بين الهيمنة والفساد
 

روبير بشعلاني

روبير بشعلاني - كاتب لبناني -

أحاول دوما أن أرد على الانتقادات التي تردني من باب افتراض حسن النية، لكنني أصطدم على الدوام بعقول "مفرمتة" ومبرمجة على نوع محدد من الأفكار مصرة ألا تبارحها بأي ثمن.
وهذه العقول المفرمتة لا تقبل طرحا آخر للموضوع، ولا تتواضع، رغم مأزقها، وتتنازل وتناقشه.
منظارها الفكري، لو سمحتم لي، منظار أورومركزي لا يرى إلا مشاكل غربية لدول غربية مستقلة وناجزة. وتحاول به أن تقرأ مشاكل مجتمعات تابعة تم احتجاز تطورها، ومنعت من الوصول إلى دولتها وسجنت في ماضيها.
في هذا الإطار، وبهذا المعنى، ورغم إجاباتنا على الأسئلة المطروحة مرات ومرات، يحاول البعض أن يشوهها سلفا ويتهمها بما ليس فيها. فإذا قلت إن الهيمنة ومنظومتها مسؤولة عما نحن فيه لصق بك تهمة "نظرية المؤامرة". وكأن منطق التراكم الرأسمالي وضرورة توسعه مسألة سرية تتم في سرداب تحت الأرض من قبل حفنة من العائلات الغامضة التركيب والأخلاق.
وهذا البعض الذي يرفض نقاش الهيمنة عمدا ويحولها إلى كاريكاتور أوتوبوري (نظرية المؤامرة) يعود في كل مرة إلى طرح مواضيع إجرائية ليس بهدف الحصول على نقاش أو رد، بل بهدف الظهور أمام جمهوره كبطل فكري موهوب نجح في الإجهاز على خصمه بالفكرة القاضية.
يتصور صاحبه أنه نجح في حشر خصمه بالزاوية من أجل تسجيل الربح بالنقاط.
لماذا لا تريد محاربة الفساد؟ لماذا لا تريد أن نطالب بحقوقنا المشروعة؟
من جديد أيها الأحبة أكرر أن ما يسميه الأورومركزي فسادا عندنا هو بالحقيقة نمط المعاش الريعي الذي حبسنا الغرب الرأسمالي المتوسع به. إذ خلق دولا غير قابلة للعيش (جوف اقتصادها التقليدي المنتج من زراعة وصيد وحرف)، وجعلها تهيم تابعة لأعطيات بنيوية، وسلمها إلى بنى قرابية لكي "تديرها"، أي لكي تتغالب وتتحاصص وتتناتش الماء والكلأ.
فصار "الفساد" بنيويا، إذا حرمت القرابة منه ماتوا جميعهم لانعدام أية وسيلة معاش أخرى. 
من هنا فإن "المتغربن" يرى في "الصناديق" مثلا أبوابا للفساد وشراء الزبائنية، بينما تراها القرابات بابا من أبواب حصولها على حصصها من الريع لكي تبقى على قيد الحياة. يرى المتغربن حشر الأزلام في "الدولة" هدرا وفسادا، فيما ترى القرابات في ذلك سبيلها الوحيد تقريبا للعيش.
يرى المتغربن كل ذلك انعداما للمنطق والعقل، وترى القرابات أنه وفي ظل النمط القائم هو سبيلها العقلي والمنطقي لإعادة إنتاج نفسها من جديد وتأمين سرمدية بقائها وأمنها.
وكلما أمعن المتغربن في فكره "العقلي"، انعزل عن "الناس" التي يظنها "انفكت" عن قراباتها بواسطة مراكمة "الوعي" في لحظة تجلّ سحرية وهوامية.
وبناء عليه يرفض المتغربن فكرة أن المشكلة ليست على مستوى "الفساد"، بل على مستوى الهيمنة التي تفرض التجزئة وانعدام التطور وبناء اقتصادات تخلق القيم الاقتصادية التي تتيح توزيعا عقلانيا للثورة المخلوقة.
فالمطلوب يا سادة ليس تجويع الناس، بل خلق بدائل عقلانية تتيح لها أن تعيش بشرف ومن خلال العمل المطلوب خلقه. وهذا ممره فك الهيمنة لبناء دولة مستقلة تهتم بإنشاء اقتصاد منتج للثروة. 
نقدنا لـ"النخاس" (وأي نخاس) أنه ينطلق من وهم أورومركزي حول "التوزيع"، توزيع الطبيعة، بينما يتحاشى طرح المشكلة الحقيقية في الاقتصاد، وهي الإنتاج، إنتاج القيم الجديدة.

(*) كاتب لبناني

أترك تعليقاً

التعليقات