واحسرتاه على الزمن الجميل!
 

عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبد القوي العبسي / لا ميديا -
لأسباب تتعلق بالتحولات الاجتماعية التي شهدتها فترة أواخر السبعينيات وصعـود الشرائح الاجتماعية الوضيعة من فئات البرجوازية الصغيرة وخارجها وتسيدها للمشهد الاجتماعي، بعد سنوات من بدء عصر الانفتاح الاقتصادي السوقي، وانتشار قيم الاستهلاك المادي وأخلاقيات السوق، وما تبع ذلك من انعكاس سيئ على القيم التربوية والثقافية والجمالية للجيل الشاب الجديد، بدأ يتشكل وينمو تيار الغناء الهابط المبتذل، البعيد كل البعد عن مقاييس الفن الجميل الراقي الذي كان سائدا في العصور السابقة، وبدأت تظهر موجة ما يسمى بـ"الأغنية الشبابية"، التي مثلت في معظمها اتجاها سوقيا هابطا في فن الغناء يعكس بامتياز وضاعة تلك الحقبة السوداء من تاريخ مصر والعالم العربي.
هي ظاهرة اجتماعية سلبية أشبه بالوباء الثقافي، وباء الهبوط في فن الغناء في مجتمعاتنا العربية، الذي استمر وتنامى حتى أصبح اتجاها فنيا ساقطا سائدا في عالم اليوم.
هذا الوباء "الاجتماثقافي" يتحمل مسؤولية صناعته بالدرجة الأولى السياسات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية للأنظمة البرجوازية الوضيعة، ويتحمل مسؤولية إنتاجه على وجه التحديد كل مؤلف موسيقي وشاعر ومطرب غير أمين على الرسالة وخائن للفن العظيم، وكل شيطان من هؤلاء يتعمد إفساد أذواق شباب الجيل، مقلدا اتجاهات الهبوط في الغناء الغربي المعاصر له، ويتقاسم المسؤولية معهم كل مديري الثقافة والفنون وقادة نقابات الفنون وكل النخب القيادية في المجتمع السياسي المدني والحكومي وكل أفراد شريحة الانتلجنسيا المصرية والعربية الذين تساهلوا كثيرا وتقاعسوا عن دورهم التنويري التوعوي في التصدي وفضح مخاطر هذه الموجة الثقافية الهابطة وهذا الوباء الاجتماعي الثقافي على التربية والأخلاق والهوية الثقافية والصحة النفسية للمجتمع.
الحال نفسه ينطبق على كل الدول العربية، التي ضربها هذا الوباء وانتشرت فيها هذه الظاهرة التي ازداد تأثيرها مع موجة ما يسمى "الانفتاح العولمي الأمريكي" وتطور تقنيات ثورة الاتصالات والمعلومات وتعميم استخدام القنوات التلفزية الفضائية، والذي ساعد على انتشار هذا الاتجاه الغنائي الهابط بواسطة برامج ترويج الأغاني وسهرات الأغاني الزائفة التي توحي للمشاهد البسيط بأنها تقدم له نجوما حقيقيين ومبدعين أفذاذا ومجددين في الفن.
وهكذا مع مرور الوقت أصبح هذا النمط من الغناء الرديء مألوفا ومستساغا لدى العامة من مختلف الأعمار وليس الشباب فقط!!
لفترة طويلة وجدت نفسي أغلق التلفاز وأمطر لعناتي على كل مستمعي هذا اللون الرديء من الغناء، متمنيا أن تنقشع عنا هذه الموجة وتأخذ معها سماسرة الفن الهابط وأباطرة الاتجار بالفن.
نعم، في الآونة الأخيرة لاحظت أنني لم أعد أطيق الاستماع إلى كل فناني هذه المرحلة تقريبا، كعلامة على الوصول إلى مرحلة القرف الكامل من كل هذه الفترة السوداء ومخرجاتها.
ويبدو أن هذا المزاج الجديد الباحث عما هو جميل في الغناء بدأ ينتشر لدى الكثير من الناس كرد فعل على تعميم التفاهة والهبوط.
