شبابة
 

عبده سعيد قاسم

يمتزج الشعر الشعبي بنكهة أصائل القرى المطيرة ورائحة المشاقر، بلغته البسيطة الدارجة وبتلقائيته غير المتكلفة، يجعل الأرواح ترفرف بأجنحة الفرح الطروب في سماء الحقول والبيادر، ومن بدائعه أنه يحاكي الحياة بحلوها ومرها، وتحوله ملكة مبدعيه إلى موكب من نغم يستقصي حاجة الإنسان، ويستولد من رحم الأرض أسباب العيش، ويلتمس من الناس ومن الطبيعة ما يخفف من وطأة المصاعب والمشقة التي تزخر بها هذه الدنيا، يعبر عن وجع صاحبه، وعن شعوره بالظلم ومرارة الحرمان. 
يتناقل الناس في بلادنا مهجلاً شعرياً ينسبونه لامرأة من العدين، قام الشيخ حمود بن علي بحبس زوجها لفترة طويلة، فأتت تلك المرأة إلى مكان قريب من دار الشيخ، وارتجلت مقطعاً شعرياً وغنته بطريقة مهجل زراعي بديع، تناشد فيه الشيخ أن يطلق سراح زوجها، وقالت: 
وا حمود بن علي 
لو هو قليبك تخشع
فك لخلي القيود
ساعة من الليل ويرجع
جربته صالبة 
لا ضمد تحرث وتزرع
فك لخلي القيود
ساعة من الليل ويرجع
لأجل يطوف اليرع
والساحلي والمربع
(اليرع والساحلي والمربع) أسماء مواضع زراعية مملوكة للسجين، فسمعها الشيخ، وسأل من هذه التي تغني، فقيل له هذه زوجة فلان المحبوس عندك، فأطلقه، بشرط أن يقضي ليلة واحدة في بيته، ويعود الصباح إلى السجن، فذهب السجين، وقضى ليلته في بيته، وعاد صباح اليوم التالي حسب التزامه، وقبل أن تستدير شمس ظهيرة ذلك اليوم، عادت تلك المرأة أيضاً وإلى ذات المكان، وغنت:
وا حمود بن علي 
ليتك تجي عندنا ضيف
لا نذبح كباش 
أما العجول نحر بالسيف
وشنسكّب سمون
مثل المطر أول الصيف
فعرفها الشيخ، وأمر بإطلاق سراح زوجها إطلاقا نهائياً.
الشعر الشعبي تعبير جميل عن البيئة الشعبية التي لا يأبه لها شعراء الفصحى المتخمون بالشعور النخبوي المتورم بالتضخم والتعالي، باستثناء الشاعر عبدالله البردوني العظيم الذي لم يبارح الواقع الشعبي، ولم يتنكر لحياة القرى، بل عبر عن التصاقه الوثيق به في كثير من قصائده.
لعل أبرز تجلياته في التحامه بحياة الريف وتفاصيل الحياة فيه، بقصيدته الجميلة (أصيل القرية)، وهو يصوغ مشهد عودة الرعيان إلى منازلهم قبل مغيب الشمس، ويعيش حالة وجدانية متأصلة اكتسبها من سنوات طفولته الباكرة القليلة التي قضاها في كنف الحقول والمراعي، قبل أن يداهمه العمى، حيث قال:
ونقّر خطو القطيع الحصى
كما نقر السقف وقع المطر
وشدّ الرعاة إلى الراعيات 
شباب المنى وملاهي الصغر
.........
ولما دنا الحيّ ضجت سعاد
أضاع حسين الخروف الأغر
فمن من رآه؟ تعالوا نعد 
مواشينا قبل تيه النظر
ولما أتمّوا، حكت وردة
وفرحان عن كل وادٍ خبر
إلى آخر القصيدة التي تغوص في تفاصيل القرية وحياة الرعاة..

أترك تعليقاً

التعليقات