روبير بشعلاني

روبير بشعلاني / لا ميديا -
القرار بكسر الحصار والإتيان بسفينةٍ (صارت الآن سُفناً) 
لن تتوقف مفاعيله عند الحصار فحسب، بل سيكون انقلاباً واسعاً يطال حتماً مستوياتٍ عدةٍ في كامل الإقليم عامةً، وخطوةً كبرى على درب التغيير الحقيقي، تغيير الاقتصاد السياسي للتبعية بشكلٍ خاص.
فلبنان، كبقية الكيانات المصطنعة، تاريخياً، عبارةٌ عن كيانٍ اقتطعه الأوروبي من محيطه، ومن سوقه، ومنح سلطته لإحدى قراباته الروحية، مع ما يستتبع ذلك من مغانمَ وامتيازاتٍ ووكالاتٍ ومصارفَ وأنشطة خدماتٍ، وذلك مقابل خدمة وتسهيل عمليات النهب لصالح الغرب.
إذن، لم يقم الأوروبي الصاعد آنئذٍ بانقلابٍ في الاقتصاد السياسي المحلي. كل ما فعله هو تثبيت العلاقات القرابية السابقة من حيث الجوهر، بالإضافة إلى عنصرين جديدين: قطع العلاقة الاقتصادية بالمحيط، وتحويلها إلى علاقةٍ عموديةٍ وحيدةٍ معه. فصار الاقتصاد المحلي عبارةً عن نشاطاتٍ متعلقةٍ بخدمة المركز الغربي، تديرها القرابات المختارة من قبله، ووفقاً لعلاقات الماضي: من يمتلك المُلْك يمتلك الاقتصاد السياسي.
وبما أن الفرنسي كان صاحب الحظ السعيد في هذا الكيان، فقد قرر، كاستثناءٍ، اعتماد التحاصص كقاعدةٍ، فـ»منح المجد» لقرابةٍ على أن تشاركها قرابةٌ أخرى بحصةٍ دنيا.
واستمر هذا «النظام» متواصل الاستقرار، حتى بعد تراجع الفرنسي واستلام الأمريكي إرث الأول، إلى حين اتفاق الطائف الذي حافظ على المحتوى ذاته، لكن بعد تبديل أصحاب الحصص؛ فمن كان أغلبية صار أقلية، والعكس بالعكس.
الاقتصاد السياسي في لبنان -إذن- هو رهن هذا الكيان الكسيح غير القابل للحياة. فهو من حيث النشأة لا يحمل بذور الاستقلال والقدرة على الدوران حول نفسه. تم خلقه ليكون كسيحاً مقطوع الأوصال، فهدف الهيمنة من الأساس كان تجويف قطاعاته المنتجة، وجعله رهنا للمساعدات المالية، وربطه بعوائد الريع العربي كوسيلةٍ وحيدةٍ للعيش وسد الحاجات الأساسية.
ونتيجةً لهذا الربط، ازدهرت قطاعات المال والترانزيت والسياحة والبناء والإعلام، وكان دورها يتمحور حول تأمين وصول عائدات المواد الأولية العربية إلى أسواق المال الغربية، وكذلك حول تأمين وصول السلع الغربية إلى أسواق الكيانات العربية. وهو ما عرف بدور اقتصاد الوساطة.
هذا الدور تعرض اليوم إلى أزمةٍ بسبب قرار «المعلم» نقل دور لبنان إلى مكانٍ آخر، فكانت الأزمة وكان الحصار والتجويع.
هذا الدور تعطل بسبب الهزائم التي مني بها الأمريكي في المنطقة، وبسبب التحولات في بنية التوازنات العالمية، أي بسبب تغيُّر سياساته وأهدافه من جهة، ومن جهةٍ ثانيةٍ بسبب حرص الأمريكي في الوقت ذاته على الاحتفاظ بلبنان في محوره، ولو كجثةٍ بغية منعه من الاستدارة نحو الشرق والانقلاب على نظام التبعية للغرب. فهو يريد شطبه ولكن دون أن يخسره!
