المضادة للصعود والنفوذ المشرقي الأوراسي الكبير بزعامة الصين وروسيا، وهو الصعود والنفوذ الزاحف الذي أثار رعب الغرب الأطلسي الاستعماري من خسارة نفوذه العالمي وفقدان مصالحه الاستعمارية غير المشروعة، والذي هو حقا الواقع الجديد الملموس الذي نراه الآن "واقع زوال الهيمنة وافول الغرب".

الظروف المعاكسة وأوراق القوة بيد الخصوم
وعلى العكس من كل خيالات نتنياهو وواقعه الموهوم، كانت الظروف في الداخل والإقليم والعالم معاكسة، وتشير إلى مبالغته وتوهمه وتجاهله لأوراق القوة التي بيد الخصوم، واستخفافه وسوء قراءته للظروف الجديدة والمتغيرات الجديدة التي تصب في مصلحتهم، وتمنحهم إمكانية أكبر على المناورة وتنفيذ أنشطتهم المقاومة المضادة، هذه الظروف هي:
أولاً: واقع تراجع الهيمنة الغربية الإمبريالية في الإقليم والعالم:
واقع الدخول في المسار الانحداري الذي تسارع أكثر، خاصة بعد خسارة الغرب لمعركته مع روسيا في أوكرانيا، وفشله في تركيع روسيا وحلفائها اقتصاديا وجيوسياسيا وعسكريا وعزلها سياسيا، وهي المعركة التي أضعفت من النفوذ الأوروأمريكي الأطلسي عالميا، وهزت نتائجها هيبة الغرب أمام الشعوب، وتسببت في تسارع مسار بروز القوى القطبية الجديدة على مسرح العالم ككل وامتداد نفوذها الجيوسياسي إلى الإقليم.
فالظروف بعد أوكرانيا كانت مواتية للإقدام على هذه الخطوة العسكرية السياسية الفدائية، في توقيت تراجع نفوذ الغرب الإمبريالي.
ثانياً: تزايد عزلة الكيان دولياً وتراجع علاقاته بدول المعسكر الشرقي الأوراسي:
وفي وقت تتضعضع فيه علاقات الكيان الصهيوني مع الدول الشرقية الأوراسية الكبيرة (الصين وروسيا) بسبب انحياز الكيان إلى أوكرانيا من جهة، وميله إلى الانخراط في المشروع الجيوسياسي (الممر الهندي) الأمريكي الهندي الخليجي المضاد لمشروع طريق الحرير الصيني من جهة أخرى.
ثالثاً: أزمة الكيان السياسية والتصدع الداخلي:
وفي وقت تشتد فيه التصدعات في الجبهة الداخلية الصهيونية بسبب أزمة (التعديلات القضائية).
رابعاً: المصالحة العربية الإيرانية التركية:
وفي وقت ينطلق فيه قطار المصالحة العربية الإيرانية برعاية صينية، والمصالحة العربية التركية السورية برعاية روسية، سيكون إذن توقيتا جيدا القيام بهذا الهجوم النوعي الاستباقي الكبير، وهذا الفعل المبادر الواعي الثوري المدروس ضد المشروع الجهنمي الشامل الذي يستهدف تصفية القضية الفلسطينية، والذي يضم كما نعرف جميعا حزمة مشاريع التطبيع وصفقة القرن و"الدين الإبراهيمي الجديد" ومشاريع الدمج الجيواقتصادي، وما إلى ذلك من مشاريع خطيرة مدمرة تهدف إلى التمكين للمشروع الصهيوني كقنطرة أساس للهيمنة الإمبريالية على المنطقة.

الصراع الجيوسياسي في المنطقة
والآن سنتطرق بشيء من الإسهاب إلى جانب آخر من المشهد السياسي قبل حدوث السابع من أكتوبر، وهو تشكل ظرف احتدام الصراع الجيوسياسي بين محور المقاومة الصديق والحليف الاستراتيجي للمشاريع الجيواقتصادية الأوراسية الشرقية والمحور الإقليمي المتآمر على المقاومة والحليف للمشاريع الجيواقتصادية الغربية الصهيواستعمارية المضادة.
