«أمريكا برّا برّا»
 

روبير بشعلاني

روبـير بشعـلانـي / #لا_ميديا -

ربما كان من الضروري الآن أن نعود قليلا إلى الوراء ونلملم بعض الأحداث المتفرقة لكي نضعها في سياقها العام لعلها تعيننا على فهم اللحظة التي وصلنا إليها. في إطار التنافس والصراع بالكون بين القوى الصاعدة وبين قوى الرأسمالية المالية الغربية، وجد الغرب نفسه فجأة غارقا بالديون الفلكية، وعاجزا عن مواكبة التطور الاقتصادي المنافس الذي يضعفه ويضعف نفوذه وهيمنته على العالم. إليه وبسبب ذلك كان على الأمريكي إما أن يستسلم للعالم الجديد أو أن يرفضه ويستعمل كل ما بقي له من سلاح من أجل تدمير هذا الجديد أو على الأقل إعاقة تطوره ومنعه من التوسع وفرض عالم جديد.
في إطار هذا الصراع كان الوطن العربي والإقليم المحيط به ساحة مهمة من ساحات هذا الصراع بسبب ثرواته وموقعه الجغرافي وممراته البرية والمائية. ونظرا لحاجة الأمريكي إلى إعادة هيكلة وجوده وتوزعه الاقتصادي والعسكري، كان لا بد له من إيجاد شريك قوي يتيح له أن يتكل عليه في منع المجال عن خصمه الصاعد. فكان لا بد من ربيع ديمقراطي يفتح الباب أمام الإخونج لكي يتولوا المهمة الأمريكية المفترضة. هذا المشروع قد فشل وانهزم. لسنا الآن بوارد دراسة الأسباب. لكنه انهزم ولم يستطع الأمريكي بالتالي أن ينسحب متكلا على قوة جماهيرية كبيرة تستند بدورها الى قوة إقليمية كبرى ذات تاريخ مشترك مع العرب. وبعد فترة ضبابية مؤقتة اضطر الأمريكي خلالها أن يتساكن مع القوى المحلية المعادية له، العاجزة بدورها عن حسم موازين القوى نهائيا لصالحها، عاد إلى استئناف خطته ولكن من خلال إضعاف وخلخلة هذه القوى، لكن بدون هدف استراتيجي فعال.
وفي هذا السياق، وبهدف إضعاف وخلخلة هذه القوى المحلية، لجأ إلى الحصار الاقتصادي والمالي. حصار بهدفين: إضعاف الجبهة الداخلية والتماسك الاجتماعي؛ أي خلخلة الدفاعات الداخلية ووسائل الصمود من جهة، ومحاولة استثارة ردة فعل شعبية ضد آثار الحصار وضد من "يسببه"، أي ذلك الذي يدافع عن استقلال البلاد وسيادتها، وإظهاره كما لو كان هو سبب غضب الآلهة علينا.
وما إن نجح نسبيا في إثارة ردة الفعل هذه وخلط أوراق التحالفات والتموضعات وشد قسم من "الحاضنة" إلى مشروعه بذكاء (العراق ولبنان بشكل خاص)، وبعد نجاحه النسبي في بلبلة الأفكار وتسميم الأجواء بمواضيع مهمة لكن ثانوية، انتقل إلى الخطة العسكرية وأخذ يوجه ضربات موجعة إلى قوى الاستقلال والتحرر محاولا إجبارها على التراجع والاستسلام.
الأهم في كل ذلك هو الهدف المعنوي عبر زرع اليأس في نفوس الجماهير النازعة نحو التحرر وبناء دولتها وعبر تفتيت قوى التحرر بواسطة شعارات قومية (سبق أن جربت في بدايات القرن العشرين مع مشروع الشريف حسين الإنكليزي العروبي) كما بواسطة الصراعات الطائفية. الأحداث إذن مترابطة وليست مجموعة من اللوحات المجزأة لا بالتاريخ ولا بالجغرافيا. لا يمكن فهم "ثورات" اليوم بدون فهم وضعية الأمريكي في صراعه على مركز الكون. كما لا يمكن فهم انقلاب الأمريكي على المساكنة إلا بعد فهم هزيمته في سوريا.
إن تطور الأوضاع منذ الربيع العربي عزز من قوة قوى الصعود العالمي وأضعف الأمريكي ومحوره. وليس ما يجري اليوم إلا رفضا من قبله لتقبل الحقيقة. هو يحاول أن يستغل كافة العناصر التي كانت بحوزته لكي يضعف الخصم ويهزمه. مشكلة الأمريكي الحقيقية لا تكمن في حالة الفشل، بل في حالة النجاح. فهو يحارب بدون مشروع استراتيجي مستقبلي، وبدون حلفاء حقيقيين. معركة بلا أمل. فماذا عساه يقدم لهذا الإقليم في حال هزيمة خصمه؟ لا شيء. الأمريكي بحاجة اليوم إلى حلفاء يدافعون عنه، لا إلى حلفاء بحاجة إلى دعم 24/24 حتى يبقوا بالسلطة. الأمريكي بحاجة إلى حلفاء يعومونه لا أن يعومهم. لذلك فإن سياق المعركة واضح المسار. وما إن يستوعب محور الصعود الضربة والانقلاب الغريب على المساكنة ويبدأ بالرد، سوف يتبدى للجميع أن التعويل على الأمريكي لم يعد مجديا ولا مجزيا لأحد. سوف يفهم الأمريكي قبل حلفائه المحليين أن محور الصعود ليس بالضعف الذي يتصوره. وسوف يرون أين ستقف الجماهير العربية حقيقة ساعة الجد. ما إن يبدأ محور الصعود بالرد سوف تظهر قوة أدواته الحقيقية وهشاشتها.
المنفذ الوحيد المنطقي والممكن بالنسبة للأمريكي هو هجره هذا الإقليم بسرعة قبل أن تقتلعه أيادي وسواعد أبنائه بالقوة كما حصل معه سابقا في فييتنام، والصور والذكريات ماتزال حية لمن يريد أن يتذكر.
لا مستقبل للمشروع الأمريكي، ولا مستقبل لمن يتمسك بأذياله.


(*) كاتب لبناني
صحيفة "ميسلون" الإلكترونية

أترك تعليقاً

التعليقات