في هذا السياق بالضبط جاءت الباخرة الإيرانية، وليس فقط لكي تحل أزمة انقطاع المازوت، بل لكي تساعد لبنان على تغيير نظامه هذا، هذا النظام التبعي الكسيح المشلول والمسجون في ماضيه الاجتماعي.
إن الاتيان بباخرة المازوت هو من دون شكٍّ خطوةٌ اقتصاديةٌ، تقنيّاً لسد النقص، لكنه بالعمق خطوةٌ سياسيةٌ كبرى تطال أساسات الاقتصاد السياسي للتبعية. فهو يكسر أطر العلاقة السابقة المتمحورة حول المركز، ويكسر أيضاً شبكات احتكارٍ محليةٍ يعود تاريخ نشوئها إلى أكثر من مئة عامٍ، وهو احتكارٌ منحته الهيمنة لمن تعامل معها وقبِل بشروطها.
السفينة كسرت العلاقة العمودية مع المركز، وأعادت فتح العلاقة الأفقية مع المحيط، بالإضافة لكسر شبكة الاحتكار المحلية التي حرص المركز على إقامتها لديمومة هيمنته.
وهذا الكسر ليس إلا كسراً لرأس جبل الجليد، وسوف يتبعه كسرٌ لاحتكاراتٍ أخرى تطال مواد وسلعاً أخرى، ونشاطاتٍ اقتصاديةً كاملةً حتى، كانت محميةً بنظام الوكالة الحصرية التي كانت تُمنح وفق الاقتصاد الزبائني المعروف.
ومن البديهي أن هذا الكسر سوف يقوِّض القاعدة المادية التي يقوم عليها الاقتصاد السياسي التبعي.
السفينة تنقل المازوت الإيراني، لا شك، لكنها تنقل لبنان معها من ضفةٍ إلى ضفةٍ أخرى، ضفة الاستقلال والكفاف المحلي غير المشروط، إضافةً إلى فتح آفاق التكامل العربي والإقليمي وعصر الاقتصاد المنتج المعتمد على عناصر الإنتاج المحلية.
وبهذا اتضح أن «الوطني» لا يعني عدم الاهتمام بالداخل، بل هو العمل على أساسات الداخل التبعي الحقيقية وتقويضها.
إن الاقتصاد الذي بُني على الريع وعلى إنشاء شبكاتٍ زبائنيةٍ لقاء توزيعه (الفساد بلغة الأنجيئيين)، اصطدم اليوم بالسفينة التي تحمل فرصاً جديدةً للتقدم والتغيير الفعلي وكسر الاحتكارات المحمية بالهيمنة الخارجية.
الهيمنة تفرض اقتصاداً كسيحاً مربوطاً بنظامها المصرفي وبعملتها، بحيث يسهل عليها إدارته عن بعد، فجاءت السفينة لتفك هذا الرابط وتحررنا من الدولار، ومن قيوده الأخرى. 
فالشحنة مدفوعةٌ بالعملة المحلية، ومن خارج السياق المصرفي الغربي، وبأسعارٍ حقيقيةٍ بدون كلفة النهب، ومن خارج شبكة الاحتكار التابعة.
هذا التغيير الحقيقي هو ما أقلق الغرب فعليّاً، لأنه يصيب قواعد الاقتصاد السياسي التابع، ويساهم في فتح الأفق نحو مستقبل متحررٍ واقتصادٍ حقيقي.
هذا هو ما جعله يتحرك بارتباكٍ لكي يلحس ما كان قد فرضه على لبنان، ويتظاهر بالمساعدة. فالغرب يخشى تغيير الهيمنة. أما تغيير النخب الحاكمة فهو يدعمه ويدعم «حَراكه» ونخبه بالمال والرجال.
إن تغيير علاقات البشر بالثروة، واسترجاع الموارد والمواد الأولية، وحق التمتع بها وحق استعمالها لمصلحة الداخل، هو وحده التغيير المطلوب عندما تكون ثروات البلاد مستلبةً وحقها بثرواتها مصادر.
هذا هو المطلوب تغييره، وهذا ما تساهم به السفينة. فهي -إذن- ليست سفينةً تجاريةً ككل السفن، بل هي سفينتنا إلى التغيير الحقيقي، إلى التحرر الوطني وفك الهيمنة.

كاتب لبناني

أترك تعليقاً

التعليقات