والأطماع هنا شملت البعدين الجيواقتصاديين معا: الموارد المكتشفة والممرات البرية والبحرية في الإقليم الناقلة لها، سواء كانت بضائع أو طاقة أو خدمات، حيث ازدادت أطماع وتحركات قوى المشروع الصهيوأمريكي في الثروات الجديدة المكتشفة في أعماق وسط البحر الأحمر وفي غرب ووسط سوريا وفي شرق وجنوب اليمن وفي السودان وغيرها، والأهم في بحيرة الغاز الضخمة الواقعة تحت شرق المتوسط، حقول الغاز مثلا في غزة، وأهمها حقل غاز مارين، الذي تصل احتياطاته إلى عشرات الآلاف من الأمتار المكعبة، وأيضاً حقول غاز شرق البحر المتوسط ككل قبالة شواطئ فلسطين ولبنان وسوريا ومصر على سبيل المثال، حيث استحوذ الكيان على عدة حقول ضخمة، وأظهر رغبة شديدة في السيطرة على أجزاء من حقول الدول العربية المجاورة، فضلا عن تجفيفه أحد حقول غزة، وسعيه في فترة الأشهر القليلة الماضية للاستحواذ على حقل مارين، متجاهلا تهديدات المقاومة الفلسطينية ومستندا إلى ضوء أخضر أوروبي أمريكي خليجي هندي!
وفي نظرهم أن الاستيلاء على غزة، وإعادة احتلالها وتصفية قوى المقاومة فيها سوف يسهل ابتلاع ثروات الغاز في البحر المقابل لغزة، ويسهل تنفيذ مشاريع "صفقة القرن" الاقتصادية في غزة وسيناء، والاستفادة من المزايا الجيوسياسية أيضاً للقطاع ويخدم في تأمين ممرات التجارة العابرة لأراضي فلسطين المحتلة شمال غزة (الممر الهندي -خط أنابيب إيلات -قناة بن غوريون).

وتتسع الأطماع الصهيونية في الممرات المائية والبرية الناقلة للنفط والغاز والبضائع في المنطقة ككل، وستجد أن هناك نشاطا مكثفا وحراكا واسع النطاق للسيطرة ومد النفوذ الجيوسياسي على كل المناطق الحيوية من ممرات مائية ومضائق بحرية وجزر وموانئ وسواحل… إلخ، خاصة تلك التي تعاظمت منافعها مع تعاظم التجارة بين الشرق والغرب، وبروز المنافسة بين قوى المعسكرين الشرقي الأوراسي والغربي الاستعماري في السيطرة على هذه المواقع الجيوسياسية الهامة، والتركيز في الدرجة الأولى على هذه الممرات البرية والمائية التجارية العابرة للإقليم.

صراع الممرات
في فترة النشاط السري العلني المحموم، وتحديدا في السنوات القليلة الماضية ظهرت إلى العلن الخطط الشيطانية الجهنمية، خطط بناء ممرات مائية وبرية استعمارية بديلة (الممر الهندي الخليجي العبري -قناة بن غوريون -خط إيلات -عسقلان) لغرض ضرب مشاريع الممرات التي بدأت الدول المشرقية المعادية للغرب في بنائها: (طريق الحرير البري والبحري الصيني -الممر الهندي الإيراني الروسي أو ما يسمى ممر الشمال جنوب -طريق التنمية العراقي أو ما يسمى القناة الجافة -ممر الشام الجديد مصر والأردن والعراق ومعها سوريا -وكذلك الممرات المصرية المتكاملة مع طريق الحرير مثل قناة السويس الثانية -خط عين السخنة البري من البحر الأحمر إلى مرسى مطروح في البحر الأبيض المتوسط -ممر طابا العريش، بل حتى مشروع الإسكندرية جوهانسبرج العابر لإفريقيا).
