الشقيقة الكوبرا!
 

عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبد القوي العبسي / لا ميديا -
مصالح غير مشروعة
حولت الشقيقة الكبرى مخاوفها المصطنعة وفبركاتها عن الأمن القومي العربي المهدد بالخطر إلى ذريعة للتدخلات العدوانية الشريرة في بلدنا على مدى العقدين الماضيين.
هذا التدخل السعودي الخليجي السياسي والعسكري والأمني في اليمن له تاريخ أسود وصفحات مخجلة لا تليق بدولة تدعي خدمة الإسلام والعروبة ورعاية أواصر ووشائج القربى والتاريخ المشترك والثقافة المشتركة والهوية القومية المشتركة، وهو تاريخ يمتد زمنياً إلى أكثر من ذلك إلى قرابة القرن من الزمن.
لا يستحق الشعب اليمني البسيط والمكافح والعروبي الأصيل كل هذا الكم المهول من المؤامرات والتدخلات السافرة والحروب البربرية التي تشن عليه تارة مباشرة وتارة بالوكالة من قبل هذه الدولة الجارة التي استمرأت ممارسة الجور علينا استقواء بالمستعمر البريطاني ومن بعده الأمريكي وبالصهيوني عما قريب!
يسمونها الشقيقة الكبرى ويتحدثون عن مصالحها ومخاوفها الجيوسياسية المشروعة، ولا يتكلمون عن أطماعها غير المشروعة وتنمرها وعدوانها ونهبها لثروات البلد وتدخلاتها المجرمة السافرة.
نحن كيمنيين لم نرَ من هذه (الأفعى الكوبرا) وسياساتها وتحركاتها وتدخلاتها في المنطقة ككل، وفي بلدنا اليمن خاصة، سوى الأطماع والنهب والعدوان وخدمة مصالح المستعمر الغربي الذي أسس دولتها، هذه الخدمة التي تتمثل في سياسة التخريب والتنكيل بكل مقاومة عربية وإسلامية شريفة تناهض هذا الاستعمار الأجنبي وتناهض قوى التبعية والعمالة التي تصطف إلى جانبه.
فكما هو معلوم لكل قارئ لتاريخ المنطقة أن التدخلات السعودية في المنطقة وفي اليمن لم تكن بعيدة عن الدور الوظيفي الذي رسمه لها المستعمر. وفي كثير من الحالات سيكون من المبالغ والسخيف الحديث عن مخاوف جيوسياسية ومصالح مشروعة في الوقت الذي تبرز فيه بوضوح شديد المصالح الاستعمارية والأطماع غير المشروعة والاستراتيجيا الجيوسياسية المؤسسة على علاقة النهب والهيمنة والاحتكار من جانب الطرف الأقوى.
وانطلاقا من الخبرة التاريخية التي راكمها الشعب اليمني حول طبيعة التدخلات السعودية في اليمن وطبيعة العلاقات بينهما، يرى الكثير من اليمنيين (ومعهم الحق في ذلك) أنه لا يحق للسعودية أن تتدخل في هذه اللحظة التاريخية الراهنة؛ لحظة تحقيق السلام، من بوابة ادعاء الحياد؛ فقد انكشفت بشكل واضح نواياها وأطماعها وفداحة مؤامراتها، وظهر لنا جلياً إلى أي مدى يمكنها التمادي في ارتكاب المجازر والجرائم البشعة بحق الشعب اليمني ونخبته الوطنية البطلة، وذلك كي لا تخسر أياً من هذه المطامع وهذا النفوذ غير المشروع.
لا يحق لها ادعاء الحياد، فهذا ضرب من ضروب الخداع الوقح الفاجر المضلل للرأي العام العالمي؛ لأنها هي الطرف الأساس في الصراع، الطرف المعتدي، الطرف الذي شن الحرب، وهذه الحرب الأخيرة هي حرب سعودية على اليمن بامتياز، حرب مباشرة بامتياز، تختلف عن بقية أنواع النزاعات الداخلية السابقة، والتي ليست أكثر من كونها حروبا سعودية غير مباشرة، كانت تحدث في العقود السابقة؛ لأن تلك النزاعات الداخلية سرعان ما كان يتضح لنا أنها تستغلها وتتدخل فيها على النحو الذي كانت تبدو فيه تضليلاً وخداعاً كوسيط محايد، مع أنها في الغالب كانت الطرف الخفي الداعم والمحرض لطرف ما من الأطراف الداخلية؛ هو الطرف التابع العميل الذي كان ينفذ توجيهاتها ومخططاتها في الخفاء كوكيل حرب بالإنابة.
