عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبدالقوي العبسي / لا ميديا -
في منتصف العام 2017 في بداية زمن الرئيس الأمريكي الصهيوني اليميني المحافظ الجمهوري دونالد ترامب، ظهرت إلى العلن فكرة المشروع الأمريكي الاستراتيجي لبناء حلف "شرق أوسطي أمريكي" بعد فترة من إجراء الدراسات والأبحاث والمراجعات والتقييم للنشاط والسياسات الأمريكية الشرق أوسطية منذ نهاية الحرب الباردة مطلع التسعينيات.
وهي فكرة راودت الأمريكان بإلحاح منذ برزت الحاجة الأمريكية إلى تغيير العقيدة العسكرية الأمريكية ومغادرة منطقة "الشرق الأوسط" ونقل مركز ثقل أنشطتها وعملياتها إلى المحيط الهادي لمواجهة ما سموه الخطر الصيني والنفوذ الصيني المتزايد عالميا، والأهم المتزايد في هذه المنطقة ضمن تحالف أوسع مشرقي مع روسيا وحلفائها هو الحلف الصيني الأوراسي والذي أصبحت إيران مؤخرا رأس حربته في المنطقة.
جاء إذن مشروع الحلف الشرق الأوسطي الأمريكي الاستراتيجي أو "الناتو العربي" كما يطلق عليه كرد فعل غربي أطلسي على التسونامي المشرقي الزاحف على هذا الإقليم سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وكرد فعل على تنامي نشاط وقوة وممانعة محور المقاومة في المنطقة بقيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
سارع الأمريكيون الخائفون من فقدان النفوذ في المنطقة وفقدان مصالحهم فيها والخائفون أيضا على أمن ربيبتهم الدويلة الصهيونية المسماة "إسرائيل" إلى بلورة أسس ومبادئ وركائز وأهداف هذا الحلف/ الدرع/ مصد رياح الشرق الذي سموه رسميا مشروع "ميسا" وهو اختصار للتسمية التالية (التحالف الاستراتيجي الشرق الأوسطي) Middle East Strategic Alliance.
احتفت وسائل الإعلام الغربية والصهيونية ومراكز الأبحاث والدراسات والمجموعات الدولية المعنية بالمراقبة والتحليل وتقييم السياسات الغربية في الشرق الأوسط بهذا المشروع ونشطت في كتابة التقارير والمقالات وإصدار الدراسات التي توضح مزايا وفوائد هذا المشروع والمخاطر والعقبات والتحديات التي تواجهه، وتحدد نقاط القوة ونقاط الضعف.
دراسات وتقارير كلها أوضحت لماذا برز هذا المشروع؟! وما هي أهدافه ومجالات عمله وركائزه؟ وما الأطراف الفاعلة فيه؟ ما هي إمكانات نجاحه وتطويره؟! إلخ من الأسئلة المتشعبة التي يتطلبها الدرس والبحث.
حدث هذا الاحتفال الإعلامي الثقافي بالمصاحبة الزمنية مع الحملات السياسية الدبلوماسية والجولات المكوكية الترويجية في بلدان ما يسمى "الشرق الأوسط"، والتي قام بها جوقة اليمين الصهيومسيحي المحافظ في إدارة ترامب، حيث توالدت وتدفقت الاتفاقيات والصفقات والطبخات واللقاءات المشبوهة العلنية والسرية وطرحت على طاولة الاجتماع مشاريع صهيوأمريكية (بمسميات صفقة القرن وأولاد إبراهيم وغيرها من الابتكارات الصهيوماسونية)، خرجت من نفس الأوكار والجحور والبيوتات والمطابخ الخفية! كمشاريع مساعدة تخدم وتحقق أهم أهداف هذا المشروع وهو هدف إدماج دولة الكيان الصهيوني في النظام الإقليمي وتغيير وتعديل ما يلزم لتحقيق هذا الهدف!
هذه المشاريع المساعدة بالإجمال تصب في ذات الأهداف الكبرى لمشروع "ميسا" أو تمت إعادة تصميمها وتكييفها كي تخدم أهداف هذا المشروع الجيواستراتيجي الحيوي والحساس، بل ولكي تصبح هي وهو معا حزمة واحدة متناغمة ومشروعا واحدا.
