أنصار النبي محمد
 

عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبد القوي العبسي / لا ميديا -
عادة الاحتفال بذكرى ميلاد النبي محمد أو ما يسمى بـ«المولد النبوي» كانت تقليدا راسخا في الحياة الاجتماعية الروحية للشعب اليمني امتد لأكثر من ألف وأربعمائة عام تقريبا، أي إلى ما قبل أربعين عاما تقريبا.
حدث هذا مع سيادة المذاهب الدينية الزيدية والصوفية والشافعية، التي خلقت تأثيرا واسعا في المفاهيم السياسية والروحية والحياة الثقافية اليمنية طوال هذه الفترة التاريخية الطويلة.
أما انقطاع هذه العادة الحميدة فقد كان بسبب انتشار المذهب الوهابي والفكر الإخواني الدخيل على البلد منذ مطلع الثمانينيات، وهو الفكر الأصولي المتطرف الذي نظر إلى هذا التقليد الروحي الثقافي الاجتماعي بوصفه بدعة دينية مقيتة.
وبالفعل تمكن الأصوليون المتطرفون من القضاء على هذه الظاهرة الروحية الثقافية أو التسبب باضمحلالها ونشر النفور منها وكرهها لدى الغالبية المسلمة البسيطة.
وفي فترات عديدة، كثيرا ما كان النقاش الديني الجدلي الصاخب المتعصب يستعر ويحتدم بين نشطاء وأنصار هذه الجماعات الدينية المؤيدة للاحتفال والرافضة له، لتترسخ بعدها وفق منطق الغلبة والقوة مشيئة الطرف المتغلب والمستقوي بالسلطة والمال والدعاية بعيدا عن المحاججة الدينية التي يقدمها كل طرف.
وعادت مرة أخرى تقاليد الاحتفال مع وصول أنصار الله إلى السلطة بُعيد ثورة 21 أيلول/ سبتمبر الشعبية المجيدة التي غيرت الواقع السياسي والثقافي في البلد، لتعود مرة أخرى لدى البعض مظاهر الشعور بالاستفزاز والنفور والكراهية مما اعتبروه محاولة إحياء البدع الضالة السابقة!!
لكن نحب هنا أن نوجه النظر إلى جذر هام من جذور هذه الظاهرة، ناظرين للمسألة من منظور إيجابي مستنير بعيدا عن التعصب والغلو والمفاهيم الضيقة، تسليطا للضوء على مكانة النبي محمد وحبه في نفوس اليمنيين وماذا يعني لهم في الذاكرة الجمعية وكيف أنه كان حاضرا بقوة في مشهد الحياة اليمنية عبر كل العصور.
أحب أن أذكر بجانب مهم من الجوانب الروحية فيما يعتبره اليمنيون الصفحة الأكثر إشراقا في التاريخ اليمني، وأشرح مشيرا إلى المحطة الأبرز في التاريخ اليمني الإسلامي والمتمثلة في واقعة الدخول الجماعي السلمي في الدعوة والحركة الجديدة، حيث إنه من دون أي مقاومة بدوية بربرية انتشرت الثورة المحمدية الإسلامية في ربوع اليمن. هذا الانتشار السلمي السلس والمدهش الذي تحقق في مهد العرب وموطن واحدة من أبرز حضاراتهم الأولى، حير عقول الكثيرين من مجايلي ذلك العصر وأدهش أيضاً البعض من المؤرخين، لكنه بالنسبة للباحثين في التاريخ والعارفين بالظروف التاريخية الاجتماعية في اليمن آنذاك لم يكن بتلك الدرجة من الغرابة والدهشة، للأسباب التالية:
أولاً: أسباب ثقافية فكرية: لأنه ارتكز على استعداد روحي ثقافي مسبق في المجتمع اليمني، فاليمنيون قد خبروا وعرفوا مسبقا انتشارا للديانات السماوية السابقة، فاليهودية سادت في معظم أرجاء اليمن إبان العصر الحميري، والمسيحية في بعض أجزائها الشمالية (نجران) فترة الملك الحميري اليهودي (ذو نواس) الذي أقدم على اضطهاد مسيحيي نجران وإحراقهم فيما عرف تاريخيا بحادثة الأخدود المذكورة في القرآن الكريم، ثم انتشرت في أجزاء واسعة مع دخول الاحتلال الحبشي المسيحي للبلد.
ولهذا لم تكن المضامين الفكرية والروحية للديانة الإسلامية الجديدة بالغريبة عليهم من الناحية الفكرية والروحية النفسية.
ثانياً: أسباب نفسية واقتصادية وجغرافية: كذلك يكمن خلف هذا الاستعداد من ناحيته السيكولوجية والاجتماعية الخصائص النفسية التي تميز الشعب اليمني والمكتسبة من بيئته الجغرافية الطبيعية الزراعية الجبلية والسهلية ومن نشاطه الاقتصادي الإنتاجي الأساس القائم على الري واستخدام موارد الطبيعة وترويضها لفائدة معيشة الفلاح اليمني المنتج البسيط والمسالم المتعلق بحب الأرض وقيم التعاون والتسامح والكفاف والتعلق بالإله الخالق وحبه وطلب المغفرة والرزق منه.