نعم، السعودية هي العدو التاريخي للشعب اليمني، كما قال الرفيق المناضل والقائد الثوري عبد الفتاح إسماعيل، وهذا ما كانت تؤكده الوقائع التاريخية الملموسة، فمواقف السعودية تجاه الثورات اليمنية والانتفاضات الشعبية خلال مراحل ثورة التحرر الوطني وما بعدها، هي مواقف عدائية تآمرية شديدة.
تعالوا معي نسترجع من التاريخ بعضاً من تدخلاتها العدوانية تلك في اليمن.

"يؤدب فوراً"!
قبل قيام ثورة الستينيات بحوالى ثلث قرن من الزمن سارعت السعودية إلى احتلال أجزاء واسعة من شمال البلاد، بتحريض سافر من المستعمر البريطاني، واندلعت الحرب الوطنية الأولى قرب منتصف الثلاثينيات، والتي استبسل فيها اليمنيون وأثبتوا شجاعة في مواجهة العدو.
في تلك الحرب المشؤومة دخلت القوات السعودية الغاشمة وتوغلت إلى نقطة بعيدة في جنوب الساحل التهامي الغربي. توقفت الحرب؛ ولكنها -للأسف الشديد- أسفر عنها اتفاقية ظالمة مجحفة بحق اليمن والشعب اليمني، وهي "اتفاقية الطائف" التي سمحت بتأجير الأراضي اليمنية المحتلة (عسير ونجران وجيزان) لمدة عشرين عاماً، وجاء مقرراً فيها أن من يرفض أو يشكك أو يعترض على بنود هذه الاتفاقية لاحقاً، بما معناه فصيل سياسي أو جهة أو فرد من كلا البلدين "يؤدب فوراً"!! نعم، هكذا ورد في نص الاتفاقية، عبارة "يؤدب فوراً"!! في إشارة إلى رغبة شديدة في ترهيب كل من تسول له نفسه في المستقبل نقض الاتفاق والاعتراض على مضامينه المجحفة!!
لهذا ليس بالمستغرب ما فعلته السعودية لاحقاً، حيث قامت بتأديب أنظمة يمنية وأحزاب وفصائل وقادة سياسيين ومثقفين وغيرهم استنكروا ظلم الاتفاقية وإجحافها أو طالبوا باستعادة الحقوق والأرض اليمنية المحتلة، فالاتفاقية مقدسة وثابت من ثوابت السياسة السعودية، وهي قنطرة عبور نحو الهدف الكبير المزمع إظهاره لاحقاً، وهو مصادرة وضم الأرض اليمنية المحتلة بأي ثمن كان!
حقيقة، لو تأملنا التاريخ جيداً فسنكتشف أن ملف "الأرض اليمنية المحتلة"، ومن ضمنه استحقاقات "معاهدة الطائف"، كان أحد أهم أسباب الحروب والنزاعات اللاحقة، وجذراً أساسياً من جذور الصراع في اليمن، وكذلك الصراع بين اليمن وجارته (الكوبرا) التي جارت عليه!

دعم الثورة المضادة
وقد حاربت هذه (الكوبرا) الثورة الستينية السبتمبرية الأكتوبرية الوليدة منذ اللحظة الأولى لاندلاعها، وأنفقت الأموال واشترت السلاح وقامت بتدريب قوات المرتزقة الأجانب، جنباً إلى جنب مع المستعمر البريطاني، وبدعم أمريكي من الخلف، وكذلك من أنظمة ملكية رجعية، كنظام الأردن وشاه إيران ومن ورائهم الكيان الصهيوني، كل هذا من أجل وأد هذه الثورة الشعبية التحررية الوطنية التي مثلت خطراً على مصالح الاستعمار الغربي ونفوذه في اليمن، ومثلت تهديداً من مصر الناصرية على الحدود الجنوبية للمملكة السعودية، وتهديداً بنقل شرارة الثورة التحررية إلى مشيخات الخليج، وهي الثورة التي رفعت شعارات القومية العربية الثورية وترأس قيادتها مدنيون وعسكريون من مختلف التيارات السياسية التقدمية (بعثيين وناصريين وماركسيين).

