ذاكرة المرايا وغربة الذات 1-2
 

محمد ناجي أحمد

محمد ناجي أحمد / لا ميديا -

في كتابه (مرايا الأزمنة) تنساب المدن بلغة متخففة من التصنع، هامسة تتشكل ذاكرة أنور العنسي الشاعر والإعلامي في (مرايا) تلتقط الانطباعات عن الجغرافيات والشعوب، المدن والوجوه، السلام وبعض من الدمار.
لغة الكتاب الهامسة في قراءة المدن والناس، نثرا وشعرا وانعكاساً بصريا، مع قدر من الولوج إلى غير المرئي...
هناك بعض المعلومات التي فيها تلبيس للذاكرة وحذف وإحلال سببه ربما عقدة الالتحاق في مركب اليسار، وادعاء الانتماء إليه، وخاصة من جيل نشأ في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، كان يرى أن اليسار ليس فقط جواز المرور إلى الحداثة، بل كذلك علامة انتقال من العصبويات الضيقة إلى فضاء الوطن والمواطنة، ومن القرية وأعراف القبيلة وأغرامها إلى أعراف الوطن والانتماء له بأفق العروبة وفضاء الإنسان.
يتحدث أنور العنسي في كتابه هذا - بشكل عابر- عن حملات الاعتقالات التي تمت لأعضاء «الحزب الديمقراطي الثوري» في أواخر الستينيات، وهي اعتقالات جرت بشكل مكثف في أعوام 1969-1972-1973م. وفي هذا الوقت الذي يتحدث عنه المؤلف، أي بعد نكسة 5 يونيو 1967م، تمت تصفية المدارس العسكرية التي يقودها الشباب الذي رسم ملحمة الصمود في حصار السبعين يوما، ورسخ أركان النظام الجمهوري، وتم بعد فك حصار صنعاء التخلص من المقاومة الشعبية في صنعاء والحديدة بشكل خاص، ومن ثم القيام بحملات اعتقالات ضد كوادر الحزب الديمقراطي الثوري، الذي تأسس في يونيو 1968م كتحول من حركة القوميين العرب إلى حزب يمني بأيديولوجية ماركسية. وقتها، أي عند اعتقالات عام 1969م كان عمر المؤلف أنور العنسي لا يتجاوز الثامنة، هذا إذا كان ولد عام 1960م، لكن المؤلف يشير إلى أن مولده كان مع مخاضات النظام الجمهوري!
بالإجمال، الكتاب إذا غضضنا الطرف عن الادعاءات السياسية العابرة، ادعاء أو موقفا عاطفيا، تشكل بفعل الضدية أو الانحياز لشخص أو مرحلة، أو التنصل من مرحلة ووسمه لرئيسها بالديكتاتور، في محاولة للتبييض السياسي عند صياغة الذاكرة. فالمؤلف كان من المحظيين في حقبة الرئيس علي عبد الله صالح، بل ونجمها الذي تيسرت له كل منابرها الإعلامية، من صحافة مقروءة وصحافة مرئية ومسموعة، وسفريات في شرق الله وغربه، وهو ما عبر عنه الشاعر عبد الكريم الرازحي بطريقته الحكائية الساخرة والموحية حين التقى بالمؤلف ذات صباح في «مركز الدراسات والبحوث». ولا أزال أتذكر كيف استوقفني عبد الكريم الرازحي وهو أحد أهم أدباء اليمن الساخرين بقوله: «نغلق التلفاز على آخر موجز أخبار تقرؤه، ونلوذ بإذاعة صنعاء فإذا ببرنامج من إعدادك (زورق الليل)، ونصحو على كلماتك في برنامج (الصباح الجديد) من إذاعة صنعاء، ونشتري جريدة (الثورة) فإذا بمقال لك في أهم صفحاتها، ونأتي إلى مركز الدراسات والبحوث فإذا بك أمامنا، أين نهرب منك يا رجل؟» (ص37-مرايا الأزمنة).
رحلة اللغة مع المرأة والمدينة ومقتنيات العصر والجريمة، برودة سوداء ودفء التاريخ ورائحة الانتماء، وإيقاع الذاكرة وسماوات مفتوحة على مشرق الله وغربه، وليل البشر ونهار الروح... هو هذه المرايا التي يبوح بها المؤلف؛ من ذمار وتعز وعدن وصنعاء وحضرموت إلى الخرطوم ومقديشو والحبشة ودمشق والقاهرة وتونس والرباط وقرطبة وباريس ونيويورك ونيروبي وجيبوتي وبغداد وطوكيو ومانشستر وأثينا ولاهاي وقبرص... إلخ، كانت اللغة تتخلق مدنا ونساء، خوفا واطمئنانا، بحثا عن الذات وتواصلا مع أمشاج الحضارة، في سردية كازانتزاكي وتقاريره وأشعاره.
