إعادة الاعتبار للحقيقة
 

روبير بشعلاني

روبير بشعلاني -

نزع أيِّ حدث عن سياقه الزمني والتاريخي ليس مقتصرًا فقط على أنه لا يفيد في فهمه، بل هو يطمس حقيقته ويخلق له سياقًا آخر موهومًا أو مقصودًا. فما هو السياق الذي انفجر لبنان به أو بسببه؟
شهد الصراع الذي يدور في العالم، وفي إقليمنا بالذات، تحولاتٍ كبرى تميَّزت بميلٍ تراجعيٍّ عام للناهب الدولي، وعلى رأسه أمريكا. وهذا لم يعدْ فرضيةً أو زعمًا مغرضًا من طرفٍ معادٍ للهيمنة، بل هو مُعترَفٌ به من قبل الناهب الدولي نفسه، مسؤولين وإعلامًا وقادة رأي. وقد انعكس ذلك التراجعُ تقدُّمًا وانتصاراتٍ للمحور الآخر الصاعد في العالم.
أمَّا في منطقتنا، ومنذ هزيمة المخفر «إسرائيل» وفقدان دوره الردعي، لم يتوقف الناهب عن تسجيل الهزائم هنا أو هنالك.
فهو يتراجع اقتصاديًّا وماليًّا وتقنيًّا أمام تطوُّر الآلة الصناعية الصينية. كما أنه يتراجع سياسيًّا أمام صعود بعض الدول في العالم، ونزعة بعضها الآخر للاستقلال والتحرر من قبضة الهيمنة.
وقد ظهر هذا التراجع لدى الناهب الدولي واضحًا من خلال أحجام الخسائر المالية المعلنة التي تُكلِّفها حروبه حول العالم (أربعة تريليونات دولار لأفغانستان والعراق وحدهما)، وتراجع إمكانيات حركته العسكرية بسبب ضيق ذات اليد وعدم توافر الميزانيات اللازمة.
آخر مظاهر هذا التراجع ظهرت في منطقتنا نحن بالذات، حيث حاول الناهب أن يعود إلى لغة السلاح والتهديد، فكانت الردود إسقاط إيران لطائرةٍ مسيَّرةٍ أمريكيةٍ متطورةٍ، وما صار يُعرف اليوم بحرب الناقلات النفطية، إضافةً إلى عددٍ من العمليات النوعية لحركة التحرر العربية اليمنية والسورية، مما حدا به إلى التراجع عن اللغة الحربية، وإعلان الانسحاب من سوريا، واعتماد سياسةٍ جديدةٍ تقوم على استغلال الاقتصاد والمال وما بقي له من قوةٍ دوليةٍ وسيطرةٍ في هذا المجال.
إن صراع الأجنحة داخل النظام الأمريكي، الناتج بدوره عن أزمة الناهب البنيوية، والمعبِّر عنها، توصَّل بالنتيجة إلى أهمية الحرب الاقتصادية والمالية ضد الكون. 
فالأمريكي لم يكتفِ بإعلان الحرب على الصين وروسيا والهند وإيران، بل امتدَّت حربه إلى أوروبا وكندا واليابان وأميركا اللاتينية، وحتى إلى جيوب حلفائه في الخليج.
في هذا الإطار، دفع الأمريكي بكل ما يملك من أدواتِ سيطرةٍ ماليةٍ دوليةٍ، وعلاقاتٍ، وبدأ بحصار اقتصادِ أيِّ دولةٍ في منطقتنا تنزع للتحرُّر أو تقاوم أدواته وهيمنته.
فكان لإيران النصيب الأكبر، وإن لم يقتصر عليها، إذ امتدَّ الحصار ليشمل اليمن وسوريا ولبنان، وحتى الأردن، والحبل على الجرَّار. حصارٌ عنيف، يمنع أيَّ تصديرٍ، ويُنزل الحُرْمَ على أيَّةِ شركةٍ في العالم تصدِّر إلى تلك الدول، لاسيما الكبرى منها.