بعد سبع سنوات من حرب اليمن في الستينيات، تمكنت السعودية والقوى العميلة لها آنذاك من توجيه الضربة الأولى للثورة السبتمبرية ذات الملامح الناصرية، عبر دعم انقلاب الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر في العام 1967، الذي ضم قوى رجعية عميلة إلى جانب قوى تقدمية أخرى جرى تصفيتها لاحقاً، وتم في هذا الانقلاب الإطاحة بالقائد اليمني المقرب من الزعيم جمال عبد الناصر، الرئيس عبد الله السلال، الذي كان أول رئيس لليمن في شمال البلاد وأحد أبرز قادة الثورة السبتمبرية.
استغلت السعودية وعملاؤها -من أجل تحقيق نجاح هذا الانقلاب- جملة الأخطاء السياسية التي ارتكبتها حكومة الثورة، بالإضافة إلى أخطاء الأشقاء المصريين والحساسيات السياسية والفكرية والاجتماعية بين فصائل الثورة السبتمبرية (الحركيين والناصريين، الناصريين والبعثيين، الإسلاميين والناصريين...) وبين مكون المشائخ الجمهوريين والمدنيين الثوريين، ونشأ جراء ذلك نظام 5 نوفمبر السياسي الرجعي، أو جمهورية 5 نوفمبر، التي ما زلنا نعاني من ويلاتها وتداعيات نشوئها حتى اليوم!
وهي الجمهورية المشيخية العسقبلية أو الجمروكية (الجمهورية الملكية)، بحسب وصف الشاعر الكبير عبد الله البردوني، التي يسيطر عليها عملاء السعودية من أحزاب وفصائل رجعية مدعومة منها.
منذ اللحظة الأولى لقيام ثورة الستينيات حاربت المملكة كل الأنظمة الوطنية اليمنية التقدمية وغير التقدمية في التاريخ اليمني المعاصر، وعملت على إسقاطها تباعاً بقوة المال والدعم العسكري والمخابرات واستخدام الإرهاب، وبغطاء ودعم غربي أطلسي، وهذا ما فعلته على التوالي مع الحركيين القوميين العرب في أحداث آب/ أغسطس 1968، ومع البعثيين في عهد الإرياني في منتصف السبعينيات، والناصريين في زمن الحمدي أواخر السبعينيات، ثم الماركسيين الاشتراكيين في جنوب البلاد منتصف الثمانينيات، من خلال تحريض عملائها على تدبير سلسلة انقلابات عسكرية وأحداث عنف ضد القوى الوطنية المذكورة أعلاه.
وقد أثبتت هذه الدولة الرجعية الفاشية المسماة بـ"المملكة السعودية" أنها ليست أكثر من كيان وظيفي يخدم المصالح الاستعمارية في المنطقة، فقد مثلت عبر أدواتها في اليمن رأس حربة المصالح الاستعمارية في البلد منذ بواكير اندلاع ثورة الستينيات السبتمبرية الأكتوبرية. وكلنا سمع عن مشهد قيام السفير السعودي في اليمن بإطلاق الرصاص على الرئيس اليمني الشهيد البطل المناضل إبراهيم محمد الحمدي، الذي تصدى للتدخلات والأطماع السعودية في اليمن، وتمكن خلال فترته الوجيزة في الحكم من إقصاء المشائخ والقوى التي تتبع السعودية، وشرع في التأسيس لبناء الدولة الوطنية الحديثة.
عندما استشعرت السعودية خطر المشروع المشترك للقائدين الوطنيين الكبيرين إبراهيم الحمدي الناصري في الشمال، والمناضل سالم ربيع علي الماركسي في الجنوب، لإعلان قيام الوحدة اليمنية في الرابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 1977 أقدمت على ارتكاب جريمتها الشنعاء، وذلك قبيل سفره بأيام قليلة إلى عدن للاحتفال بعيد الثورة، وأيضاً لإعلان الوحدة اليمنية؛ لإدراكها ما يعنيه قيام دولة اليمن الموحد الكبير التقدمي الثوري المناهض للرجعية الخليجية والاستعمار الغربي.
وبعدها تمكنت مملكة الظلام، عبر دعمها للثورة المضادة وقواها، من تصفية كل مؤسسات وقوى ومشاريع الدولة الوطنية الوليدة الناتجة عن هذه الثورة، ابتداء من مطلع الثمانينيات.