من الطبيعي إذن أن تحدث ردود الأفعال الغربية الاستعمارية الأمريكية الأوروبية، الخائفة والمصدومة من مشاريع دول المعسكر الأوراسي الشرقي والدول الشرق الأوسطية الدائرة في فلك هذه المشاريع، والتي انضم عدد منها مؤخرا إلى مؤسسات أوراسيا الكبرى مثل "تكتل بريكس" و"منظمة شنغهاي للتعاون" و"بنك التنمية الآسيوي" و"طريق الحرير البري والبحري"، فتكثفت وازدادت خلال السنتين الماضيتين الجهود الإمبريالية الأطلسية السياسية والأمنية والجيواقتصادية والإعلامية الساعية لإفشال هذه المشاريع التنموية المشرقية العملاقة، التي تهدف في الأساس لبناء عالم متعدد الأقطاب يسود فيه السلام والمساواة والتنمية المتكافئة والمنفعة المتبادلة.

الممر الهندي وهرمز وباب المندب
فاجأ الأطلسيون المعسكر الشرقي الذي تقوده الصين وروسيا بمشروع جيوسياسي تآمري ضخم يهدد جزئيا المشاريع العملاقة لبناء الممرات المائية والبرية، هذا المشروع هو (ممر البخور الهندي الجديد)، الذي يراد له أن يحرك تجارة الشرق بالغرب وآسيا بأوروبا، عن طريق الهند إلى الخليج إلى الأردن فالأراضي الفلسطينية المحتلة ثم عبر حيفا الفلسطينية المحتلة إلى أوروبا، في تجاهل واضح لمصالح الصين وروسيا وإيران ومصر والعراق وسوريا وتركيا وغيرها، وهدفوا بذلك من خلال هذا المشروع:
أولاً: إضعاف أهمية ومكانة مضيقي هرمز وباب المندب، باعتبارهما شريانين بحريين هامين لجزء كبير من تجارة الشرق مع الغرب، ويمر فيهما جزء كبير من نفط الخليج إلى آسيا وإلى أوروبا، ولكون هذين الممرين هما أهم مكونات طريق الحرير البحري الصيني الجديد.
ثانياً: تلافي خطورة استخدام هذين الممرين في حال نشبت حرب بين محور المقاومة والغرب الاستعماري وحلفائهما الصهاينة والرجعيين في الخليج، حيث تمتلك قوى محور المقاومة القدرة والإرادة معا على إغلاق هذين الممرين البحريين العالميين في وجه تجارة العدو، ذات الحجم المعتبر في التجارة العالمية.
وهو ما شهدناه يحدث تاريخيا وبشكل مفاجئ ويثير الإعجاب والفخر هذه الأيام في الموقف الوطني القومي الإنساني المشرف والنبيل الذي تتخذه صنعاء البطلة في الحرب الدائرة حالياً بين قوى محور المقاومة والعدو الصهيوني، عندما قررت حكومة صنعاء الوطنية المقاومة وجيشها اليمني البطل إغلاق مضيق باب المندب أمام تجارة العدو الصهيوني تضامنا مع الشعب الفلسطيني، وللضغط على العدو وإجباره على وقف عدوانه وجرائمه بحق هذا الشعب البطل الذي يريد استعادة حقوقه التاريخية المشروعة.
هذا الحدث التاريخي العظيم: قيام الجيش اليمني بمنع مرور سفن العدو الصهيوني، والهجوم على السفن التي لا تستجيب للحظر، وإغلاق المضيق في وجه تجارة العدو يعود بنا إلى فترة تاريخية مماثلة وإلى عصر ذهبي آخر هو فترة السبعينيات إبان حرب أكتوبر 2073، فترة تعاون حكومة الحزب الاشتراكي في الجنوب مع النظام المصري في إغلاق باب المندب، وإلى فترة الشهيد المناضل إبراهيم الحمدي في ما بعد الذي عقد ما يسمى "مؤتمر تعز التاريخي حول البحر الأحمر" بعد الحرب بمشاركة حكومة الجنوب وبعض دول المنطقة، وهو التصرف الذي أغضب بني سعود وأغضب الصهاينة والغرب!