حصة لبنان كانت حصارًا ماليًّا، وتجفيفًا للدولار والطحين والوقود، إضافةً إلى سلسلةٍ من الحرائق الغامضة، تبعها استعمال بعض القوى المرتبطة بالغرب تقليديًّا لكي تنفخ في الحصار وتحوِّله إلى مادةٍ سياسيةٍ محليةٍ تستغل أزمة الأهالي في حرب الأمريكي على كل من تجرَّأ وقال «لا».
وها هنا أيضًا تمَّ استغلال بعض الأدوات المجانية من قوى سياسيةٍ وإعلاميةٍ ترعرعت على التاريخ الأوروبي الحديث، ممَّا جعلها تتعاطى مع بلادها المُجزَّأة والمجوَّفة كما لو كانت دولًا عظمى وناجزةً، كإنكلترا أو ألمانيا أو فرنسا. وبدلًا من التعاطي مع بلادها كبلادٍ مُهيمَنٍ عليها، مسجونةٍ بماضيها، أخذت تتعاطى معها كدولٍ مستقلةٍ لا تعاني إلا من سوء التوزيع. وإذا ما تجرَّأت هذه القوى وطرحت حلولًا، تراها تقف عند سقف «نظامٍ ضرائبيٍّ عادل».
الناهب الدولي في حصاره هذا، يعرف كيف يستغل نقاط ضعف التابع؛ فبدلًا من أن يكون هو المتَّهم والمسؤول عن إقامة كياناتٍ كسيحةٍ غير قابلةٍ للعيش بتجويف اقتصادها التقليدي وجعْلها سوقًا لبضائعه ومَصدرًا أو ممرًّا لمنهوباته، يُقدِّم الصورة مقلوبةً أمام الأهالي، بأن الفساد المحلي (أدوات سلطة نواطيره) هو المسؤول عن جوعهم، ويساعده في ذلك بعض الحمقى الأورومركزيين.
من جهةٍ ثانية، وخلافًا لما يروِّجه البعض من أن قراءة الوضع من خلال الصراع الحقيقي الجاري يقود إلى نظرية المؤامرة و»التحليل الجيو-إستراتيجي» واحتقار أوجاع الشعوب، فإن إدراك حقيقة الصراع وطبيعته لا تساعد فقط على فهم الوضع، بل وعلى معرفة أساليب وطُرق تغييره كذلك.
فليس صحيحًا أن هناك مؤامرةً جديدةً أعدَّها بضعة أفرادٍ في سردابٍ تحت الأرض، بل الصحيح أن هناك صراعَ مصالح بنيويًّا بين نظامٍ غربيٍّ تجعله طبيعته توسعياً وبحاجةٍ إلى موادَّ أوليةٍ رخيصةٍ أو منهوبةٍ وإلى أسواق، وبين دولٍ وشعوبٍ مُستتبَعةٍ مُستضعَفةٍ مضطهَدةٍ منهوبة.
إن وضع الحدث اللبناني في سياقه، سياق الصراع، لا ينزع عنه «ثوريَّتَه» فقط، بل يحدد طبيعته بكونها استغلالًا لأوجاع الأهالي من أجل جرِّها إلى معركةٍ تخدم ناهبها، لا إلى معركةٍ تقودها إلى التحرر والانعتاق من الهيمنة.
إن وضع الأمور في سياقها التاريخي هو نوعٌ من إعادة الاعتبار إلى الحقيقة الثورية.
إن الانجرار خلف بعض القوى المشبوهة التي لا تستغل نتائج الحصار فحسب، بل نتائج تاريخٍ من التبعية، من أجل دفع الناس إلى معركةٍ، تصوِّب على لا شيء، لأن النظام الحقيقي هو الناهب الحقيقي لثرواتنا ومواردنا، وهو محيَّدٌ بهذه المعركة. إن هذا الانجرار هو انجرارٌ عدمي.
والأدهى أنه ليس محيَّدًا، إذ يتعامل البعض مع أدواته على أنها عناصر تغييرٍ حليفة.
الاستعمار الذي خسر معاركه الأخيرة يحاول التعويض من خلال حروبٍ اقتصاديةٍ بنيويةٍ، وهو بفعله هذا يطمس الصراع الحقيقي، ويَحوْل دون انتصار الأبطال الحقيقيين.