يقوم مشروع "ميسا" الاستعماري الصهيوني الشيطاني على فكرة محورية تتمثل في إنشاء هيكل إقليمي فعال للأمن الجماعي للدول الحليفة لأمريكا، يقوم بالدور الوظيفي التعويضي للانسحاب الأمريكي من المنطقة من دون خسارة نفوذها وسطوتها ومن دون السماح (هكذا قالوا في حينه قبل خمس سنوات وليس الآن فقط) بملء الفراغ من قبل الصين وروسيا، مع توزيع الكلف والأعباء وتقاسمها بين أعضاء هذا الحلف، أي بتوضيح أدق تغطية الفراغ الجيوسياسي الناشئ جراء الانسحاب الأمريكي من المنطقة من خلال إنشاء هذا التحالف الإقليمي الشرق أوسطي الأمريكي الأمني الاقتصادي وإدماج دولة الكيان الصهيوني فيه لتصبح بمثابة الدولة الإقليمية القائدة لهذا التحالف، تقوم ومن خلال هذا الحلف على تأمين مصالحها بالتعاون الأمني والشراكة الاستراتيجية مع دول الحلفاء الأعضاء أو ما تسمى دول محور الاعتدال (والتي تستحق أن تسمى محور الانبطاح)، وهو المحور الإقليمي الذي يضم دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن وأي دول أخرى صغيرة ضعيفة راغبة في الانضمام، وتضع خططا واستراتيجية دفاعية تتصدى لما تسميه التهديدات القادمة من الشرق (إيران وحلفائها الكبار الصين وروسيا).
لاحظ معي أخي القارئ ما تكتشفه خلف السطور في الخطابات المروجة للمشروع وهو وجود الثيمات الخلفية الدينية والميثيولوجية الصهيونية والماسونية الموجهة النظرية للأفكار العنصرية البليدة والتي تستند عليها مقولات أصحاب هذا المشروع الصهيوأمريكي مثل "التهديد الشرقي والشرير الشرقي والمعركة الكبرى" وغيرها من المصطلحات التافهة الركيكة المنحدرة من العقائد والأساطير الدينية التوراتية الصهيونية والمستمرة إلى يومنا هذا في ذهنية أحفاد يوحنا كلفين الكلفينيين الجدد في الغرب الصهيومسيحي وأشباههم في الإسلام!
إن أهم مكونات هذا المشروع هو بناء آلية للأمن الجماعي من خلال إنشاء درع عسكرية أمنية مشتركة وغرفة تنسيق موحدة (شاشة رادارية واحدة وتقنيات عالية للاتصال المتبادل) للتصدي للهجمات الجوية والبرية والبحرية التي قد يطلقها (العدو) بما يجعل كل سماوات الدول الأعضاء منكشفة لدى بعضها البعض!
ويلعب مشروع "صفقة القرن" فيه دور الوسيلة التي يتم فيها تصفية القضية الفلسطينية وتحقيق الإدماج الصهيوني في المنطقة، وتتم تغطيته ثقافيا وفكريا وسياسيا بمشروع آخر مكمل له ما يسمى "أولاد إبراهيم" الذي صممه ماسونيون وصهاينة غربيون وأخرجته جامعة "هارفارد" مطلع العقد الثاني وعملت على الترويج له وتسويقه لدى النخب الأمريكية في الإدارة الأمريكية وقطاع الأعمال ومؤسسات الإعلام والمنظمات المدنية كفكرة ماسونية بامتياز، فكرة تسووية تقوم على توظيف أفكار تعزيز التسامح بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام) بعيدا عن الهدف الإنساني لتحقيق السلام العادل، ولكن في إطار من الخطة الاستعمارية الاستكبارية لتمرير سلام الاستسلام والخضوع والتبعية سلام انتقاص الحقوق وفقدان الهوية والسيادة والكرامة والثروة، وهي الخطة التي هدفها المباشر كما هو معلوم هو التمكين للكيان الصهيوني لقيادة المنطقة والتحكم فيها وقيادة المخططات الاستعمارية الصهيونية فيها.

والآن تعالوا معي بعد هذا التقديم المختصر لفكرة المشروع نضع السؤال المهم التالي: هل لهذا النشاط جذور تاريخية؟ هل هو حقا حلف قديم متجدد؟!