وكان مؤتمرا إقليميا حول السيادة والمنافع في البحر الأحمر للدول المطلة، وهو المؤتمر البعيد عن أي تدخلات استعمارية، والذي ربما كان السبب الأكبر في أن يدفع المناضلان حياتهما، بسبب من هذه الشجاعة والجرأة السياسية والتحدي الجيوسياسي القوي.
وأيضاً في سياق تجاوز مضيق باب المندب والتخلص من خطر إغلاق مضيق هرمز من قبل محور المقاومة، تصب محاولات السعودية بناء الممر الخليجي إلى البحر العربي عبر محافظة المهرة، وهو المشروع الذي يطلق عليه "قناة سلمان" أو مقترح مشروع آخر هو مشروع خط أنابيب يربط الخليج بالبحر العربي عبر محافظة المهرة، وهو المشروع الذي كان يغذي كثيرا من دوافع احتلال حضرموت والمهرة من قبل الاحتلال الغربي الاستعماري ووكلائه الخليجيين.
ثالثاً: كان ثمة هدف آخر من المشروع الهندي الخليجي العبري المدعوم أمريكيا وأوروبيا هو إبعاد السعودية والإمارات عن الانضمام إلى "تكتل بريكس" أو الانخراط في مشروع "طريق الحرير البحري الصيني"، وإفشال بناء تلك الممرات أو إضعافها وعرقلة إمكانية نجاحها، واستغلوا الخلاف الهندي الصيني التاريخي، وعقدة كراهية الهندوس للإسلام الأصولي، وكراهية الحكومة اليمينية الهندوسية المتطرفة المتصهينة للإسلام ككل، وفي إطار سعيهم المحموم لإبعاد الحكومة الحالية الفاشية حكومة حزب "بهاراتيا جاناتا" في الهند، بل ولإبعاد الدولة الهندية بكلها عن الدوران في الفلك الأوراسي الصيني الروسي الكبير ومنظماته الأوراسية الكبرى، ومحاولات إعادتها إلى الحظيرة الاستعمارية الغربية بالضد من تاريخها الوطني الطويل والمشرف والمناصر لقضايا التحرر الوطني وعدم الانحياز وميلها القديم لمناصرة الكتلة الشرقية في أغلب القضايا الحيوية، ولثنيها أيضاً عن مشروع ممر شمال جنوب الهندي الإيراني الروسي، والذي كان قد قطع شوطا معتبرا في مشوار تنفيذه، والذي هو على أي حال كان سيفيد الهند والخليج كثيراً في إيصال التجارة إلى روسيا وآسيا الوسطى وأوروبا الشرقية بشكل أسرع وأقل تكلفة!

مع هذا، ما يزال هذا المشروع قائماً؛ لكنه تأثر جزئياً، ويلاقي عراقيل كثيرة وصعوبات جمة وتحركات أمريكية محمومة تسعى لإفشاله وتعويقه وإضعافه.
إنه صراع الممرات الجيوسياسي - إذن عزيزي القارئ، صراع يطفو بوضوح على سطح المشهد السياسي الدولي والإقليمي اليوم، وهو الصراع الذي يكاد يغطي على حقائق الصراع الطبقي الاجتماعي والتحرري الوطني، ويطمس أو يحاول طمس حقائق أزمة النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي، وحقائق التمييز الاجتماعي واللاتكافؤ وتفاوت الدخل والإفقار للشعوب.
