كرة القدم «أبيض وأسود»
 

عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبدالقوي العبسي / لا ميديا -
لننظر إلى جوانب عدة في كرة القدم وليس إلى جانب واحد فقط كما اعتاد الكثيرون. لننظر إليها أولاً بوصفها رياضة المحبة والسلام، وذلك لكونها في المسابقات الأممية تشكل ملتقى للإخاء الإنساني والتعارف والمحبة والسلام بين الشعوب، وبوصفها رياضة جماعية شعبية تقدم لنا قيما أخلاقية تحصننا ضد العصبويات وضد الكراهية والعنصرية وتنمي في نفوس الشباب والأجيال هذا الجانب الأخلاقي وهذه الروح المتسامية. وهذا جانب إيجابي فيها بلا شك.
وننظر إليها بوصفها لعبة رياضية فيها مهارات فنية وذهنية، وهي في القاسم المشترك وفي المقارنة مع الشطرنج اشتباك بدني حواسي وذهني في آن معا بين فريقين متصارعين؛ لكنها أقل في متطلبات البراعة الذهنية والذكاء وتعقيدات الميدان وعقبات الاشتباك من الشطرنج، الذي هو لعبة وفن ابتكره العقل الإنساني في لحظة تاريخية من الصعود الحضاري ذات زمن مشرقي ذهبي جميل.
نعم، الشطرنج أقرب إلى الحضارة من كرة القدم، وهو ظاهرة حضارية مدهشة ولعبة اخترعها الهنود وطورها الفرس. لعبة يمارسها جميع البشر ولا تتطلب مهارات وصفات بدنية معينة.
والشطرنج لعبة تنمي الذهن وتروض العقل وتقوي النفس وفوائدها جمة على تطوير القدرات العقلية والصحة النفسية. وقد هاجمها للأسف بعض المطاوعة المتأسلمين العربان وشوهوها وحاربوها؛ لكونها -بحسب زعمهم- جاءت من ديار الكفر والزندقة والمجوس، ولكونها رمزا للشيطان والماسونية، وآخرون هاجموها بزعم أنها تمجد الملكية ومن بقايا أزمنة الإقطاع والملكية!
كرة القدم لا تصمد في المقارنة الحضارية مع الشطرنج، ومع هذا فيها جوانب إيجابية كثيرة، ولا ننسى ابتداء النظر إليها في فائدتها الأساس بوصفها رياضة بدنية لها فوائد صحية جمة عضوية ونفسية، وبوصفها من المنظور النفسي التحليلي عبارة عن تعويض سيكولوجي فردي واجتماعي طبيعي عن غرائز الصراع المدمر الوحشي وعن النزعة الحيوانية للبشر ورغباتهم البهيمية؛ بمعنى أنها تحقق عملية تحويل متسامٍ إلى حالة أرقى إلى تنافس بشري سلمي لاستعراض المهارات البدنية والذهنية والحسية الفنية، وهي بهذا تساعد أيضاً في تحقيق شيء من التوازن النفسي الاجتماعي والاستقرار الاجتماعي في المجتمع. لكنها للأسف في فترات الأزمة والهبوط المجتمعي تبرز بوصفها تعويضاً سيكوباتياً جمعياً كتعبير عن الخيبات المريرة للواقع، وتظهر حالئذ كهوس جمعي وتنفيس يشوبه الغضب والعنف والهياج أحياناً، يتعالى فيه الصخب الغوغائي ويعكس خلاله جمهور هذه الرياضة الشعبية حالة السخط واليأس والاضطراب النفسي الاجتماعي لقطاعات شعبية مأزومة مطحونة بالفقر والبطالة والقهر والفساد والظلم الاجتماعي.
وننظر إليها كأداة في يد السياسة الرجعية الفاشية سنوات الأزمة، وذلك في توظيفها واستخدامها السياسي الاجتماعي القذر، بوصفها إلهاء وتخديرا وإبعادا للشباب الغاضب اليائس عن السياسة والاجتماع والانخراط في النشاط السياسي الثوري.
هكذا كانت طوال عقود من الزمن، أداة يخطط لاستخدامها مستشارو النظام النفسيون والأمنيون، أداة تأثير نفسي اجتماعي وأداة سياسية شعبوية قذرة بيد اليمين الشعبوي الفاشي، كما هو المثال في أمريكا اللاتينية سنوات السبعينيات والثمانينيات، وكما كان الحال أيضا في بعض بلدان عالمنا العربي في عقود لاحقة!
حقا رياضة ولعبة كرة القدم تجد لها جوانب وأبعادا كثيرة كظاهرة اجتماعية جماهيرية، منها مثلا لو نظرنا إلى بيئتها الاجتماعية والثقافية المحيطة بها لحظة الظهور والنشوء في إنجلترا منتصف القرن التاسع عشر، سنجد أنها بشكلها الحديث والمطور ظاهرة ثقافية اجتماعية انجلوسكسونية بامتياز ولعبة شعبية انبثقت من صميم ملامح المجتمعات الانجلوسكسونية المعاصرة الرأسمالية المتقدمة، وهو ما نلمسه في إدارة وتنظيم اللعبة ومأسستها وإنشاء بنية تحتية لها ثم تحويلها بعد ذلك من مجرد نشاط رياضي جماهيري إلى استثمار رأسمالي وتحفيز سوقي، وتحويل لاعبيها إلى سلع قابلة للبيع والشراء، وإلى جعلها أهم قنوات اختراق المجال العام واستغلالها كإحدى أدوات تحقيق الهيمنة الأيديولوجية والسياسية على المجتمع، من خلال ربطها بالسياسة والتربية والثقافة والإعلام!
