روما الجديدة
 

عدلي عبد القوي العبسي

عدلي العبسي / لا ميديا -
الأمركة  تاريخيا، هي آخر موجة استعمارية غربية تشهدها بلدان الجنوب والشرق العالمي، وهذه الموجة تشهد الآن الجزء الأخير من خطها الهابط، مع بدء بروز أعمدة وركائز النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب، وظهور حركة اجتثاث تاريخي لها، تقودها دول عظمى في الشرق، ودول حليفة لها في أرجاء مختلفة من المعمورة، ومع اشتداد قوى مقاومة لها في معظم بقاع الأرض، وتكتب شعوبنا المناضلة الآن، الأسطر الأخيرة في حكاية روما الجديدة، التي فاقت جدتها التاريخية في الظلم والطغيان والبربرية والفساد والعلو!
الحديث عن الأمركة، هو حديث عن أكثر الفترات المظلمة سوادا في التاريخ الحديث، الحديث عنها هو حديث عن غزو اقتصادي سياسي ثقافي إمبريالي عالمي، حديث عن عملية تاريخية قسرية وحشية لا سابق لها، تم فيها فرض نموذج مجتمع آخر متقدم، له سياق تطوري مختلف على مجتمعات جنوب العالم وشرقه، والتي لها ظروف تاريخية وخصائص اجتماعية مختلفة وسياقات تطورية مختلفة.
هو حديث عن عولمة التجارة والسياسة والثقافة، وتنميط المجتمعات قسريا وفق نموذج الغازي المعتدي، المتفوق عسكريا وعلميا وتكنولوجيا وإداريا وتنظيميا، وهو هنا «النموذج الأمريكي».
تشبه هذه الحقبة السوداء من نواح عدة، هجوما هيلينيا جديدا (وأقصد هنا التشابه التاريخي مع الغزو الهيليني للشرق في أواخر العصر القديم!)، وإن شئت أيضا، مع مزجه نوعا ما مع الغزو الروماني، الذي لم يشتهر أصحابه إلا بالغطرسة وادعاء التفوق الحضاري على بقية الأمم، وفرض التشريعات القاسية عليهم، ونهب الثروات والتحكم في الطرق التجارية، ومحاولة ممارسة نوع من الحكومة العالمية، وفرض ثقافة واحدة على العالم أجمع، والدوس على كرامة الشعوب الأخرى الواقعة تحت الاحتلال، وإذلالها واحتلال أراضيها وتدمير بلدانها وطمس ثقافاتها والنظر إليها باحتقار وتعال وعنصرية!
مع فارق أن عولمة الإسكندر المقدوني وأستاذه أرسطو، على الأقل، نتج عنها الحضارة الهيلينستية (الهيلينية الشرقية)، وامتزج فيها الشرق مع الغرب، في حوار ثقافي حضاري مبدع، تحاورت من خلاله الثقافات والأيديولوجيات والفلسفات، وجرى تبادل ثقافي فكري علمي واسع النطاق، وبالمحصلة، تطورت تلك الأمم، نتيجة لذلك التفاعل الحضاري الخلاق!
لكن عولمة الأمريكان هذه، هي عولمة غير مسبوقة في التاريخ! في مدى قسريتها وفرضها الثقافي والقيمي الإقصائي الإلغائي أحادي الاتجاه، وهي غير مسبوقة، في وحشيتها وديكتاتوريتها وجبروتها وبربريتها وفسادها! ولهذا دائما ما يحب المسلمون هنا، أن يعتبروا هذا الفساد الأمريكي اليهودي الصهيوني الإمبريالي الرأسمالي العالمي، هو نفسه الفساد اليهودي الثاني والعلو الكبير! المذكور في القرآن الكريم (بحسب الإشارة القرآنية التنبؤية).
وعولمة الأمركة تاريخيا وفعليا، لم تكن أقل خطورة على البشرية من أي اتجاه سابق للتسلط والاستعباد العالمي كالنازية والفاشية، فهي تشبههما كثيرا إلى حد أنه يمكنك القول بأنها تمثل استمرارا تاريخيا لهما، أي للفاشية البورجوازية الإمبريالية الصريحة، ذلك الاتجاه الإمبريالي الغربي العرقي البربري الوحشي الذي ظهر في النصف الأول من القرن الماضي، لجهة نشر الخراب واسع النطاق وتدمير الدول وتفكيكها وابتلاع الثروات وطمس الهويات الثقافية وإلغاء الحضارات، بل وإبادة الشعوب، بما تنشره من أوبئة فتاكة وحروب مدمرة وصراعات داخلية عصبوية وفتن طائفية وأمراض قاتلة، وما تصنعه وتسببه من كوارث ودمار بيئي واسع النطاق وفوضى اجتماعية وتكنولوجيا خطرة منفلتة مقوضة لمستقبل الجنس البشري!