على ذات المسار والأفق الإبداعي، استمرت رحلة الكتاب الممتدة في رصيف اللغة وتشردها، وصفا واقعيا أو نثرا شعريا أو إيقاعا غنائيا، دون تعرجات أو منحنيات، مشاهد لملامح المدن وحفرياتها في التاريخ، وثلماتها في النفس والمشاعر، كذات تتألم دون أن تبوح بجوهر الحزن المستدام، والألم النازف مدنا وبحار أصدقاء وصديقات، مواقف لم يزح عنها الستار.
(مرايا الأزمنة) ذاكرة مخدرة ومعتمة، تطوي جرحا، وتضيء لذات تسيح دون توقف، هربا من ذاتها. جماليات المدن تتمظهر للقارئ نثرا شعريا، بحميمية ووجد شاعر يجيد تخليق الأشياء التي يحل فيها أو تحل فيه.
يبحث عن ذاته «في مدن شتى، في كل جهات وحضارات الأرض، سكنني بعض تلك المدن لكنني لم أجد نفسي يوما لأعيش وأستمتع بفلسفة العيش في أي منها، مثلما يحدث لي في لاهاي»، (ص176).
غربة الوحيد تتكثف في صفحات هذا الكتاب، حتى لكأن العنوان الأنسب له هو (غربة الذات)، يظل يبحث عنها في المدن المختلفة، واللغات العديدة، والسحنات والطقوس، والمناخات التضاريس، بتحولاته من أقصى شمال الكرة الأرضية إلى أقصى جنوبها، ليعيش «بعض التحولات في هذه الحواضر ربما إيجابيا هنا أو هناك، لكن أغلبه قد يبدو سلبيا بل ومأساويا في كثير من الحالات، كما هو الحال في مدن مثل صنعاء وبغداد ودمشق وغيرها» (ص11).
إنها مرايا غربة الذات القلقة، التي تبحث عن طمأنينتها في مدن الله فتزداد قلقا على قلق، غربة فوق اغترابها الداخلي.
من القرية كان مبتدأ الطفولة ونشأتها، في قرية الذاري بمحافظة إب، وفي عنس «الشهيرة ولدت في مخاض ولادة اليمن الجمهوري الجديد أوائل ستينيات القرن العشرين»(ص19).ولأنه ولد مع مخاض ولادة اليمن الجمهوري، فإن الاعتقالات التي تمت لكوادر الحزب الديمقراطي الثوري كانت بعد القضاء على الحركيين والناصريين في الجيش، وبعد تصفية المقاومة الشعبية في الحديدة وصنعاء، أو مصاحبة لها، وصاحب (المرايا) يتحدث عن الاعتقالات في أعقاب نكسة حزيران/ يونيو 1967م: «لقد شهدت أمام عيني في تلك السنوات اختطاف بعض المثقفين الشباب من شوارع ذمار، ومداهمة منازل البعض الآخر منهم، واقتيادهم فرادى وجماعات إلى السجون والمعتقلات بتهم الانتماء إلى بعض التنظيمات القومية واليسارية كالحزب الديمقراطي الثوري.. كنت أشعر بالذعر لما يحدث، فأحد أولئك المعتقلين كان أكمل تقريبا تجنيدي في الحزب الديمقراطي» (ص20).وهنا نتساءل: هل يعقل تجنيد وتنظيم طفل لم يتجاوز سن الثامنة من عمره؟ تفسير ذلك باعتقادي هو أن الذاكرة هنا تسطر المتخيل المستحيل، فعقدة الانتماء لليسار بوصلة الحداثة، يظل هاجسا رغبويا ولو كان المرء في الضفة المعادية له! ربما هو النزوع لتجاوز صورة «القبيلي المزارع» الذي تتشكل صورته النمطية في المدن «ملهاة ووسيلة لسخرية وتندر سكان أغلب المدن تقريبا، وليس ذمار وحدها»؛ وهو ما عبر عنه الشاعر محمد ناصر صَبِر بقوله:
شاصبر على الأيام صبر الحجر
صبر القبيلي على صاحب ذمار 
وفي الادعاء للانتماء المبكر للحزب الديمقراطي الثوري ليس انتماء للمدينة فحسب، بل وإلى نخبتها الوطنية!
الادعاء السياسي في الانتماء الحزبي لليسار، أو لشريحة اجتماعية في المجتمع، سمة نجدها لدى العديدين، فابن الفقيه (فقيه المعلامة) الذي يدرس الأطفال القرآن ومبادئ الكتابة الأولية، ويكتب عقود الزواج وعقود البيع والشراء، يصبح قاضيا عند استدعاء الذاكرة وتدوينها، وابن معلم البناء يصبح تاجرا! فهذا عز الدين سعيد أحمد يدعي انتماءه لأحد فصائل الحزب الاشتراكي اليمني، ويؤرخ لانتمائه بأنه منذ بداية عقد الثمانينيات، ويكتب مقالة في صحيفة الشارع من حلقات يؤرخ فيها لسيرته الذاتية، وانتمائه لأب من التجار، مع أن أباه كان (أسطى) يحترف مهنة البناء، ويتقنها بتفوق كالعديد من أبناء الأصابح وذبحان وقدس وعموم أبناء قضاء الحجرية. وأما الانتماء السياسي، فالحزب الاشتراكي بداية التسعينيات، وبعد تحقيق الوحدة اليمنية، عمل على لملمة العديد من الصحفيين وضمهم للحزب الاشتراكي، ولكي يكيفوا وضع عز الدين حزبيا في سكرتارية الحزب بمنظمة تعز، كان لا بد من توصيفه بأنه ينتمي لفصيل من فصائله. وهذه واحدة من علامات الهشاشة داخل الحزب، أي البناء التنظيمي، والمحاصصات وفقا للتكوين الحزبي الفصائلي. ويبدو أن عقدة الانتماء لطبقة التجار ظلت تلح على عز الدين سعيد أحمد (عز الدين الأصبحي)، مما جعله، منذ النصف الثاني لتعسينيات القرن العشرين وحتى أيامنا هذه، يستثمر المتخيل الانتمائي في مجال الحقوق والحريات، ويحقق مكاسب بأرقام تتجاوز ربح الاتجار بالسلع المادية!
لا ينسى المؤلف أنور العنسي أن يستحضر من ذاكرته «أمة العليم السوسوة ابنة مدينتي، التي تكبرني بسنوات قليلة، كانت قد سبقتني إلى تعز أو أنها ولدت هناك». وأمة العليم السوسوة ولدت في يفرس، غرب مدينة تعز، فأبوها كان حاكما في يفرس، وهناك كان ميلادها وأخيها الدكتور عباس السوسوة.
في تعز، يعيش المؤلف في بيت خاله سنوات من طفولته، ويتماهى رغبة في أن يقترن»بكامل أنوثة هذه المدينة الغيداء الحالمة»(ص48).تعز في (مرايا) المؤلف، أنثى، صعودا «إلى جبل صبر ارتقاء في معارج المعرفة وإطلالة على جغرافيا المدينة من على شرفات ذلك الجبل العظيم، وكانت العودة إلى صخب المقاهي في حي (الشنيني) و(باب موسى) سباحة في حياة صافية وعذبة»(ص28). ولأن خاله يعمل في المصالحة والمقاربة بين الباعة والمشترين في السوق، بما يعرف اصطلاحا لهذه المهنة بـ(الدلالة) ولصاحبها بـ(الدلال)، إلا أن المؤلف وصف المهنة ولم يستخدم المصطلح الدال عليها.
معرفة المؤلف بتفاصيل هذه المدينة لم تترك لديه انطباعا مدينيا صاخبا، ربما لأن تعز السبعينيات كانت قليلة السكان ومساحاتها مزروعة، تعطي تصورا عنها بأنها شبه قرية، شبه مدينة. لهذا كانت تعز بالنسبة لصاحب (المرايا) «فكرة زاهية بسيطة، وردة للروح، وأغنية للحياة». ولهذا تتجلى تعز لديه شعرا بدلالة المراعي والسواقي والنوافير:
لأجلك يبتل بالطل صدر المراعي 
يضحك ماء السواقي 
وتبكي النوافير في لوعة واحتراق.
وفعلا هذه صورة شعرية، تجمع بين انزياحات المجاز والتصوير الفوتغرافي لملامح مدينة قروية، ظلت حتى السبعينيات من القرن العشرين، مزارعاً وغيولاً وسواقي ومراعي للأبقار والماشية، في تجاور وتداخل مع المدينة.
إن التماثلات والتداخلات بين المدينة /المرأة يظل ملازما لـ(المرايا) نحو العديد من المدن، فـ»لطالما خلت صنعاء امرأة، بل هي امرأة ساحرة وشديدة الإغواء، بيوتها المزخرفة توحي بأناقته الأنثى، وزجاج نوافذها وقمرياتها الملونة تعكس سحر عيونها الفاتنات « (ص23).وكذلك هي روما في ذاكرته «روما تعذبني كلما اقتربت منها أشد من ابتعادي عنها، عذاب لا يخلصني منه سوى الإبحار في زرقة عيني امرأة أسطورية الحضور، كان اسمها ولا يزال روما، وسيبقى حتى النهاية...روما!» (ص153). وحين يخاطب (أثينا) يخاطبها كأنثى: «لطالما قلت لك يا سيدة البحر أثينا امنحيني بعض ما تمنحين للتاريخ من مفاتيح الدهشة وأسرار الغيوب، لكنك لم ترسلي لي سوى غيومك السود، تمطر كأسي بالبرد، وتقصف مائدتي بالمحار والصدف»(ص158).وتلك هي قرطبة والشجن الأندلسي، «تلك السيدة ذات العينين الخضراوين باتساع السماع والوجه التفاحي الأحمر المستدير، لم تبارحني كأنها اختارت لنفسها مكانا أو لوحة خالدة يزدان بها جدار روحي»(ص168).

أترك تعليقاً

التعليقات