الجواب: بالتأكيد نعم، فقد وجد حلف الناتو العربي منذ زمن بعيد وتجدد أكثر من مرة، ومر بمراحل من التطور التدريجي في مستويات التعاون والتنسيق وكيفيات الاتصال وآليات التنفيذ، بحيث أمكننا القول إن تحالف "الناتو العربي" قديم قدم الوجود الأمريكي الفعلي في المنطقة، وأمريكا هي عرابة هذا التحالف وصانعته التاريخية!!
وإن الأشكال الأولى التي اتخذها هي أشكال بسيطة بأهداف بسيطة ولا تستدمج كل هذه الأهداف المعقدة والطموحات الكبيرة المجنونة، ولا تتوسل كل هذه الأساليب الناعمة المتبعة.
"الناتو العربي" أو مشروع "ميسا" هو شكل من أشكال التعاون بين دول ما يسمى "الشراكة الاستراتيجية مع أمريكا"، ويضم كل الدول التي وقعت اتفاقيات للتعاون متعددة الأشكال (سرية وعلنية) مع أمريكا، أي كل الدول الحليفة الدائرة في الفلك الأمريكي.
ولأن أهم دولة حليفة وشريكة استراتيجيا لأمريكا في المنطقة هو الكيان الصهيوني فقد دخل معه معظم حلفاء أمريكا في المنطقة في اتفافيات تعاون سرية منذ مطلع الخمسينيات وبعضها مطلع الثمانينيات. ومظاهر هذا التعاون بين هذه الدول موجودة منذ عقود، وكانت تأخذ أنماطا من السرية والشبه العلنية والعلنية الصريحة. فحقيقة وجود الحلف العربي الأمريكي الصهيوني منذ أكثر من أربعة عقود هي مسألة مؤكدة ولا غبار عليها.
كانت أمريكا دائما ما تردد عبارة "حلفاؤنا وشركاؤنا ودول الاعتدال ومحور الاعتدال والأصدقاء"، وغيرها من الأوصاف الدبلوماسية الخبيثة لهذه الدول التابعة التي تحكمها أنظمة سياسية عميلة. هذا الأمر واضح ومعروف للقاصي والداني، لكل مواطن عربي يفقه أبجديات السياسة.
كانت التفاهمات والتنسيقات الجماعية واللقاءات الجماعية تحدث على الدوام ولكن بشكل سري، ونادرا ما كان يحدث تسريب هنا وهناك يكشف بشكل علني فضائح هذه اللقاءات والتفاهمات، والحوادث والوقائع التاريخية التي تؤكد وجود أنماط متنوعة من إجراءات التعاون والتنسيق والدعم الخفي المتبادل بين هذه الدول وبين الكيان الصهيوني كثيرة وأغلبها معروف، ولا أتحدث هنا عن تفاهمات ثنائية وتنسيق وتعاون ثنائي، وإنما عن لقاءات سرية جماعية.

هل نجح هذا المشروع؟
واجه هذا المشروع منذ بدايته صعوبات شتى، بعضها يتعلق بالحساسيات السياسية القائمة ورواسب الصراعات القديمة والطارئة بين بعض الدول أعضاء مجلس التعاون الخليجي، وممانعة نصف عدد هذه الدول تقريبا لفكرة القيادة والزعامة السعودية للحلف، وواجه أيضاً مشكلة وجود تباين كبير في السياسات الخارجية للدول الأعضاء، حيث تنهج قطر والكويت وعُمان سياسة انفتاح وتعايش مع الدولة الجارة الكبيرة (إيران)، وتعرف أن مصالحها لا تقتضي الدخول في صدام مسلح أو عداء سياسي واقتصادي معها، لما لذلك من ضرر كبير على أمن دول المنطقة وأمن الخليج (العربي - الفارسي) ذي الأهمية الاستراتيجية العالمية كأهم مصادر الطاقة، والذي يتشاطؤه الطرفان المسلمان.
أيضا بدرجة أقل كانت دولة الإمارات تحتفظ بتفعيل خط دبلوماسي مع جارتها إيران والمتهمة عندها بالاستيلاء على عدة جزر عربية تابعة لها، هي طنب الكبرى والصغرى وأبوموسى، حيث يأتي هذا الحرص كنتيجة مصالح متبادلة وتبادل تجاري بين الدولتين يصل إلى بضعة مليارات دولارات سنويا مع وجود آلاف الشركات الإيرانية في إمارة دبي!