ثم وقفت مملكة الظلام هذه من كل المحاولات الوطنية لإنجاز أهداف الثورة موقف المناوئ الشديد والمناهض العتيد، مستخدمة كل الأساليب الشيطانية الممكنة للتخريب وإحداث الفرقة وزرع الفتن، فقد وقفت منذ بداية التسعينيات تناهض مشروع تحقيق الوحدة اليمنية وحرضت حزب الإصلاح الإسلامي الفاشي على رفض الاستفتاء على دستور دولة الوحدة سنة 1992 عبر رفع شعار "نعم للوحدة لا للدستور"، بوصفه دستوراً علمانياً كافراً.
ثم عملت مع أدواتها الأمنية في اليمن، بزعامة الجنرال الإسلامي علي محسن الأحمر، على تنفيذ مخطط استفزازي تجاه الحزب الاشتراكي اليمني؛ أكبر أحزاب الثورة اليمنية، بتنفيذ سلسلة من الاغتيالات السياسية للعشرات من كوادره وقياداته النشطة ومهاجمة مقراته.
ثم ساهمت من خلال أدواتها في إذكاء نار الصراع بين طرفي الوحدة عام 1993، ولعبت مخابراتها في توسيع شقة الخلاف بين هذين الطرفين لتحقيق جملة من الأهداف، تتمثل في:
أولاً: التخلص من تركة دولة الجنوب الوطنية العادلة، وتصفية الحزب الاشتراكي اليمني الذي وقف تاريخياً ضد الأطماع السعودية في الأراضي اليمنية المحتلة (عسير ونجران وجيزان)، والذي مثل بمشروعه الوطني الديمقراطي الثوري والحضاري الإنساني خطراً فعلياً على نظام المملكة من جهة حدودها الجنوبية.
وثانياً: الحصول على موطئ قدم لها في محافظة حضرموت الغنية بالنفط، طمعاً في ثروات هذه المحافظة ومزاياها الجيوسياسية، ولبروز بدايات التفكير آنذاك في مشروع أنبوب حضرموت، وأيضاً للتستر على واقعة استيلائها على خزان نفط الجوف ذي الكميات الهائلة من المخزون النفطي، بالإضافة إلى رفضها القاطع لأي تحولات مدنية ديمقراطية في اليمن يُخشى أن تنتقل عدواها لاحقاً إلى الدولة المجاورة.
كان للحزب مشروع وطني حضاري، كما قلنا، لبناء دولة اليمن الكبير واستعادة الحقوق الوطنية السليبة. ولا شك أن وصول الحزب الاشتراكي اليمني إلى صنعاء والمشاركة في السلطة بُعيد قيام الوحدة اليمنية والاستفتاء على دستور علماني جديد للدولة الجديدة، واعتماد الديمقراطية البرلمانية والتعددية السياسية، وظهور الاكتشافات النفطية في مأرب والجوف وحضرموت وشبوة، والمطالبات بترسيم الحدود بين المملكة واليمن، وعودة الحديث عن استرداد الأراضي اليمنية المحتلة وبروز قوة الجيش اليمني وكبر الدولة اليمنية الجديدة المسماة بالجمهورية اليمنية... كل هذه المستجدات الطارئة في التسعينيات قد استفزت نظام بني سعود، الذي لم تعجبه هذه المتغيرات الجديدة، والتي نظر إليها باعتبارها تشكل تهديداً حقيقياً لمصالح المملكة، فهو قد اعتاد على التعامل مع اليمن كحديقة خلفية للمملكة، كدولة صغيرة تابعة ضعيفة اقتصادياً ومنهكة بالحروب والنزاعات، وكما خطط هو لذلك على مدى سبعين عاماً، عملا بنصيحة الأب المؤسس الذي قال لأبنائه: "إن عزكم في ذل اليمن"، بحسب المرويات السياسية الشعبية المتوارثة عبر الأجيال الثلاثة بعدها.
استفادت المملكة من قيام حرب صيف 94 الظالمة. وقد عمد عملاؤها الرجعيون في سلطة صنعاء العسقبلية وحزبيها المؤتمر والإصلاح إلى تحريك جيشهم ومليشياتهم الإرهابية وقبائلهم، والمجاميع الإرهابية العائدة من أفغانستان صوب اجتياح الجنوب اليمني ومحاربة قوات الجيش الثوري الشعبي، التي كانت آنذاك تحت إمرة الحزب الاشتراكي اليمني، واستخدموا في سبيل تحريض الشارع على الحزب بالفتاوى التكفيرية وبث الدعايات الإعلامية التخوينية، ونشر المسلسلات التلفزيونية الدينية التي تتحدث عن كفار قريش، للإيحاء والتضليل بأن المعركة هي من أجل الحفاظ على العقيدة والدفاع عن الشريعة الإسلامية من خطر الاشتراكيين الكفار!