وهكذا نجد أن تحليل لوحة الواقع العالمي وتفسير جوانب الصراع العالمي الإقليمي ومشهده المعقد اليوم، أصبح بالغ الصعوبة، ويكتنفه الضعف والقصور والنقص، وبات يسبب تشويشاً وإرباكاً عجيباً لأذهان مثقفي اليوم على اختلاف مشاربهم، خاصة المثقف العربي، الذي يقف هذه الفترة مصدوماً حائراً أمام هذه التحولات الدراماتيكية المفاجئة والغريبة الراهنة المتسارعة في العالم والإقليم.
اعتقد الغربيون الإمبرياليون وحلفاؤهم الصهاينة أن بإمكانهم اللعب جيوسياسياً، والعبث بمقدرات ومزايا المنطقة، والقفز على مصالح اللاعبين الآخرين، والاستخفاف بهم، في موقف يدل على الغرور والغباء السياسي والتشوش والارتباك وضعف المعلومات عن إمكانات الآخرين وقدراتهم صغاراً وكباراً، وهي بلا شك علامة من علامات الضعف، وبداية التدهور والانحسار لقوى المشروع الصهيوأمريكي.
هذا هو الجانب الأهم في المشهد السياسي الذي كان قبيل السابع من أكتوبر، جانب الصراع الجيوسياسي الاقتصادي، وهو ما حفز بعض المراقبين والكثير من المثقفين، سواء كانوا من أنصار التفسير المؤامراتي الأسطوري (نظرية تواطؤ طرفي الحرب معاً) أم التفسير الواقعي العلمي الذي يربط بين هجوم السابع من أكتوبر ورد الفعل المتنوع سياسياً وأمنياً وعسكرياً، الذي كان متوقعاً من قبل الأطراف المتضررة من المشاريع الجيواقتصادية الاستعمارية البديلة، التي هددت بالفعل مصالح أغلب دول أوراسيا وبعض دول شمال أفريقيا مثل مصر والجزائر المنخرطة في مشروع طريق الحرير العملاق.
وحيث يبدو الأمر هنا كما لو أنه كان لا بد من عمل نوعي كبير سياسي وعسكري أمني يسدد ضربة قاتلة لتلك الخطط الجيواقتصادية الاستعمارية الأمريكية الصهيونية التآمرية في المنطقة والتي تستهدف بالدرجة الأولى كما قلنا إضعاف ومحاصرة محور المقاومة إلى جانب قائدي المعسكر الأوراسي الكبير (الصين وروسيا).
هكذا إذن نرى أن هجوم المقاومة النوعي الكبير في السابع من أكتوبر قد جاء في وقت كان يحتفي فيه الغرب الأطلسي والكيان والدول الرجعية الحليفة بتسديد ضربة جيوسياسية موجعة لكل المشاريع الجيوسياسية الاقتصادية العملاقة والمتوسطة المدعومة من قبل المعسكر الشرقي، وعلى رأسها مشروع "الحزام والطريق" الصيني، هذه الضربة الجيوسياسية المتمثلة بمشروع الممر الهندي المزمع أن يكون مساره بحرياً من شواطئ مهاراشترا الهندية إلى الفجيرة في الإمارات ثم برياً عبر السعودية والأردن إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة ومدينتها الساحلية حيفا ثم بحرياً مرة أخرى عبر المتوسط إلى أوروبا، بالإضافة إلى مشروع "قناة بن جوريون" الذي يراد له أن يربط ما بين "إيلات" على خليج العقبة وكل من أشدود وعسقلان على البحر الأبيض المتوسط، فهو بنظر الكثير من المراقبين والمحللين يعد المشروع الأكثر خطورة على المصالح القومية العربية والمصرية تحديدا، وذلك بما يشكله من تهديد مباشر على مشروع قناة السويس ومعها كل الخطوط التجارية البرية الموازية والرديفة لها في مصر، وهو المشروع والحلم الصهيوني القديم الجديد، الذي له ربما ارتباط فعلي مباشر بهذا الإصرار الصهيوني العجيب على إعادة احتلال قطاع غزة، وتصفية سلطة المقاومة فيها واستغلال حدث هجوم السابع من أكتوبر (الذي كما قلنا جاء استباقياً ورداً تاريخياً على كل مؤامرات العدو بأنواعها، وللخروج من حالة الحصار والإفقار والتجويع التي يعيشها الشعب الفلسطيني في غزة لأكثر من 13 عاماً)؛ لكن العدو الآن يسعى إلى توظيف نتائج الحدث في مسار تسارعي عكسي، مسار آخر يخدم هذا المشروع الصهيوإمبريالي التصفوي، وبدعم أمريكي عربي مخجل وفاضح.