لا يوجد يا أصدقائي أدنى مبالغة في انتقائنا لهذه الكلمات والعبارات، التي قد تبدو لكم، غاضبة وانفعالية ومنتفخة، وإنما الواقع هو أقسى بكثير وأكثر صدما ورعبا وفوضوية ودراماتيكية وسريالية! وتعجز مثل هذه الكلمات والمصطلحات والعبارات عن توصيفه وتعريفه بدقة!
فما يصنعه طغيان الأمركة، سواء عبر الدولة الإمبريالية الأم، أو عبر توابعها من دول وممالك الشيطان، لا مثيل له في الوحشية والعنف والإبادة والخراب! (يكفيك مشاهدة مناظر مجازر هيروشيما وكوريا وفييتنام وأفغانستان والعراق وفلسطين واليمن و.. و.. و.. وكم كبير من الحوادث التاريخية البشعة والخراب الذي لم يعرف تاريخ البشر له مثيلا! حتى إن هولاكو وهتلر يبدوان وديعين جدا أمام أفعال ووحشية ومجازر روما الجديدة! وكل من شاركها أفعالها من ممالكها وولاياتها التابعة لها).
كم هو لعين هذا الحظ! أو مرعب قدرنا التاريخي كمجتمعات مستضعفة، غلبت على أمرها، ونكبت بغزو الأمركة، ومنها مجتمعاتنا العربية، التي ضربتها بعنف عاصفة الأمركة، في أواخر السبعينيات، وضاعت فترة من التاريخ سدى! وتعرقل تطور مجتمعاتنا وتنميتها وفقدت مجددا استقلالها وسيادتها ونهبت مواردها وتبددت الطاقات وتلاشت الكثير من الطموحات، والكثير مما راكمه الجيل السابق من مكتسبات وطنية واجتماعية، ورجعنا القهقرى، وعدنا، مع نكبة الأمركة إلى مربع الصفر في النضال، كأن لم تكن هناك مرحلة ذهبية وزمن جميل!
ولايزال أمامنا، مشوار جديد، ومواعيد جديدة مع نضال تحرري وطني جديد، لإنقاذ أوطاننا ومجتمعاتنا وانتشالها من جحيم فوضى النموذج الأمريكي (الاستعمار الجديد القديم) وتبعاته الكارثية!
في الأمركة، مات الإنسان وسقطت القيم والأخلاق، ونهبت الموارد وتعاظم الاستغلال والتمييز الاجتماعي واشتد واتسع نطاق الإفقار الاجتماعي وتحطمت آمال الشباب وفقدت الثقة في المعاني العظيمة واستبيحت الأرض وانتهكت سيادة الأوطان وأهينت الشعوب وتم تغييب العقل وسط ادعاءات فارغة بالعقلانية، وماتت الفضيلة والشرف والرجولة، ومات كل شيء جميل، انحط الأدب والفن، تراجع وانحسر الراقي وصعد الهابط، ومات شغف التعلم وحب العلم، وتحول طلب العلم إلى مظاهر فارغة وماديات وقنطرة للكسب والثراء، وتحول الطب إلى متاجرة بصحة الناس وسيطرت الآلة على الإنسان فأضحى عبدا وتابعا لها، ومات حقا سمو الشعور، واضمحل تأثير التراث وقيمه وثقافتنا الوطنية في حياتنا اليومية، وتعمم الجهل بتاريخ أمتنا ومكانتها في مقابل الشعور بالدونية أمام المستعمر، وانتعشت الخرافة! وارتفعت قيم ونظم التفاهة! وحكم بلداننا الفاسدون والمرتزقة! والخونة! وانتشر الكذب والهرج والرذيلة وصعد الأراذل وتوارى الشرفاء، وتحول الضحية إلى جلاد إرهابي والمجرم الباغي إلى ضحية!
هو الغزو الهمجي البربري الوحشي الذي لا سابق له، لأنه استباح كل شيء ودمر كل شيء تقريبا!
إنها روما الجديدة يا سادة، استنسخت نفسها في كل مكان، صنعت لنفسها عدة نسخ في الشرق ونسخ في إفريقيا ونسخ في منطقتنا، ولم توفر بقعة وإقليما من هذا العالم إلا وغرست فيه بذرتها الشيطانية الخبيثة!