أتذكر أنني كنت أسأل نفسي دائما منذ مطلع شبابي، أي منذ بدأت موجة الأغاني الهابطة أواخر الثمانينيات، والتي بدأت مع فنانين شباب أمثال سيمون وحميد الشاعري ومنى عبدالغني... كنت أتساءل: لماذا أغلب الأغنيات الهابطة لأي فنان من هذا الجيل الهابط تذهب أدراج النسيان بمرور الوقت ولا يتذكرها أحد ولا تعلق في الذاكرة، بحيث لا يكاد يصعد الفنان الشاب أو الفنانة الشابة من الموجة الجديدة بأغنية أو أغنيتين تبدوان من مستوى مقبول حتى يتدفق بعد ذلك سيل من الأغنيات الهابطة والألحان المركبة من جمل موسيقية متراصفة وتآليف متكررة وألحان متشابهة وأحياناً مسروقة وغير متسقة مع الكلمات التي هي بدورها هابطة مبنى ومعنى من دون صياغة فنية ولا روح تسمو بالمستمع؟!
لماذا بعدها، بعد هذه البداية التي تظهر لنا مقبولة، سرعان ما يضمحل وجود هذا الفنان وتذوي شهرته وسمعته لدى الذواقة من الناس ولا ينال رضا النقاد ويعزف عنه حتى جمهور البسطاء الذين يملون ويسأمون من هذه الطبخة الفنية الرديئة السريعة طيلة فترة الإعلان والترويج شبه التجاري لأشهر فقط؟! فيكون حال أغنياته كالزبد الذي يذهب جفاء، ولا يتبقى له سوى التلميع والتجميل والبهرجة والدعاية الإعلامية الفارغة التي تخدع ضعاف العقول وفاسدي الذوق من العامة الذين لا يفقهون أو لا يشعرون ويحسون بالجمال والفن الحقيقي؟!
نعم، للأسف، هذا هو الحال مع هذه الظاهرة التخريبية، ملمحها الأساس يكمن في تلاشي المعايير الفنية، حيث يفقد الفن معناه ومغزاه، وتختزل الصناعة الفنية والإبداع الفني إلى مجرد ترفيه هابط!!
تسأل نفسك: لماذا مع تتالي سيول أو موجات هؤلاء المؤدين أشباه الفنانين، تلاحظ موجات سريعة التلاشي، قصيرة الزمن في البقاء على الواجهة وفي قلوب وأذهان جمهور المستمعين على امتداد الوطن العربي الكبير؟! لماذا معها نرى "نجوما" تظهر وأخرى تختفي في بضع سنوات؟!... وهكذا، هي أسئلة تتكاثر مليئة بالحيرة واليأس، ويصاحبها شعور بالقرف، ترحل معنا، نصطحبها في عقولنا وقلوبنا كهواجس وهموم حتى الزمن القريب لتزداد هجوما وإلحاحا علينا حتى لنكاد نصرخ ونقف على جسر في شاطئ بحري، ليس من أجل أن نختار مكانا مناسبا على صخرة في الجوار مصطحبين للعود كما اعتاد أبناء الجيل السابق، وإنما لنقف على الجسر ونصرخ من الهم والقرف، كمثل الرجل ذاك في لوحة مانيه الشهيرة المسماة "الصرخة"!
نعم، وهذا هو الحال السيئ الذي وصلنا إليه، حيث لم يتبق لنا شيء ذو قيمة جمالية وأصالة في المحيط الثقافي الإعلامي الفاسد، وفي الميديا بكل أنواعها ووسائطها. لقد أفسدت العولمة الأمريكية علينا واحدا من أهم عناصر حياتنا الروحية الثقافية، أفسدت علينا أجمل الفنون، من يعتبر حقا غذاء أرواحنا فن الغناء والموسيقى.
وهاكم مثالا يبعث على الحسرة: في الآونة الأخيرة شعرت بالاستياء كغيري من ملايين اليمنيين ونحن نسمع ونرى ابنة بلدنا الفنانة المحبوبة بلقيس تصعد ثم تسقط في فخ الهبوط ومستنقعه المخزي، تهبط في أغانٍ كثيرة بعد أن أبدعت في بعض الأغاني الأولى لها. في مثل هذا الحال وأنت كمستمع ومشاهد ومتابع لا بد أنك ستلعن كل من لا يساهم في النصح الجميل، وكل من يساهم في صناعة فن الهبوط تمويلا وإدارة وترويجا وتسهيلات ولحنا وكلمات وتوزيعا موسيقيا وإخراج أغانٍ... وما إلى ذلك. ستقول: اللعنة على شركات الفن الموسيقي وهوسها التجاري ومنطقها الرأسمالي. ستهاجم وتنتقد كل ما يضخه هذا الاخطبوط الرديء من غثاء وقذارة.
لست متعصبا، وإنما رافض لتسطيح وتتفيه الثقافة والفن؛ لأن الثقافة والفن عماد الحضارة وأرقى شكل في الثقافة هو الفن، وأعظم وأجمل الفنون هو فن الموسيقى والغناء.