وقد جرى إعادة إحياء هذا المشروع مؤخراً، والترتيب لتوفير كل التمويلات والدعم له أمريكياً وأوروبياً وحتى عربياً!
في السياق ذاته، نرى ترتيبات تسليم جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية وتأمين مضيق تيران عند مدخل خليج العقبة. ولعل الحكومة المصرية تتنبه مؤخراً لخطأ تسليم تيران وصنافير، إذا ما تجاهلنا فكرة التواطؤ العربي المصري في هذا الملف.
وأيضاً هناك محاولات ضرب مكانة ميناء الدقم العُماني، وميناء الفاو الكبير في العراق، وحتى تجاهل فكرة ممر الشارقة إلى إيران وتركيا، ومشاريع كثيرة لم تكتمل أو أنها تلاقي الآن صعوبات جمة ويراد لها التهميش والعرقلة خدمة للعدو الغربي الصهيوني.
لقد تحولت منطقة "الشرق الأوسط" -إذن- إلى ساحة للنزال الجيوسياسي الاقتصادي بين المعسكرين الكبيرين: الشرقي الأوراسي، والغربي الاستعماري الأطلسي، حيث تسيد مشهد الصراع تضارب المصالح وتقاطع المصالح والتنافس الحاد والسباق المحموم من أجل إنشاء هذه الممرات التجارية البرية والبحرية الكبرى، كشرايين للاقتصاد وخطوط كبيرة للتجارة والتبادل التكنولوجي والاستثمار وتعزيز التبادل الثقافي وتطوير العلاقات والتحالفات، وهي كما ذكرنا الممر الصيني والممر الهندي والممر الروسي الإيراني، بالإضافة إلى الممرات الأصغر والأقل حجماً وأهمية ومكانة التي ذكرناها أعلاه، والتي سيجد أصحابها أنها ستعمل أيضاً ضمن أطر تكاملية أو تشكل روافد تجارية ستغذي هذين الممرين الكبيرين أو تتكامل معهما.
هي -إذن- لعنة الجغرافيا السياسية تطل مع بروز الأطماع الاستعمارية الغربية الإمبريالية الصهيونية المتجددة على الدوام، في ظل نظام عالمي متوحش، يؤمن بالربح على حساب حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، نظام لا يكترث بتدفق أنهار من الدماء البريئة طالما ستتدفق معها أنهار من السلع الثمينة التي تدر ذهباً وفضة!!
هذا النظام الإمبريالي العالمي الفاسد والظالم القائم على فلسفة السوق المتوحشة ودافع الربح يتناقض فعلياً مع كل المساعي الرامية إلى الانتصار لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب المضطهدة المستعمرة والمفقرة، نظام المستثمرين الجشعين الذي يولد الحروب ويستثمر الصراعات بمختلف أنواعها ويوظفها في تعزيز مصالحه وتنمية ثرواتهم، الربح هو الإله المعبود، وتحقيقه هو الهدف الأسمى.
نظام وصفته المناضلة الفيلسوفة روزا لوكسمبورج بمقولتها الشهيرة: "البشرية أمام خيارين: إما الاشتراكية، وإما البربرية".

أترك تعليقاً

التعليقات