عوام الناس في البلد (اليمن)، الذي تنتشر فيه الأمية بين غالبية سكانه، انطلت عليهم مثل هذه الأكاذيب، التي أوردناها في الحلقة السابقة، ومفادها أن المعركة هي من أجل الحفاظ على العقيدة والدفاع عن الشريعة الإسلامية من خطر الاشتراكيين الكفار!
والجميع يتذكر النداءات البربرية المغرورة للمنتصرين في تلك الحرب، لأعضاء الحزب بتسليم أنفسهم إلى أقرب مسجد أو أقرب مركز شرطة، بينما كانت الشريحة المثقفة بغالبية تلاوينها، باستثناء تلك الانتهازية الرخيصة الموالية للحزبين الرجعيين العميلين، تدرك أن جوهر الصراع يكمن في التناقض بين قوتين سياسيتين، إحداهما قوة وطنية تريد بناء دولة المؤسسات، دولة النظام والقانون، وتريد استكمال المهام الوطنية الديمقراطية للثورة اليمنية، وهي قوى بطبيعتها ترفض الوصاية السعودية والفساد والنهب الداخلي والخارجي للثروة، وترفض النزعة الاحتكارية للسلطة من قبل أوليجارشية فاسدة خائنة ظالمة لا تفكر بمصالح الشعب، بينما الطرف الآخر الرجعي يمثل قوى غير وطنية عميلة رجعية عصبوية استبدادية تسعى للاستئثار بالسلطة والثروة، وأطماعها معروفة في الاستيلاء على كل ثروة البلاد لتتقاسمها بشكل غير مشروع مع الشركات الأجنبية الاستعمارية الناهبة، ليبقى الشعب اليمني بغالبيته الكادحة الفقيرة خارج اللعبة خارج الثروة، خارج السلطة.
هؤلاء الذين كانوا آنذاك يتشدقون بالوحدة والثورة هم ليسوا أكثر من عصابة كبيرة مشكلة من المشائخ والعسكر والتجار الفجار تدعمهم من الخلف الأجهزة الأمنية التابعة لأنظمة الرجعية الخليجية والاستعمار الغربي الأطلسي، استولوا على السلطة أواخر السبعينيات عبر انقلاب أسود مدعوم أمريكياً وسعودياً ضد النظام الوطني للشهيد إبراهيم الحمدي (رحمه الله)، ومن خلال ما فعلوه بالجنوب صيف عام 94 تمكنوا تماماً من تصفية ما تبقى من قوى الثورة السبتمبرية الأكتوبرية بتدمير الحزب الاشتراكي اليمني، حزب الثورة اليمنية وطليعتها الوطنية التقدمية.
بعد ذلك، استمر التآمر السعودي على اليمن بخلق مقومات عدم الاستقرار الاقتصادي والأمني والسياسي، وأبرزها المناوشات على الحدود وتحريض قوى الإرهاب الديني على إحداث العنف طيلة فترة ما بعد الحرب، ليقوم النظام السعودي بعد ست سنوات بإجبار نظامه العميل في صنعاء على توقيع "اتفاقية جدة"، والتنازل عن الأرض اليمنية المحتلة، وقبض الثمن كعملية بيع رخيص لتراب الوطن.
بعد ذلك هبت رياح الهجمة الإمبريالية الأمريكية على المنطقة الهادفة إلى إعادة موضعة النفوذ الاستعماري الأطلسي وتعزيزه، تخوفاً من خسارة النفوذ من قبل القوى الصاعدة الشرقية آنذاك، من خلال مشروعين:
أولهما: مشروع ما يسمى "مكافحة الإرهاب"، والذي تم إقراره عقب أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وما تلاه من غزو عسكري مباشر وتدخل أمني غير مباشر لعديد دول في المنطقة.
وقد أشار الزعيم الراحل معمر القذافي آنذاك إلى أن هذه التدخلات الاستعمارية في أكثر من بقعة في الوطن العربي، كأحداث المدمرة "كول" في عدن، والانتشار العسكري الأمني فيها وفي بلدان الخليج بذريعة "مكافحة الإرهاب"، هي حقيقة تمثل حالة غزو عسكري استعماري جديد من قبل أمريكا وحلفائها على الوطن العربي الكبير.