لست ناقدا فنيا ولا أدعي المعرفة بالفن الغنائي ولا بالموسيقى أو الشعر؛ ولكن أزعم أن لدي على الأقل إحساساً بما هو جميل، كغيري الكثير من البشر، ومن حقي أن أتساءل بحسرة: لماذا يحدث كل هذا؟! متمنيا لو أن كل فنان يتمتع بصوت جميل ومقبول يلجأ إلى تحكيم قلبه وأحاسيسه ويستشير من حوله، ولو فعل ذلك لما ندم، لأنني أجزم أن الكثيرين من الفنانين ندموا على أغنيات كثيرة قدموها وفشلت وسقطت وتعرضوا بسببها للانتقاد والسخرية وازدراء الناس، وفي المقابل فرحوا وتفاخروا بالقليل من الأغاني الجيدة المقبولة التي صمدت ووقفت في امتحان الجودة والنقد وحكم الجمهور، ولم تسقط في غيابة جب النسيان.
في بدايات تلك الموجة الهابطة مطلع التسعينيات، مازلت أتذكر انتقادات الفنان الممثل السوري القدير رفيق سبيعي في التلفزيون السوري لهذه الظاهرة البشعة، وكان يتعجب من أغنيات هابطة منتشرة لا يتناغم فيها الإيقاع مع الكلمات والرقص، وكلها هبوط في هبوط، ومع هذا يتابعها جيل الشباب وينبهر بها. قلت في نفسي: يحق له أن ينتقد، وما زلت أقول: كم كان ذلك الفنان حكيما ذا بصيرة، ناصحا صدوقا للشباب السذج! ولا أخفي أن أغلبنا انجرف قليلا في تلك الموجة مع بعض إفرازاتها وأغانيها.

كان أغلب الشباب في تلك الفترة مخدوعين بما سميت حينها "الأغنية الشبابية"، والبعض كان يجد لها تبريرا ويربطها بروح العصر وإيقاعه السريع، بل ويضفي عليها طابعا تقدميا نوعا ما!! مستنكرا تلك المواقف الانتقادية من قبل أبناء الجيل السابق، ناظرا إليها على أنها تعبير عن موقف الانحياز الطبقي لفنون معينة، مثلما حدث في فترة سابقة سجال بين أنصار الأغنية الشعبية الجادة والاتجاهات الجديدة في الغناء وأنصار المدرسة الكلاسيكية في الغناء التي صُنفت على أنها من فنون الطبقات الاجتماعية العليا؛ فن الملوك والبرجوازيين، يقصدون أم كلثوم ومجايليها؛ لكن الوضع اختلف مع اللون الجديد الهابط، الذي هو حقا ابتذال شديد وابتذال من نوع آخر، وظاهرة مدمرة فعلاً ومخربة للأذواق الفنية والقيم الجمالية وحتى التربية والأخلاق والصحة النفسية.
ولم يكن الانتقاد الذي يطال هذه الموجة الجديدة بطبيعة الحال بهذه الدوغمائية والسطحية، بل كان يمتلك قدرا كبيرا من المصداقية والرصانة والجدية.
كان الأستاذ الفنان رفيق سبيعي على حق في موقفه ذاك. ستقول: وأي نوع من الأغاني كان يفضل أستاذنا رفيق؟
للجواب إن أردت أن تعرف أقول لك اذهب واستمع إلى أغنية جميلة من أغاني الزمن الجميل غناها الفنان الراحل، وهي منتشرة الآن على اليوتيوب، اسمها "حبوك الناس"، والتي يقول مطلعها:
حبوك الناس أنا مالي زعلان، أنا مالي حيران وحب الناس رضا من الله!
هذه عينة بسيطة من الأغاني البسيطة الجميلة الراقية، ستجد نفسك تتمايل وتطرب لهذا اللحن الجميل والغناء الجميل، وتقول: آه! واحسرتاه على زمن جميل مضى!
مثال آخر على الخراب، صدق أو لا تصدق، في مدينة عمّان، العاصمة الأردنية، التي زرتها لمرات عدة، في إحدى الزيارات العلاجية الأخيرة قبل سنوات قليلة، لاحظت ظاهرة انتشار الأغاني المصرية الهابطة لدى الغالبية من جيل الشباب، وصدمني أكثر أنني لم أجد أحدا يستمع إلى صوت فيروز؛ نعم، فيروز، وأين؟! في مدينة يفترض أنها جزء من بلاد الشام!!
