أبو نصار صوت الوطن المعذب (1-2)
 

عبده سعيد قاسم

لم ينطوِ الفنان محمد أبو نصار على ذاته، ولم يستسلم لصمت المنفى خارج بلده اليمن، ولم يؤثر السكوت، بل احتفظ بحضوره الفني الغنائي، متجاوزاً أسيجة المنفى ومسافات التنائي، واستمر ملتحماً بالواقع الشعبي اليمني، متذمراً من إخفاقات ثورة سبتمبر ١٩٦٢م، وعجزها عن تحقيق العدالة والمساواة، وما كان مأمولاً منها تحقيقه للمواطن اليمني الذي ابتهج بقيامها. 
لم نسمع أبو نصار يتندم أو ينوح على سقوط الحكم الإمامي كما زعم الذين قالوا إنه يناهض الثورة ثأراً لسقوط حكم أسرته (بيت حميد الدين)، بل كان وحده من (قال لا في وجه من قالوا نعم)، وظل يمزق أسيجة المنافي ويخنق مسافات البعاد، ويمارس حضوراً غنائياً نابعاً من كثب التحامه وسبره لأغوار الواقع اليمني وحقائق استحواذ مراكز النفوذ ورموز القوى القبلية على النظام الجمهوري، واستبدال الإمام بطوابير طويلة من الأئمة الجدد الذين أرهقوا الجمهورية والوطن باستبدادهم واستغلالهم للسلطة وريع الجمهورية، خاصة في أغنيته الشهيرة (احتجاج الضمير) التي منع انتشارها وتداولها في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم. 
(شعب اليمن ظلت الأوضاع تتدهور 
 سياستك أصبحت عمياء ومنهارة) 
وفي سياق الأغنية تفاصيل بديعة زاخرة بالصور التي تفضح تسلط مشائخ القبائل وممارستهم للاستبداد باسم السلطة والجمهورية ضد قبائلهم، وتكريس الجهل والتخلف في أوساطهم، وممارسة ابتزازهم للجمهورية والسلطات المتعاقبة بتخويفها بالقبيلة أيضاً، وبصوته الدافئ النازف وجعاً وصبابة وإبداعاً يغني:
(ضاع المهندس وضاع الفكر ومن فكر 
وذي تبنى المشورة ضاعت أشواره 
يا شعب لا يخدعوك بالقول والمظهر 
ولا تصدق من الغشاش أعذاره 
نصفك معذب ونصفك ضاع بالمهجر
........................
والشيخ يتشرط الميزانية تكثر 
قد فلّت الرعوية حقه وأثواره 
يدخل وشقه رعية ردهم عسكر 
وكل واحد ضرب طبله وأوتاره 
يتساربوا للخزانة مثل سرب الذّرْ 
وأسراب مثل النسور غارة ورا غارة 
يقولوا إن الحكومة حق صميل أخضر
تندي لمن كشر أنيابه وأظفاره 
مسكين يا شعب ظلّ حاصلك يُهدر
قد ضيعتنا صروف الدهر وأقداره) 
إلى آخر الأغنية اللاذعة المتهكمة.
لقد ظل أبو نصار يمارس نقده اللاذع للجمهورية دون أن يمتدح نظام الإمامة، لكنه عبر بقوة وبصوته المتدفق عذوبة وعذاباً وصدقاً عن وجع المواطن اليمني البسيط الذي لم يتبدل حاله إلى ما كان يأمل ويطمح. 
(نصفك معذب ونصفك ضاع في المهجر) 
ولم تستطع كل التهم والشائعات أن تكمم فاه، وتمزق أوتاره التي استمرت تصدح بألحانه الشهية وأناشيد الحسرة والألم ومرارة الشعور بالخيبة، وبصوته العذب المتدفق نشيجاً يمانياً دامعاً وصبابة لاقت هوىً لدى المواطن اليمني الذي كان يستلذ أغانيه ويحس أنها تعبر عن مدى خيباته، وعن جوهر قناعاته التي تخلقت في سنوات ما بعد الثورة. 

أترك تعليقاً

التعليقات