وقد أكدت أحداث غزو العراق مباشرة وإخراج الجيش السوري من لبنان لاحقاً، مثل هذه النوايا المبيتة، وعودة السلوك الاستعماري العسكري المباشر. وأوضحت مثل هذه الكلمات المثيرة والجريئة أن الرجل الذي كان البعض يحب أن يصفه بالجنون كان لديه من العقل والفطنة والدراية أكبر بكثير مما لدى مستشاري هؤلاء الحكام الأوباش والسذج والمغرورين والخونة.
ثانيهما: مشروع ما سمي "الفوضى الخلاقة"، وهو المشروع الأمريكي الرامي إلى المساهمة في تأزيم الأوضاع الداخلية في بلدان المنطقة، ودعم أي احتجاجات شعبية أو تحركات سياسية ترمي إلى تغيير الأنظمة الحليفة العميلة، وأيضاً الأنظمة الوطنية غير العميلة، وصولاً إلى دمقرطة النظم السياسية لتلك الدول على الطريقة الأمريكية الغربية، وهي الديمقراطية البرجوازية الزائفة التي تمثل قنطرة وأداة عبور للهيمنة السياسية للاستعمار الجديد؛ لأن هذا المشروع الفوضوي بالنسبة لها هو ما سيمكن:
أولاً: من تجفيف منابع الإرهاب.
ثانياً: التمكين لنفوذ غربي أمريكي بشكل أكبر في المنطقة.
ثالثاً: التمهيد لدمج الكيان الصهيوني في المنطقة وتصفية القضية الفلسطينية.
رابعاً: التخفيف من غول فساد الأنظمة الحليفة وقمعها، لأنها ترى في تغول الفساد والقمع العاملين المتسببين في ظهور حركات سياسية معارضة راديكالية مضادة لهذه الأنظمة الفاسدة والمستبدة والحليفة لها من مختلف المشارب السياسية والفكرية، وهي لا تريد النجاح والتمدد لهذه الحركات بقدر ما تريد لهذه الحركات أن تساهم فقط في تأزيم الأوضاع وزعزعة الاستقرار؛ ولكن ليس إلى الحد الذي يهدد بفقدان السيطرة على السلطة في هذه البلدان التابعة الحليفة.
إنها تريد الاحتجاجات الشعبية أن تتم من قبل قوى شعبية سلمية ديمقراطية موالية للغرب، وليس حركات راديكالية عنيفة تصطدم معه أو تتمرد عليه بعد أن كانت في السابق مدعومة منه.
تريد أن تحدث عملية التغيير بشكل سلمي ديمقراطي قدر الإمكان، وإن كان لا بد من حدوث أزمات ذات طابع عنيف، فلا بد من احتوائها سريعاً وتوجيهها بما يخدم هدف تسريع عملية التغيير.

رياح خطرة تهب على المملكة من كل اتجاه
في مطلع العقد الأول من الألفية الجديدة وجدت السعودية نفسها وسط بحر متلاطم الأمواج، تحيط بها الأخطار من كل الجهات تقريباً، فهناك ما تسميه "الخطر الشيعي الإيراني" من جهة الشرق والشمال، وهي تقصد هنا محور المقاومة في وجه المشروع الصهيوأمريكي، الممتد من إيران إلى غزة واليمن، وهناك الخطر الإخواني الإسلامي المدعوم من العثمانيين الجدد، حكام تركيا الأردوغانية من جهة الشمال، وهناك مشروع الدمقرطة الغربية الداعم للحركات المدنية الليبرالية، وهو الخطر الزاحف من جهة الغرب، أي مصر والمغرب العربي.
وهذا المشروع الأخير تجد له ارتباطا ودعما خفيا من منظمات ديمقراطية دولية شهيرة يملكها ويوجهها في الخفاء بعض المليارديرات اليهود الماسونيين الكبار، مثل جورج سوروس وجيل الأحفاد من آل روتشيلد وغيرهم. هذه المنظمات الدولية الكبيرة تدعم آلاف المنظمات المدنية الصغيرة والأصغر في العالم العربي!
وهذا ما أثار ذعر النظام السعودي الأوتوقراطي الوهابي اليميني المحافظ، لما لمسوه من رغبة عارمة لهذه القوى الغربية الخطيرة في تغيير هذا النظام؛ لكن نخبة الحكم في السعودية لم تكن تعلم أو تتجاهل حقيقة أن الموجة الزاحفة الأخطر ستكون اجتماعية الطابع تنبثق من بين صفوف الطبقات الشعبية المفقرة.

