سامي عطا

سامي عطا / لا ميديا -
تمر الأمم في لحظات مصيرية بتحولين حاسمين: من فرقة إلى وحدة، ومن حرب إلى سلام. وكثيراً ما ينهزم المنتصرون، ليس في ساحة القتال، بل في ساحة الاختبار التي تليها؛ حين يظنون أن انتصار السلاح يُخوّلهم احتكار الوطن، فيحولون الوحدة إلى ديكور، والسلام إلى ثكنة، ويُبددون انتصاراً عسكرياً بعقلية إقصاء تستنسخ أمراض الماضي تحت شعارات جديدة.
لقد قدَّم اليمن، بعد حرب 1994، نموذجاً مُراً على الوحدة الزائفة. تحول حلم الشراكة الوطنية إلى بهرجة صورية، إذ جرى استقطاب وجوه من الجنوب «لزوم اكتمال الصورة»، بينما أُقصي المجتمع ككل من دائرة القرار والثروة. لم تكن تلك وحدة، بل كانت إدارة إقصاء مُمنهج، أفرزت نظاماً سياسياً تحوَّل إلى آلة لـ»إنتاج الفساد»، يجتذب كل من يبيع ضميره ويُشرعِن الاستئثار واغتصاب حقوق آخرين داخل الوطن. ولهذا أضحت الوحدة جسداً بلا روح، فتحولت إلى قنبلة موقوتة أفرزت كل هذا العفن الذي نراه أمامنا اليوم.
وهنا يأتي التحول الثاني الأكثر خطورة: فخ الاختصار الوظيفي. فكما أن الوحدة الحقيقية لا تُبنى بإقصاء الجغرافيا، فإن الدولة المستقرة لا تُبنى بإقصاء الكفاءات. بعض المنتصرين في المعارك يقعون في وهم أن الرمز العسكري الكفؤ هو بالضرورة الرمز السياسي أو الثقافي الكفؤ. فتتحول الدولة من ساحة تعددية إلى ما يشبه الثكنة العسكرية الموسَّعة، إذ يُحتكر المجال العام بمنطق القيادة الواحدة، ويُهمَّش السياسي والاقتصادي والإعلامي والمثقف، وكأن الحرب لم تضع أوزارها.
هذه هي المغبة المزدوجة، الاستئثار الجغرافي أولاً، ثم الاستئثار الوظيفي ثانياً. كلاهما ينبع من العقلية نفسها التي ترفض الشراكة الحقيقية. الأولى حوَّلت الوحدة إلى ديكور، والثانية تحوِّل الدولة إلى مؤسسة أحادية عاجزة عن خوض «معركة البناء» التي تحتاج إلى أدمغة متنوعة كما تحتاج ساحة الحرب إلى أسلحة متنوعة. وكما يقول المثل الاستراتيجي: «ما كسبته بالسلاح، لا يمكن أن تحافظ عليه إلا بالحكمة».
لذا، فإن التحذير التاريخي للسلطة التي تريد إعادة الاعتبار للوحدة المسلوبة، لا تكرر خطيئتين؛ لا تكرر خطيئة الإقصاء المكاني التي حولت الوحدة إلى واجهة فاسدة، ولا تكرر خطيئة إقصاء الكفاءات؛ لأن هاتين الخطيئتين تحوِّلان الدولة إلى جسم مشلول. النصر العسكري يتطلب قيادة موحدة؛ لكن السلام والبناء يتطلبان تحالفاً وطنياً عريضاً، يعترف بالتعدد ويحتضن الكفاءات في كل المجالات. فالسياسي الذي يبني التحالفات، والإعلامي الذي يصنع الوعي، والاقتصادي الذي يخلق الثروة، والمثقف الذي يصوغ الروح الوطنية، هم «الجيوش» التي تحفظ الانتصار وتُحوِّله إلى نهضة.
وعليه فإن المنتصر الحقيقي ليس من يهزم خصمه في الميدان فقط، بل من يهزم غروره في الداخل، ويوسع دائرة الشراكة بدلاً من تضييقها. الوحدة التي لا تقوم على عدالة توزيع السلطة والثروة هي وهم زائل، والدولة التي تحتكرها فئة واحدة -حتى لو كانت منتصرة- هي دولة عرجاء، لن تستطيع المشي طويلاً في دروب التاريخ الصعبة. فليكن شعار المرحلة: من الانتصار في المعركة إلى الانتصار على الذات، بالاعتراف أن الوطن ملك الجميع، وأن غده لا يُبنى بيد واحدة، بل بأيادي جميع أبنائه المخلصين.

أترك تعليقاً

التعليقات