فكر أزمة
 

عدلي عبد القوي العبسي

للأزمة التي تجتاح واقعنا لتشمل جميع جوانبه، انعكاساتها السلبية على تفكير المواطن اليمني باختلاف مستوياته الثقافية ومستوى الوعي لديه، إلى الأحداث والوقائع وتقييمه لها وانطباعاته عنها يرتد تفكيره وينتكس الى ما قبل الوطنية، فيغرق في العصبويات الضيقة. إنها الذاتية المتشائمة حيث الذات تقع فريسة إحباطاتها وانكسار أحلامها، وتخرج من قوقعة أوهام معينة لتدخل في أخرى. والغريب أن يقع مثقفون وناشطون في هذا المأزق وهذا المسار الارتدادي البعيد عن الروح الوطنية والهوية الوطنية التي أكدت عليها وبعثتها الثورة اليمنية منذ سبتمبر وحتى الآن.
ولا تعرف مثل هذه النفسية الاجتماعية المريضة وقت الأزمات إلا طبقة اجتماعية واحدة قديمة متآكلة في طريقها الى الاندثار، هي الطبقة الوسطى وبقاياها التي انحدرت الى حضيض الفقر وحضيض الفاشية المصبوغة بصبغات مختلفة! هنا يهرب الانسان البدائي الراسخ في الأعماق مجددا الى كهف الأوهام بعد أن خرج من مخبئه بثوبه القديم مغطياً ومتجاوزاً ذاك الذي كانه بالأمس القريب.
يعود هنا الوعي البدائي والفكر البريء مرة أخرى بجهازه المفاهيمي البسيط مزيحاً إلى هوة سحيقة قشرة الاستنارة والوعي العقلاني الحديث، ناهيك عن الوعي الثوري، وأنه يلوذ بالظلام اختباء من وحش الحقيقة ومن برق يشق السماء منذراً بقدوم المطر الغزير، ومن رحابة الطريق الفسيحة والآفاق الممتدة وكل بساتين وحقول المعرفة المضاءة بنور الشمس حين سطوع النهار ونور النجمة حين تشتد حلكة الليل الداجي.
لا أحد ينوي السير على الدرب، اجتياز المسالك والقفار والصعود إلى ربوة عالية من أجل الوضوح واختصار الطريق والتزود بعتاد ومستلزمات الرحلة الطويلة الشاقة صوب تلك المدينة الجميلة الساحرة المختبئة هناك خلف تلك التلال البعيدة.. يكره البدائي رحلة الاستكشاف، ويخشى الطريق رغم ما يحوزه الآن من خرائط ووسائل وأدلة وخبرات وإمكانات، هو يركن الى عالمه البسيط الساكن المألوف، لا يريد اجتياز الآفاق وعبور النهر، ويهاب صعود الجبال، يؤثر السلامة، يهرب الى مضارب العشيرة والحمى، ينكفئ، تتضاءل مساحة الوطن ومفهومه لديه جغرافياً وتاريخياً واجتماعياً، يلوذ بكهفه متمتماً بكلمات عاطفية انفعالية بائسة، هو يكره الوحوش الآخرين وجحيمهم! وأرضهم الملعونة تلك التي هناك ولابد أنها مسكونة بكل أنواع الشرور، هي أرض الخطر، ولا تصلح للتواشج والبناء والعمل ومد الأواصر والتعاون والتثاقف والتبادل والمعاضدة، وهي أرض غريبة مذمومة لطبيعتها وطبيعة أهلها منذ الأزل! الأرض، أية أرض، في أية جهة كانت شمالية جنوبية في الجبل في الصحراء في الساحل، هي كذلك طالما أنها ليست بلادنا مسقط رأسنا وأرض عشيرتنا التي هي وطننا، فها هنا فقط هذا الحيز البسيط الذي يقطنه أهلنا هؤلاء المألوفون بثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم ونمط تفكيرهم وطرائق عيشهم وأسلوب حياتهم وسلطتهم الأبوية التي ارتضوها وأقروا لها جيلاً بعد