وهو ما أثار ذعر النظام السعودي الأوتوقراطي الوهابي اليميني المحافظ، لما لمسوه من رغبة عارمة لهذه القوى الغربية الخطيرة في تغيير هذا النظام؛ لكن نخبة الحكم في السعودية لم تكن تعلم أو تتجاهل حقيقة أن الموجة الزاحفة الأخطر ستكون اجتماعية الطابع تنبثق من بين صفوف الطبقات الشعبية المفقرة، وهي بالتأكيد ستكون أكثر خطورة مما تسميه المد الإخواني أو الشيعي أو الليبرالي الغربي، وأن السياسات الاجتماعية للإفقار والتجويع التي اتبعتها الأنظمة الحليفة لها في الدول العربية الفقيرة كانت هي السبب الأساس في اندلاع الثورات الشعبية، باعتبارها انفجارات اجتماعية وبراكين غضب شعبي في وجه هذه السياسات الرأسمالية المتوحشة التي قضت على الدور الوظيفي الاجتماعي للدولة الوطنية العادلة كدولة رعاية اجتماعية تسهر على مصالح الوطن والمواطن وتأمين معيشته ومستلزمات العيش الكريم.
ولا شك في أن تخلي حكومات تلك الأنظمة الفاسدة والمستبدة والعميلة عن المكتسبات الاجتماعية لثورات القرن الماضي، من خلال اتباع إملاءات صندوق النقد الدولي وما رافق ذلك من أعمال نهب للثروات وتسريح للعمال وتخلٍّ عن دعم الاقتصاد الإنتاجي الصناعي والزراعي، مع استشراء الفساد والنهب الممنهج، هو ما نتج عنه تدهور مستويات المعيشة لأغلب المواطنين وتعاظم الإفقار الاجتماعي وتزايد التفاوت والتمايز الطبقي وحدوث البلترة، أي انهيار الطبقة الوسطى وتبلترها، وتحول فئات كثيرة منها إلى الطبقة الاجتماعية البروليتارية الفقيرة، وهو ما تسبب في اندلاع الانتفاضات الشعبية الغاضبة في هذه البلدان الفقيرة.
كانت السلطات السعودية تغض الطرف عن سياسات الأنظمة العربية الحليفة لها طالما أنها كانت تلبي مصالحها غير المشروعة في تلك الدول كأسواق لتصريف المنتجات السعودية والخليجية وبعض الاستثمارات، وكبلدان خامدة لا وجود فيها لأي حركات ثورية مهددة لها وكمزايا جيوسياسية مضمونة، وأهم مثال على ذلك اليمن.
في اليمن حرضت السعودية نظام صنعاء على قمع ما سمي "التمرد الحوثي" في صعدة، ودفعته إلى شن ست حروب عدوانية ظالمة راح ضحيتها أعداد غفيرة من المدنيين دون أي ذنب سوى المطالبة بالحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية من نظام سياسي سعى إلى تهميش منطقة صعدة لعشرات السنين وتهميشها وحرمانها من ثمار التنمية وحق المشاركة في السلطة والتمتع بالحقوق الثقافية، وهي القضية التي تبلورت فيما بعد تحت مسمى "قضية صعدة".
وحقيقة، إن غرور النظام لم يمكنه من فهم أبعاد ومرامي الحركة السياسية الوطنية الجديدة التي بدأت تسعى وتنشط في واقع الأمر لتحقيق هدف إسقاط نظام صنعاء العسقبلي الجمروكي العميل والرازح تحت الوصاية السعودية والهيمنة الاستعمارية الأمريكية.
بعد ذلك اندلعت ثورات ما سمي "الربيع العربي"، والتي مثلت فرصة سانحة لنشاط كل الحركات السياسية والتيارات الفكرية المدعومة من هذه القوى الإقليمية والدولية. أثناء هذه الموجة الشعبية الاجتماعية التي سماها الليبراليون "موجة الربيع العربي" سارعت المملكة إلى دعم كل التحركات المضادة على شكل ثورة مضادة قادتها الأنظمة المهددة بالسقوط، وكذلك ما تبقى من الأنظمة الساقطة وسلطاتها العميقة. حدث هذا في كل بلدان "الربيع العربي" تقريباً، ومنها اليمن.