إن ظروف المعيشة المرتبطة بما تجود به السماء من أمطار وما يجود به التفاعل الطبيعي بين مكونات النظم البيئية وعناصرها من ماء وأرض ونبات ومناخ وما يجود به التعاون والعمل الجماعي المتساند ومؤسساته وبناه الاجتماعية قد أوجد في الشخصية اليمانية نوازع التعاون والتسامح والتسامي والتعلق بالروحانيات لمواجهة صعوبات الحياة وتأمين جانب مهم من جوانب التماسك الاجتماعي والسلام الاجتماعي، وهو ما يكمن خلف قول النبي محمد عن اليمنيين «أرق قلوبا وألين أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية».
فالطابع الفلاحي للإنسان اليمني يتغلب على التأثيرات البدوية التي نجدها لدى قبائل السهول الصحراوية التي بقيت في الأطراف من جهة الشرق، خصوصا بعد الانهيار الحضاري الكبير وسقوط مملكة سبأ الذي سرع حدوثه انهيار سد مأرب الشهير، حيث فقدت مملكة الصحراء إخضرارها وشريان حياتها ومدينتها الحضارية العظيمة، وفقدت معها الكثير من تقاليدها الروحية السلمية، وحدثت موجات هجرة صوب الشمال العربي بحثا عن التعويض والبديل، وبقيت معظم أجزاء اليمن الأخضر بسدودها الصغيرة وأراضيها الزراعية في المدرجات الجبلية وبطون الأودية والسهول على الإرث الحضاري ذاته المستمر حتى قدوم الإسلام.
إن البيئة الجغرافية الجبلية الخضراء وما تصنعه من أجواء روحية ونفسية ومن قيم وتقاليد اجتماعية تقلص نوازع التوحش ومخلفات البداوة أثناء نزوح القبائل البدوية واستيطانها أعالي الجبال. والعيش في قرانا الجبلية الحميرية الخضراء التي تعانق السحاب يفعل الأفاعيل في النفس البربرية لتتلاشى فيها شيئا فشيئا قيم الحرب والعنف والغلبة لتحل محلها وتنافسها وتنازعها قيم التعاون والسلم والمحبة والتسامح. ومع تغير بيئة الإنتاج المادي: الزراعة والحرف الصناعية وما صاحبها من أنشطة تجارية، تتغير الخصائص الروحية للإنسان، وهو ما جعل اليمن مختلفا كثيرا عن بقية أجزاء جزيرة العرب (شعب الصحراء)، مع الإشارة إلى وجود بيئات أخرى مشابهة نجدها في الشام والعراق ومصر والمغرب وغيرها. لهذا رأينا أنماطا مختلفة من ردود الفعل الاجتماعية إزاء الحركة والدعوة المحمدية:
الأول: يتمثل في هذا القبول والدخول الجماعي السلمي وهذا التحمس والمناصرة للحركة والدعوة الجديدة، وهو ما بدأته قبيلتان يمنيتان في يثرب هما الأوس والخزرج، واللتان لقبتا بالأنصار، وما فعلته أيضاً السيول البشرية اليمانية الهائلة المشاركة في معارك التحرير الإسلامي للبلدان العربية من هيمنة أعتى إمبراطوريتين في ذلك الوقت فارس وبيزنطة.
والثاني: يتمثل في هذه المقاومة البربرية الشرسة للأعراب الجاهليين البدو الذين كانوا يعتاشون من السلب والنهب.
رد الفعل الحضاري هذا والتحمس والمناصرة للحركة والدعوة المحمدية هو ما يسمح لنا بوصف اليمنيين وتقديمهم من خلال هذه الميزة التاريخية العظيمة على أنهم «أنصار النبي محمد»، وتلك الخصائص والأسباب التي ذكرناها أعلاه سحبت نفسها فيما بعد على ظهور فهمين مختلفين للإسلام: إسلام بدوي أعرابي أقرب إلى البربرية والهمجية وهو متأخر اجتماعيا وحضاريا عن غيره من الأيديولوجيات، وإسلام حضاري زراعي متسامح أقرب إلى الفهم الصحيح للإسلام أنتج في مسار تطوره الحضاري اللاحق رؤية حضارية إنسانية متقدمة قياسا بغيرها من الأيديولوجيات الكبرى في العصر الوسيط.
خلاصة القول: يجب أن ننظر إلى الاحتفال بذكرى ميلاد النبي محمد من زاوية المكانة والامتنان والتقدير والموقع الروحي العظيم للنبي محمد في الذاكرة الجمعية اليمنية باعتباره إمام المستضعفين ونصير الفقراء وقائد ثورة عظيمة غيرت وجه التاريخ، حثت على المساواة والتسامح ودعت إلى التآخي بين البشر، وهو ما نجده في قوله: «كلكم لآدم وآدم من تراب»، «الناس سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى»، «ليس منا من دعا إلى عصبية»... وغيرها من القيم الإنسانية العظيمة التي دعا إليها هذا الرجل العظيم.

أترك تعليقاً

التعليقات