جيل، هؤلاء هم مواطنونا الجديرون باحترامنا ومعاضدتنا واعترافنا لهم بآدميتهم وكينونتهم الإنسانية، أما أولئك وتلك (الناس الآخرون وأرضهم المختلفة) فهم منبع الشر ومستوطن الأشرار، وهم سبب بلائنا، ولا نحسبهم من زمرة البشر! بحسب ما رواه لنا الأجداد والجدات الطيبات ذات ليالٍ قاسية وطفولة بائسة! هكذا يجادلونك، يقذفون في وجهك ما يرونه الخلاصة ونتاج خبرتهم الطويلة (انظر هناك سنبني السور ونحفر الخنادق ونجهز المتراس!)، وإنك إذ تغادرهم وتغادر كهفهم وأوهامهم القروية البدائية ونمط تفكيرهم العصبوي القروسطي القديم الضيق وذهنيتهم الجامدة المتبلدة، سرعان ما تدرك بتبصر قليل ورحلة بسيطة في درب العقل وقراءة موضوعية مستحضرة لأبسط حقائق التاريخ والتاريخ الاجتماعي بالذات، أن الأمر لا يتعلق بمجرد خصائص أنثروبولوجية لدى هؤلاء وأولئك، بل هي مسألة نمط إنتاج وبنى وانعكاسات فوقية وصراع اجتماعي يجد تكثيفه في السياسي ونظام اقتصادي اجتماعي ومرحلة تاريخية متأخرة عابرة انتقالية وبنية اجتماعية مأزومة تفرز مثل هذه الأوبئة الاجتماعية ونظام اجتماعي عالمي مأزوم.
وإن كل ما سبق يستلزم النضال الشعبي والكفاح الديموقراطي الثوري المستمر بشتى أساليب النضال الممكنة من أجل إنشاء الروافع الاجتماعية التاريخية، والطريق إلى ذلك يستلزم تحقيق الثورة الاجتماعية التي تنتج الوعي الجديد والمجتمع الجديد ببناه وأنظمته الجديدة وثقافته الوطنية الإنسانية العظيمة. هكذا كان مخطط ثوار سبتمبر وثوار أكتوبر وثوار الانتفاضات الشعبية التي شكلت منذ العام 2007م وحتى 2014م ثورة شعبية ثالثة تسير على ذات النهج الوطني الديموقراطي التقدمي ضمن برنامج ثوري تغييري طموح يستهدف كل الوطن جغرافيا وبشراً، لا اختلاف حقيقياً في الأرض في المكان أو الزمان أو الثقافة والعادات والتقاليد والفكر والعواطف والمصالح المشتركة أو التاريخ، وإنما هي تباينات ثانوية عرضية تزول بزوال أسبابها، تذوب وتنصهر في بوتقة الدولة الوطنية الديموقراطية أو المدنية الحديثة بحسب تعبير الليبراليين، هو الوطن الذي ننشد بناءه والنهوض به تنمية مستدامة وعدالة اجتماعية وديموقراطية حقيقية واستقلالاً فعلياً وسيادة وطنية كاملة، هو الوطن كما عرفه جيل سبتمبر وأكتوبر، ويعرفه جيلنا الحالي، وهذا امتداده وهذه حكايته، وهو نفس معدن الرجال ونفس الحلم، نفس الهدف، الابتكارات ذاتها والحضارة ذاتها، البطولات والوثوب الإنساني والدم الممتزج والحركة الوطنية وامتدادها التاريخي. إنه مصيرنا، وطننا معاً، والعدو الحقيقي هو ذاك الذي يحطم كل هذا بما يصنعه من أسباب الفرقة والتشتت والتمزق، محيلاً هذه الأرض المعطاءة الى واحة للموت والدمار والصراعات الجانبية المدمرة، إمعاناً في الحقد عند البعض، والجهل عند البعض الآخر، ويخدم بوعي وعدم وعي الرغبات الشيطانية للمستعمر الذي يهدف إلى إذلال رجال هذه الأرض، أرض الوطن وإنسانها الكادح البسيط، ورغبة في السيطرة على خيراتها ومقدراتها.

أترك تعليقاً

التعليقات