لهذا في الآونة الأخيرة سلكت كلٌّ من الإمارات والسعودية نهج الحوار والتفاوض وخففتا لهجة العداء، وتخلصتا تماماً من الضغوط الأمريكية والصهيونية الساعية لدفعهما باتجاه تصعيد العداء ضد إيران، وتحقق ذلك أيضاً على خلفية التهديدات الإيرانية بالرد على أي شكل تصعيدي من التعاون الخليج الأمني الخليجي الصهيوني، ونتيجة أيضاً لتعاظم مخاوف هذه الدول الخليجية من انكشاف أمنها الجوي أمام القوات الصهيونية في حالة بناء الدرع الدفاعية المشتركة!
كل هذا أسفر عنه عملية تجميد أو إبطاء أو عرقلة مسار التعاون في هذا المضمار في السنوات القليلة الماضية، وذلك بعد سنوات من الهرولة المجنونة (كما سنوضح ذلك لاحقاً)، وحدثت عملية فرملة للتسارع باتجاه التطبيع بعد عقد صفقات "إبراهام" المشبوهة في دول أخرى كالكويت والسعودية مثلاً.

الهرولة باتجاه تنفيذ بنود مشروع "ميسا"
في مسار تحقيق التقدم في مشروع "ميسا" حرصت الدولة الأمريكية على البدء في تنفيذ أفكار دمج الكيان الصهيوني في المنطقة من خلال تمرير اتفاقيات التطبيع "اتفاقات إبراهام"، وهو ما تمكنت منه مع أربع دول جديدة، هي الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، وتمكنت أيضاً من عقد "مؤتمر وارسو" للأمن، والذي وقفت فيه دول عربية منبطحة إلى جانب الكيان الصهيوني، ومنها (في سابقة هي الأخطر!!) مشاركة حكومة هادي العميلة الفاشلة والفاسدة (سيئة الصيت)، والتي تسمي نفسها "حكومة الشرعية"!!
وهذا الحدث الصادم اعتبر أول اختراق صهيوني خطير لدولة عربية يفترض أنها تشكل الدرع الأخيرة للوقوف في وجه الزحف الصهيوني السياسي الأمني باتجاه الإقليم العربي. وبعدها تكرر هذا الاختراق من خلال أطماع الكيان في سقطرى ومناطق أخرى، وبداية التغلغل الفعلي بالاستناد إلى رافعات وقنطرات الاحتلال السعودي الإماراتي لأجزاء من أرض الوطن! وتسهيلات من أعوان عصابة "ميسا" في الداخل اليمني!!
الغريب والمؤلم والموجع للقلب بهذا الخصوص أنك تجد أن الغالبية الساحقة من مثقفي وسياسيي تعز والجنوب وكل الدائرين في فلك شرعية هادي المزعومة على اختلاف مشاربهم السياسية والفكرية (من جهتي اليسار واليمين) لا يجدون أي مشكلة مع مشاريع مثل "ميسا" و"إبراهام" والاحتلال الإمبريالي الرجعي بالوكالة للبلد، لا تعنيهم مثل هذه القضايا والمسائل، لا من قريب ولا من بعيد، وكأن الوطن وسيادته وحقوقه ليست من ضمن اهتماماتهم، والقضايا القومية الفلسطينية ليست قضيتهم!!
وهذا لا يفسر فقط بأنه موت للضمير وخيانة وارتزاق، بل وتبلد للأحاسيس والعقل ونفسيات مريضة موتورة وحاقدة فقدت البوصلة! وهي تغالط نفسها عندما تعتقد أنها بمجرد زعمها أنها تهاجم الفساد والاستبداد والإرهاب وما تسميه "الانقلاب والكهنوت" في صنعاء وكل الظواهر السلبية الأخرى على امتداد البلاد شمالا وجنوبا، تعتقد أنها بمجرد أن تفعل ذلك فإن هذا يشفع لها تعاونها وانخراطها مع المستعمرين والعملاء وسكوتهم المخزي عن مشاريع المستعمر في جنوب البلاد وشرقها، وصمتها المريب إزاء اختراقات الكيان الصهيوني وأنشطته المشبوهة التي بدأت تخرج للعلن.