طيلة أكثر من سبعة أشهر وأنا كنت أذرع المدينة وأجوب شوارعها وارتاد مقاهيها ومولاتها في جزء كبير منها بشكل يومي تقريبا لم أجد أحدا يشغل أغنية لفيروز!! ولا حتى الرحبانيات أو الموشحات الحلبية أو كلاسيكيات المدرسة المصرية أو حتى الفلكلور الغنائي الأردني الجميل! وكان أغلب ما يستمعون إليه هي الأغاني الشعبية المصرية الهابطة، نعم، الأغاني الشعبية الهابطة، وليست الأغنية الشعبية الراقية، وشتان بين اللونين. إنهم يفضلون أغنية على شاكلة "بحبك يا حمار"، ولا يغنون أو يعرفون أغاني شعبية من نوعية "بتغني لمين يا حمام"، وإنما أغاني محمد رمضان ومن هم على شاكلته من أصوات التهريج والهبوط.
أتحدث هنا عن غالبية شباب الطبقة الوسطى والعليا، ولا توجد هذه الظاهرة أو تكاد أن تكون نادرة الانتشار طبعاً لدى شباب الطبقات الكادحة وأبناء الريف، الذين يفضلون أو يميلون أكثر إلى الفلكلور الأردني الفلسطيني والأغنية العراقية ومدارس راقية أخرى؛ ترى ما هو السبب؟!
أقول لعلها "البرجوازية الوضيعة" التي يشتكي منها ويشير إليها المفكر الأستاذ فؤاد النمري. لهذا أجدني الآن وبعد أن طفح بي الكيل أميل إلى الهروب. ولا يتعلق الأمر هنا بالسن والتقدم في الزمن، وإنما بنوع الفن ومستواه، فمع كاظم الساهر وماجدة ستجد استثناء، وهناك أعمال جيدة أيضاً يقدمها كوكبة من الفنانين العرب من أبناء هذا الجيل، ابتداء من نوال الكويتية إلى أسماء المنور المغربية مرورا بآمال ماهر المصرية وغيرهم أيضاً، لكن الهبوط هو الظاهرة السائدة، والأصوات النشاز والأعمال الرديئة قصيرة العمر ضئيلة الجودة هي الأكثر اكتساحا على الساحة الفنية.
ولهذا السبب لسان الحال يقول: سأهرب إلى الزمن الجميل، سآوي إلى جبل شاهق يعصمني من طوفان الهبوط، وأسكن مملكة خفية أهلها هم أهل الفن الراقي، ومبدعوها أباطرة للذوق الرفيع، هم ملوك الجمال الذي يسمو بالبشر ولا ينكس آدميتهم... أذهب إليهم وآنس وأطرب بالاستماع إلى أصواتهم، وأسمو معهم وأرتقي في معارج الجمال.
سأهرب إلى عوالم الزمن الجميل القديم، ألوذ بها فرارا من طوفان الأغاني الهابطة اللعينة، وأحتمي بعوالمه البهية من عاديات الهبوط وصخب الأغنيات التافهة. سأهرب إلى البساطة في المسرح وصدق الأحاسيس وروعة الكلمات والأداء. أصنع ثقبا في الزمن وأمتطي آلته وأبحر إلى أقصى نقطة فيه، قديماً... قديماً!
أهرب إلى القديم، نعم، ويا للدهشة!! القديم ما زال أجمل وأقوى وأبقى وأبهى وأثرى وأصدق، والنفس تقول لي: كلما أوغلت في السفر اتجاه القديم فاجأتك أضواء نجمة، وتبدت لك ملاكا تغني بعذوبة صوت سحري!
بعيداً بعيداً إلى "يا بدع الورد" (اسمهان)، وأبعد وأبعد إلى "والنبي يا امّه" (منيرة المهدية)، إن تطلب الأمر. ومع روائع داوود حسني وعثمان الموصلي يكاد الغناء يلامس القمة، يلامس شغاف القلب ويستبد بالروح فتصبح أسيرة للجمال منجذبة ومنبهرة بالماضي السحري.