وكان على نسخها الجديدة (مستعمراتها أو ولاياتها الجديدة)، خاصة الكيان الصهيوني، السعودية، الإمارات (كمثال على نسخها في منطقتنا)، أن تكرر هي أيضا كل حوادث التكاثر السرطاني الخبيث، والضرب الفيروسي في كل خلايا العالم القديم، تدميرا للثقافة والسياسة والبنى الاجتماعية والأخلاق وركائز عيش الشعوب، واغتصابا للأرض والثروات وقتلا وتنكيلا وتشريدا للشعوب وإبادة جماعية لكل شعب مقاوم أراد أن يرفع صوته مطالبا بحقوقه المشروعة في وجه هذا الاستكبار والطغيان العالمي!
العولمة والأمركة
ربط الباحثون بين الأمركة والعولمة، وأطلقوا تسمية العولمة الإمبريالية الأمريكية على هذا الغزو الإمبريالي الجديد، حيث تتوسل قوى المركز الإمبريالي العولمي الأمريكي أدوات التغيير الديمقراطي (الدمقرطة بحسب المفهوم الليبرالي الأمريكي)، والانفتاح السياسي والاقتصادي والثقافي للدول والمجتمعات في العالم أجمع، بمعنى: الفرض القسري لعملية فتح الحدود أمام حرية تنقل السلع والأفراد والأموال والأفكار، وتنميط العالم أجمع وفق نموذج واحد هو «النموذج الأمريكي»، وقد تضافرت عوامل عدة، مكنت هذا البروز والتشكل والجبروت أهمها:
أولاً: الاستفادة من قوة نظام البترودولار (وهو نظام التمكين العالمي والإنقاذي المخادع للدولار، كعملة منهارة بعد فك ارتباطها بالذهب، في ما عرف تاريخيا بـ»صدمة نيكسون» مطلع السبعينيات، حيث تم إنقاذها بربطها بالنفط، وضمان هيمنتها كعملة احتياط عالمي، ليستمر الاقتصاد الأمريكي في هيمنته العالمية!).
ثانياً: بالاستفادة من تحكمها وامتلاكها شبكة هائلة من الشركات التجارية والبنوك والمؤسسات المالية والصناعية العابرة للقارات، وشبكة واسعة من المؤسسات والمنظومات التشريعية الأممية.
ثالثاً: الثورة الاتصالية المعلوماتية الرقمية التي بدأت انطلاقتها من أمريكا وتمت الاستفادة من ابتكاراتها واختراعاتها في بروز شبكة ضخمة متغولة من وسائل الإعلام والمبتكرات الرقمية، بالإضافة إلى عدد هائل من المراكز البحثية والمنظمات غير الحكومية والمنتديات المدعمة بالأقمار الصناعية والتكنولوجيا الرقمية.
بدأت هذه العملية تاريخيا، بعد منتصف الحرب الكونية الثانية، ثم ازدادت قوة وزخما وتغلغلا، في بداية العهد الريجاني التاتشري مطلع الثمانينيات، وعززت من جبروتها، بسياسات التوحش الرأسمالية (النيوليبرالية) والتي قلصت كثيرا من المكتسبات الاجتماعية لعصر دولة الرفاه الاجتماعي (مرحلة باندونج)، بمرجعيته الكينزية، ثم أخذت عملية الأمركة في بعدها البنيوي الفوقي السياسي الثقافي، ونقصد هنا كمنظومات وأبنية لممارسة الهيمنة الأيديولوجية، أي كنشاط سياسي ثقافي فكري عولمي موجه، زخما أكبر، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مطلع الألفية، بعد إطلاق ما سمي «سياسات مكافحة الإرهاب»، والتي انضوت في إطارها السياسات والبرامج الهادفة لما سموها «دمقرطة المجتمعات» ونشر قيم حقوق الإنسان في مجتمعات مفتوحة ومتعددة الثقافات، ضغطت قوى الهيمنة العولمية الأمريكية من أجل تنفيذها، وعملت على تعميمها ونشرها بمختلف وسائل القوة الناعمة والخفية في معظم أقاليم العالم، بما فيها إقليم غرب آسيا والجزء الشرقي من شمال إفريقيا، والذي وضعوا له إطارا جغرافيا سياسيا باستراتيجية جديدة سموه «الشرق الاوسط الجديد»!
وقد وجدت هذه الثقافة الاستعمارية الجديدة، الطريق سالكا ومعبدا لها في الانتشار والسيادة والرواج تاريخيا، بعد اضمحلال النظام العربي الرسمي وانحسار قوة وشعبية الأنظمة القومية العربية، وانهيار المعسكر الاشتراكي الداعم لها من الخلف وانتكاسة ثورات التحرر الوطني وما نتج عنه من تراجع وانحسار جماهيري ورسمي كبير للثقافة الوطنية القومية الاشتراكية!