فضلاً عن صمتهم الفاضح إزاء قضية الإفقار الاجتماعي ونهب قوت المواطن وإذلاله بالغلاء ومحاصرته بتغييب الخدمات الأساسية في معظم أرجاء البلاد الواقعة تحت إدارة حكومتهم "الوطنية الشرعية" المزعومة!!
بما معناه أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون بالبعض الآخر!! وأنهم يكيلون بمكيالين عند تناول كل المسائل والقضايا الوطنية في واقعنا اليمني الراهن.

نواصل حديثنا عن المخطط الأمريكي واللعب الـ"ميساوي" البارع في السياسة (مع احترامنا طبعاً لبراعة ومهارة وإبداع ميسي ورفضنا لمواقفه السياسية)!!
في إطار الرغبة المحمومة في تسريع خطى مشروع "ميسا" قررت واشنطن ضم الكيان الصهيوني إلى نطاق أنشطة القيادة المركزية في الإقليم، أي نقلها من القيادة الأمريكية المتوسطية إلى منطقة الجزيرة والمحيط الهندي. كما تساوقت وتناغمت المشاريع الخليجية الرجعية الاستعمارية في اليمن مع مشروع "ميسا"، وأصبح ملف الأزمة اليمنية جزءاً أساسياً من تحكمات السياسة الخارجية للكيان الصهيوني، الأمر الذي نلمس له انعكاسا كارثيا خطيرا على فرص نجاح السلام ووقف الحرب العدوانية علينا!
وذلك لأنهم أصبحوا يجذرون فكرة خطيرة غير مسبوقة، مفادها أن "أمن اليمن هو جزء أصيل من أمن التحالف الجديد"، تحالف "ميسا"، والذي يتم بناؤه كما قلنا لغرض مواجهة العدو المزعوم: إيران، وعلى أساس من زعمهم أن شمال اليمن بات تحت هيمنة إيران وتحكمه ذراع خطيرة من أذرع إيران! هكذا وبكل وقاحة تم خلق التبريرات اللاأخلاقية للتغلغل والتحكم في مصير البلد وانتهاك سيادته الوطنية وحقوقه، وللتغطية على الأطماع الصهيواستعمارية في الثروة والمزايا الجيوسياسية للبلد.
وبكل غطرسة وخبث يتم الإيحاء بأن الأمن القومي العربي، والأمن الصهيوني والمصالح الاستعمارية الأمريكية، شيء واحد، وليسا نقيضين وضدين لا يجتمعان، كما يعرف المواطن العربي البسيط... وعجبي!!
ويستمر التحرك في مسار تنفيذ المشروع، وفي إطار إزالة العقبات والحوادث الطارئة، وتمهيد الأرضية لبناء ركائز هذا المشروع الصهيوأمريكي الكبير، والمتمثل في مشروع "ميسا".
في السياق، رأينا كيف أن حكومة واشنطن سارعت إلى إغلاق ملف الأزمة القطرية بتحقيق المصالحة والضغط على المملكة الأردنية اقتصادياً وسياسياً وابتزازها بالتهديد بسحب امتياز الوصاية الهاشمية ومحاولة تدبير انقلاب ضد العرش الهاشمي والترغيب بتقديم المليارات من الدولارات للفلسطينيين والأردنيين وامتيازات أخرى كجزء من مكونات "صفقة القرن"، كل هذا لضمان نيل موافقتها الكاملة وتحمسها اللامشروط للانخراط بفاعلية في هذا المشروع؛ لكن مع هذا وجدنا أن الرفض الأردني والفلسطيني لأهم مكونات "صفقة القرن"، وهو التنازل عن حق الدولة الفلسطينية وحق العودة وإزالة المستوطنات والقدس الشرقية وغيرها من الملفات الهامة، قد أصاب جوقة اليمين الصهيومسيحي في أمريكا واليمين الصهيوني في الكيان الصهيوني بخيبة أمل شديدة.
ثم نفاجأ بعد ذلك بسقوط رموز هذا التيار في الطرفين (أمريكا والكيان الصهيوني) سياسياً، ولم تشفع لهم الهدايا الثمينة التي قدموها لخدمة المشروع الصهيوني، خاصة فريق ترامب، الذي قدم خدمات كبيرة، أهمها:
ـ نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
ـ الاعتراف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل".