وهذه هي نصيحتي لكم للاحتماء من وباء الهبوط، وللحفاظ على الذائقة سليمة وغير مصابة بالتلف الروحي والتشوه والانحراف والاعوجاج. وهاكم يا رفاق ويا أصدقاء روشتة لعلاج النفس من اكتئاب زمان التفاهة: اذهب واختر لنفسك ما طاب من روائع الغناء في الزمن الجميل، ومع فيروز وصباح وأغانيهما الفيلمونية (نسبة إلى شيخ الملحنين فيلمون وهبي) على مقام الرست ستجد أعذب وأروع الأغاني الرومانسية الجميلة، وفي المدرسة الحلبية مع روائع صباح فخري وصبري المدلل ومحمد خيري وغيرهم، وفي عاصمة فنون الشرق حلب الشهباء ستجد العجب العجاب، عالما من الملائكة وأناسا هم أقرب إلى صنف الملائكة منه إلى البشر، وهل هناك في الفن ما هو أجمل من القدود الحلبية والمدرسة اللبنانية مع فيروز وزياد ونصري شمس الدين ووديع الصافي وصباح وفيلمون وهبي وملحم بركات وهدى وجوزيف صقر ونجاح سلام و... و... كوكبة من الشباب والشابات المبدعات في زمن السبعينيات.
والمدرسة الكلاسيكية المصرية لها سحرها الفريد وأبهتها الملوكية، مع القامات الفنية الشامخة: عبدالوهاب وأم كلثوم وحليم وفريد وأسمهان وليلى وفائزة ونجاة وفوزي وعفاف ووردة... والله الله على عظمة أهرامات الغناء العربي!
وفي الأغنية اليمنية تجد تراثا فنيا وكنوزا من الإبداع في المدارس الخمس (الحضرمية والعدنية واللحجية والتعزية والصنعانية)، تزخر بالمئات من روائع الغناء اليمني. وإذا قررت الغوص في بحر هذه المدارس لاكتشفت لآلي نفيسة مما يبهر القلوب ويطرب النفوس، ولآمنت أن اليمن حقاً هو منجم الغناء النفيس وموطن أعذب الأغاني والألحان.
ثم تأتي الأغنية المغاربية، وتقف احتراما أمام المبدعين الكبار: علية التونسية وعبدالوهاب الدوكالي ولطفي بوشناق وعزيزة جلال وصباح الجزائرية... وما أدراك ما صباح الجزائرية! يكفي أن تستمع إليها كيف غنت أغنية "آه يا الاسمر يا زين" لطلال مداح الذي انبهر بصوتها، لأنها غنت أغنيته بشكل أفضل منه.
وفي الخليج لآلي نفيسة أيضاً مع عبدالكريم عبد القادر وطلال مداح ومحمد عبده ورباب وغيرهم. وهل تعلم أن غريد الشاطئ هو أفضل من غنى أغاني صباح ووديع الصافي؟!
وهناك الأغنية العراقية وعمالقتها الكبار: ناظم الغزالي وداخل حسن وياسين خضر وسعدون جابر وعارف محسن... وصولاً إلى الاستثناء المدهش في هذا الزمن كاظم الساهر، مع احترامي وتقديري لكل المحاولات التي يقدمها هذا الجيل من شباب العراق.
هي روشتة فعالة للعلاج من اكتئاب يصيبكم بسبب زمن الفن التافه الذي يعكس جدليا نظام التفاهة ومجتمع التفاهة. لسان حالك يقول بعد كل هذه الرحلة الاستطلاعية الاستكشافية في مناجم فن الغناء: إن الوطن العربي الكبير يحوي أعظم فنون الدنيا على الإطلاق، مع أن العرب أصلاً كانوا تلاميذ في الموسيقى لدى الكرد والفرس والهنود والترك، لكنهم أجادوا وتجاوزوا وحازوا مرتبة التفوق الإبداعي على أقرانهم، وقد صبت في ديارهم كل روافد أنهار الموسيقى، وكانت ديارهم بوتقة لصهر ومزج الفنون بإبداع لا مثيل له.
نعم، هذا هو الزمن الجميل، وهذا هو الموروث العظيم الذي يجب أن نعود إليه ونعتز به ونحتمي به من مؤامرات إفساد الذائقة وطمس الهوية الثقافية. وبالمناسبة يدهشني كثيراً هذا الرواج الذي تلقاه الأغنية الكردية عبر فلكلورها المدهش لدى الفنانين الأتراك، ويدهشني أكثر كل من يعيد غناء أغاني إبراهيم تاتليسس ومسلم جورسيس، وذلك التفاعل التركي العربي الذي أنجب "فن الأرابيسك". وتبقى الموسيقى الإيرانية هي الأكثر رومانسية وتأثيرا في النفوس، وهل سمعت لحميراء؟! فهلموا نرجع إلى غناء الزمن الجميل!

أترك تعليقاً

التعليقات