وأيضا بفعل التأثير الهائل الذي صنعته ثورة الاتصالات والمعلومات التي انطلقت تحديدا من الولايات المتحدة الأمريكية، وأسهمت بشكل كبير في صناعة قوة النموذج الأمريكي اقتصاديا وثقافيا وسياسيا، وخلق جاذبية كبيرة له في أوساط شعوب العالم، ولعبت دورا بارزا في رواج وانتشار ثقافة الأمركة.

ضد مصالح الفقراء وضد تحرر الشعوب!
التوجهات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية الليبرالية العولمية الأمريكية تدعم، كما هو ملموس، عملية التمكين للطبقة البورجوازية بمختلف تنويعات ومستويات وجودها عالميا ومحليا (إمبريالية وكولونيالية كمبرادورية بيروقراطية)، في فرض نموذجها التسلطي الأوليجارشي في الحكم، وتعميم رؤيتها الرجعية الوحشية غير الأخلاقية حول الإنسان والمجتمع! وتمكين هذه الطبقة المستغلة الطفيلية من الاستيلاء على مقدرات الوطن وثروات الشعب نهبا واحتكارا وتدميرا، وإخراج غالبية الشعب المفقرة من دائرة تحقيق المواطنة المتساوية الفعلية، وتحقيق الكرامة الإنسانية والحقوق والحريات والمشاركة الشعبية الفعلية وتحقيق العدالة الاجتماعية وحق التمتع بالنصيب العادل من الثروة العمومية والوصول إلى العيش الكريم والحياة الإنسانية اللائقة.
والبورجوازية التابعة المدعومة بموجة الأمركة في بلداننا، كما نعلم جميعا، لا تدخر جهدا في سبيل الوصول إلى ذلك، أي إلى حرمان الغالبية الشعبية الفقيرة من الحياة الحرة الإنسانية الكريمة، وقصرها فقط على أبناء طبقتها، مستخدمة كل أدوات تحقيق الهيمنة القمعية السياسية والاقتصادية والأيديولوجية!
والخلاصة هي: أننا بصدد، نموذج سياسي اقتصادي ثقافي استعماري وحشي كارثي، يدعم التسلط والاستغلال الرأسمالي الإمبريالي الأمريكي على الشعوب المستضعفة، والتسلط والاستغلال الطبقي البورجوازي على الطبقات الشعبية الكادحة، ويعزز أسلوب الحياة غير الإنسانية المختلة والفاقدة للعدالة والكرامة للفقراء الكادحين، الذين يشكلون غالبية أبناء الشعب، في مقابل دعمه لنموذج الحياة الرأسمالية الطفيلية اللصوصية والرفاهية والتبذير للطبقة البورجوازية المترفة المستغلة المعادية للشعب ومصالحه الحقيقية، ودعمه أيضا للبورجوازيات التابعة الكولونيالية الخائنة لأوطانها وشعوبها في الدول الواقعة تحت هيمنة العولمة الأمريكية.
لقد بدا واضحا، لكل ذي عقل سليم، كيف أن ثقافة وقيم ومبادئ الأمركة، تناقض على صعيد الواقع العملي كل ادعاءاتها عن الإنسانية والديمقراطية والحرية وتطلعاتها المزعومة بخصوص رفاه الفرد والمجتمع والإنسانية جمعاء!
ومن واجبنا إذن، كمثقفين وطنيين ملتزمين، تسليط الضوء على هذه الحقيقة، وفضح هذه الثقافة الاستعمارية المعادية لمصالح الإنسان والشعوب ومصالح مجتمعاتنا العربية ومنها وطننا ومجتمعنا اليمني، ومصالح الأجيال اليمنية القادمة، وكشف زيف ادعاءاتها وأكاذيبها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ومظهرها الإنساني البراق المخادع! خاصة في ظل استمرار هذه الهجمة الإمبريالية الأمريكية الصهيونية على البلد والممتدة لأربعة عقود حتى الآن، واستمرار مقاومة الشعب اليمني لها، ودخول الصراع الوطني الثوري مع هذه القوى الكونية الغاشمة في السنوات والأشهر الماضية مستوى غير مسبوق من الحدة والمباشرة والشمول!
وسيذكر التاريخ للأجيال القادمة، كم هم عظماء أولئك القادة الثوريين، الذين صمدوا وحاربوا بشجاعة هذا الاستكبار العالمي، وكم هي عظيمة تلك الشعوب، التي قاومت وداست على أنف هذا الجبروت العالمي وأسهمت في تخليص البشرية من شره وفساده وطغيانه.

أترك تعليقاً

التعليقات