ـ ضم الجولان العربي السوري المحتل.
ـ وقف الدعم عن وكالة الأونروا.
ـ وقف الدعم عن منظمة التحرير الفلسطيني، وإبعاد مكتبها التمثيلي من واشنطن.
ـ جر أربع دول عربية إلى التطبيع مع الكيان.
ـ وضع أسس مشروع "ميسا" لمجابهة إيران ودمج الكيان في المنطقة.
ـ مباركة إقرار قانون القومية في الكيان الصهيوني.
ـ إلغاء الاتفاقية النووية مع إيران.
ـ تشديد العقوبات والحصار على إيران.
ـ تصفية أهم الرموز الداعمة للمقاومة العربية والفلسطينية، وهو البطل قاسم سليماني.
لم تشفع كل هذه الإنجازات الصهيونية لترامب لدى يسار الماسونية العالمية بقيادة لوبي التكنولوجيا الرقمية الذي قرر إسقاطه في الانتخابات، مستخدماً كل أنواع الحشد والتجييش الإعلامي والإلكتروني والمالي ليتمكن من تحقيق النجاح في تصعيد جوزيف بايدن، المسيحي الصهيوني اليساري كبديل له، لمواصلة النهج ولكن بوسائل أخرى وفي إطار حسابات جديدة!
وهكذا لاحظنا في ميزان القوى اللحظية آنذاك كيف كان اللوبي الصهيوني الماسوني الليبرالي المالي الإعلامي الرقمي الداعم لبايدن أقوى من اللوبي الصهيوني الماسوني اليميني المحافظ الطاقوي الحربي الداعم لترامب.
والوضع ربما اختلف الآن لصالح لوبي ترامب، جراء الحدث الجيواستراتيجي العالمي الكبير، وهو اندلاع الصراع العالمي الحاد بين المعسكرين الغربي الصهيواستعماري والشرقي الوطني المقاوم، وهو الصراع الذي أججته حرب أوكرانيا وأوصلته إلى ذروته. اختلف الوضع، لأن "كورونا"، وبعده أوكرانيا، غيرا موازين القوى وخلطا الأوراق وأربكا كل المشاريع الأمريكية، وراح في الرجلين مشروع "ميسا" الصهيوأمريكي؛ "ميسا" (حلف الشرق الأوسط الاستراتيجي) الذي عمل على تأسيسه ترامب قبل سنوات، ويسعى بايدن الآن لاستنقاذه وإنعاشه بعد موات بطيء، وبعد فوات الأوان.
"ميسا" ولد متعثراً، وأصبح الآن في خبر كان أو في غرفة الإنعاش. وهو وُلد متعثراً، لأنه تعثر في تنفيذ أهم بنوده وركائزه وسط خلاف شديد بين أعضائه وفشل فشلا ذريعا في تحقيق أهدافه، إلا اليسير منها، بل واضمحلاله وسط عواصف ومتغيرات كبرى لحقت بالإقليم جراء صدمة أوكرانيا، بعضها لم يكن ربما في حسابات وتوقعات دوائر صنع القرار الغربي الصهيوني والمراكز البحثية التابعة لها.
نعم، هي صدمة أوكرانيا قسمت العالم إلى قطبين متصارعين، في تحديد واضح المعالم للحدود الجغراسياسية، وفرز حقيقي للدول، كبيرها وصغيرها، فأضحى الخليج العربي و"الشرق الأوسط" فيه أقرب إلى الشرق من أي وقت مضى، وحيث تجد المنطقة نفسها إزاء مشاريع جديدة يقدمها الشرق هذه المرة، بنكهة مختلفة وقيم ومبادئ مختلفة، إنسانية وعادلة وسلمية، وتجد نفسها في إطار توزيع جديد للقوة وتغيير ملامح خرائط الثقل السياسي والعسكري للإقليم والثروة والميزات، تتصدر فيها دول إقليمية جديدة وتتراجع دول أخرى إلى مرتبة أدنى، دول ظالمة فاسدة عميلة لطالما اعتبرت نفسها سيدة الإقليم بلا منازع.

أترك تعليقاً

التعليقات