من هنا، فإن محاولات فرز القوى داخل الحراك، من خلال شعارٍ من هنا أو تصويبٍ اقتصادويٍّ من هناك، لن يغيِّر في طبيعة الصراع شيئًا. بنيويًّا، الحراك مُعدٌّ له كنتيجةٍ للحصار، وأي قبولٍ به هو قبولٌ بمقدماته.
فالمعركة ضد الحصار ومن قام به، وليست ضد الأوجاع التي خلَّفها. المعركة ضد التجزئة وخلق الكيانات الكسيحة، لا ضد نتائجها المعروفة سلفًا. المعركة ضد تفتيت السوق وخلق اقتصادات الجوع والتسوُّل الريعي. وأيًّا كان التصويب، فإنه إذا لم يصوِّب على المسؤول الحقيقي عن الحصار والتفتيت، فإنه سيكون مَضيعةً جديدةً للوقت والجهود والنضالات.
أمَّا الذي يرى في الحصار الأمريكي لاقتصاد بلادنا فرصةً لولادة «شعبٍ» و»دولةٍ» و»وطنٍ»، فمثله، بأحسن الأحوال، مثل ذاك الذي ظن يومًا أن المستعمر الإنكليزي سوف يبني نمط إنتاجٍ أرقى في الهند رغم الأوجاع (الأوجاع دائماً) والآلام.
نعلم أن كلام العقل في فترة انفلات الغرائز «الثورية» لن يكون مسموعًا؛ لكننا على يقينٍ أن أهالينا ما إن يبدؤوا بالاصطدام بالجدران الربيعية المعروفة، سوف يعودون إلى العقل وكلامه.
إن الرد على الحرب الأمريكية الجديدة المتمثِّلة بالحصار الاقتصادي والمالي، تتطلب استراتيجية متكاملةً من المقاومة الاقتصادية، لا حراكاتٍ ضد النتائج وصوب التوزيع.
الرد يتطلب العمل على الإنتاج والتوزيع. إن حربًا بمستوى حرب الأمريكي الاقتصادية الجديدة، تتطلَّب اقتصاد حربٍ بمستواها على الأقل. فلبنان ليس قادرًا بإمكاناته الحالية على النهوض بإمكاناته تلك وحده. 
مواجهة الحصار تتطلَّب التطلُّع شرقًا، وإقامة نوعٍ من الروابط الاقتصادية والتنسيق البنيوي مع المحيط العربي القريب والبعيد. مواجهة الحصار تتطلَّب العمل على إقامة اقتصادٍ منتِجٍ محليٍّ يتمتَّع بأفضل المزايا التفاضلية.
هذا المشروع الطَّموح يجعل من التشبيك مع الإيراني والروسي والصيني والكوري والكوبي مسألةً حيويةً للجميع.
على أهمية ذلك على المدى المتوسط والطويل، فإن معالجة آثار الحصار المباشر الآني تتطلب، بالإضافة إلى التدابير الداخلية التي اتُّخذت، التعاونَ مع سوريا وإيران والصين، من أجل سدِّ النقص الناتج عن الحصار، والعمل على تغيير الترابط الاقتصادي والمالي بالاقتصاد الغربي، ذلك الترابط الذي يجعل أيَّ إصلاحٍ عقيمًا وبدون نتائج إيجابية. فالنهب البنيوي سوف يستمر في نزف أي موردٍ محلي.
نعرف تركيبة لبنان، ونعي صعوبة إقناع شركاء الوطن بهذه الاستراتيجية الجديدة؛ لكن الوقت يضغط عليهم قبل أن يضغط علينا، وهم لن يكونوا أصعب من التركي أو من السعودي اللذين أخذا يتقرَّبان اقتصاديًّا من محور الصعود بكل أريحية... 
الرد على محاصرة بلادنا يكون برفض الحصار أولًا، ومواكبة شعبنا نحو مقاومته، وتقديم أفضل السبل لهزيمته، لا بالاستسلام للغرائز الشعبوية ولسياسات أدوات الحصار.

* عن مجموعة العمل الوطني العربي
 - «فيسبوك»

أترك تعليقاً

التعليقات