في اليمن سارعت المملكة إلى منع سقوط النظام السياسي الحليف عبر تبني ما سمي "المبادرة الخليجية" أواخر العام 2011، وضغطت على كل الأطراف السياسية في السلطة والمعارضة للقبول بها تحت ظرف الصدامات المسلحة العنيفة والتأزم السياسي، واستطاعت إقناع قوى المعارضة السياسية بصعوبة تغيير الوضع وكسب المعركة السياسية تحت عنوان "الاستعصاء السياسي". وعبر تحريكها كل أدواتها ووسائلها السياسية والأمنية والاقتصادية عملت على المساعدة في زعزعة الاستقرار وإفشال الحكومة التوافقية الجديدة، وقامت بخلط الأوراق على المشاركين في عملية "الحوار الوطني" بغية إفساده وإخراجه بمضامين هزيلة باهتة لا تعكس طموحات قوى الثورة الشعبية، وعلى رأسهم الشباب اليمني.
وقامت بتحريك ورقة "الإرهاب الديني" عبر عملائها لتمكين المنظمات الإرهابية الدينية من السيطرة على أجزاء واسعة من مناطق الشرق والجنوب، واستطاعت أن تحتوي وتضعف نشاط وفاعلية القوى السياسية الوطنية الثورية المنضوية في الثورة الشعبية.
وعندما وجدت نفسها على وشك خسارة نفوذها السياسي في صنعاء لمصلحة قوى وطنية ثورية جديدة تجد دعماً سياسياً وإعلامياً من خصمها الإقليمي المقاوم المتمثل في دول محور المقاومة، شنت حربا عدوانية ظالمة على البلد، حربا انتقامية لغرض تدمير كل ما تم بناؤه في هذا البلد من بنية تحتية وأسس للدولة الحديثة وكل المقومات المتواضعة للإنتاج الزراعي والحرفي والصناعي، ولزعزعة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، على هشاشته في هذا البلد، واستقدمت المرتزقة الأجانب، واستعانت بالخبرات العسكرية والأمنية الأمريكية و"الإسرائيلية"، ومولت آلاف الطلعات الجوية لطائرات الـ"إف 16" الأمريكية التي ذبحت عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء في مجازر وحشية وجرائم حرب ضج لها العالم أجمع.
تسببت السعودية ومعها حليفاتها الخليجيات في نشوء ما اعتبر أكبر مأساة إنسانية في العصر الحديث، ونزوح وتشريد الملايين، وفقدان مئات آلاف العمال مصادر أرزاقهم، وتفشي أوبئة كانت تقريباً قد اختفت من الخارطة الصحية، وانقطاع مئات آلاف التلاميذ عن المدارس، وضياع أجمل سني العمر للأطفال والشباب في اليمن، وبؤس أكثر ويأس كامل للباحثين عن عمل أو أمل، ووصول عدد مهول من فتيات اليمن إلى سن العنوسة جراء عدم قدرة الشباب على تكاليف الزواج والمعيشة بسبب الحرب.
تسببت أيضاً في تقسيم البلد إلى كانتونات محتلة، وأعادت تعبئة وتدريب الإرهابيين وإطلاقهم مرة أخرى من أجل نشر الموت في كل بقاع اليمن.
مزقت النسيج الاجتماعي، وزرعت الطائفية، ونشرت ثقافة الكراهية، وروجت للأفكار العصبوية من كل نوع. علمت جيلاً جديداً كيف يصبح فاشياً بامتياز، ثقفته بثقافة الكراهية عبر أدواتها وحكوماتها العملية ووسائل إعلامها السوداء.
والآن، بعد مرور سبع سنوات وإخفاقها وفشلها الذريع في كسب الحرب الظالمة العدوانية لصالحها وكسر صمود الشعب اليمني في شمال البلاد، ها هي تفكر الآن في استمرار الحرب الحاقدة ضد الشعب اليمني بوسائل أخرى ناعمة وخشنة أيضاً إن أمكن، تريد أن تلتقط أنفاسها هنيهة من الوقت في استراحة محارب نازي حقير، كي تبدأ في المستقبل القريب حربها المستمرة الجديدة القديمة، والتمهيد لذلك باختلاق النزاعات والذرائع الجديدة والدخول في دورة صراع جديدة في سبيل تحقيق مراميها الدنيئة.
ها هي تتنكر لحكومتها العميلة التي وصفتها بـ"الشرعية"، وأطاحت بها وبقادتها ورموزها بشكل مهين ومذل، وأثبتت أنها لم تكن تحارب من أجل هذه "الشرعية" المزعومة، وإنما من أجل الحفاظ على نفوذها ومصالحها غير المشروعة في البلد، ومن أجل تنفيذ ما رسم لها من أدوار وظيفية في خدمة المستعمرين والصهاينة.

أترك تعليقاً

التعليقات