عندما جرى تحويل أندية كرة القدم إلى وسائط للدعاية والترويج السياسي وتمرير الرسائل الأيديولوجية البرجوازية للشباب وغسل عقولهم بأفكار وقيم معينة تخدم السلطة الحاكمة.
ولم يقتصر الأمر على النظام فقط، وإنما المعارضة أيضا في كل بلد من بلدان الرجعية، سواء في الغرب الرأسمالي أو الجنوب الآسيوأفريقي اللاتيني التابع. وعندما أخذت اللعبة ذلك الزخم الجماهيري والانتشار العالمي وجرى عولمتها ودعمها واستغلالها من قبل كبار الشركات العالمية الاحتكارية، جرى بالتوازي أيضا إنفاذ الهيمنة على منظماتها الدولية، وعلى رأسها "الفيفا" على سبيل المثال، من قبل التنظيمات المتنفذة الخفية الكبرى وأجهزة مخابرات الدول الكبرى، واستغلال السلطة والنفوذ فيها في إصدار القرارات وتشريع القوانين واستغلالها في خدمة السياسة البرجوازية وتلميع الأنظمة وتشويه الأفكار والثقافات والدول الممانعة، ومحاربة كل الأنشطة الدعائية الثورية المضادة للحركات والأنظمة الوطنية الثورية، التي هي بدورها أرادت استغلال جماهيرية اللعبة في تحريض الجماهير وإيصال الرسائل الاحتجاجية المناهضة للإمبريالية ونظام السوق والحركة الصهيونية.
وللتذكير والتدليل على حقيقة وجود مثل هذا التوجه الإجرامي الشيطاني نشير إلى تلك العقوبات المجحفة وذلك الظلم البشع الذي مورس على أهم أبطال اللعبة (مارادونا وسقراط نموذجا) الذين لم يكونوا على هوى تلك القيادات الفاسدة ومن يقف خلفها!
في المقابل تم تلميع وتصعيد كل من كان إمعة أو تابعاً ذليلاً وجاهلاً متبلداً لا موقف ولا روح ولا قيم أخلاقية حقيقية له من أولئك اللاعبين البله الذين يتم استخدامهم كأدوات للدعاية والربح وتمرير الرسائل الأيديولوجية القذرة استغلالاً لشعبيتهم الكاسحة التي حققوها بفضل مهاراتهم وبراعتهم الاستثنائية في اللعبة - ميسي نموذجاً، والذي ظهر بوصفه أفضل أو ثاني أفضل لاعب في تاريخ هذه الرياضة.
الإلغاء والإنهاء هو العاقبة لكل من قال: "لا" وصرخ في وجه الظلم والفساد، حتى كل من يريد أن يظهر بعض المشاعر الوطنية والمواقف الإنسانية يجري إهماله والتشهير به والتشنيع عليه وتحطيمه تماماً، في دلالة واضحة على مقدار التحكم والهيمنة والتسييس ومقدار الاختراق المخابراتي الإمبريالي والصهيوني والماسوني في مؤسسات ومنظمات هذه اللعبة الرياضية الأكثر شعبية وعالمية في التاريخ!
حقا لقد جرى إفساد كل ما يحيط بهذه الرياضة الجماهيرية؛ إفساد الأندية والاتحادات والقوانين واللوائح، إفساد الإعلام وتجمعات المشجعين، وإفساد الكثير من اللاعبين، إفساد حياتهم وأخلاقهم وتسميم أفكارهم وثقافتهم!
تحولت الكرة إلى لغة السوق وذهنية الاستهلاك، ويجري اختزال جوانب وأبعاد إيجابية إنسانية مرنة وحرة فيها إلى منطق الأرقام!
ووصلت الحقارة البرجوازية إلى حد حرمان المليارات من البشر الفقراء من متعة مشاهدة البطولات الكبيرة والعالمية، باحتكار حقوق البث من قبل بعض الأثرياء المتيهودين الأوغاد، حتى في منطقتنا العربية الإسلامية.
جرى هذا بشكل مفاجئ وصادم ابتداءً من منتصف التسعينيات تقريباً، وانغمست اللعبة والرياضة شيئاً فشيئاً في نظام التفاهة ومجتمع التفاهة أكثر من أي رياضة ولعبة أخرى!
ويتجلى ذلك في ما نلمسه من استفحال الهوس وجنون الدعاية الوضيعة والاهتمام الكبير اللامنطقي العصابي في عالم اليوم بكرة القدم، وما خالط هذا الفن الرياضي الأممي الجميل من شوائب وقاذورات البرجوازية، كالاستعمار والصهيونية والماسونية، وصولاً إلى الشذوذ، حتى وصل الحال من الهبوط حد تمرير رسائل الانحطاط الأخلاقي والجنون والفساد من خلال الرياضة التي يفترض بها أن تكون وسيلة للصحة والرجولة وتهذيب النفس وارتقاء الروح.
كل هذا يعكس نظام التفاهة ومجتمع التفاهة (بلغة الفيلسوف دونو)، نظام التفاهة الذي صنعه وعممه في عالم اليوم الغرب الرأسمالي الإمبريالي المنحط.

أترك تعليقاً

التعليقات