محمد ناجي أحمد

محمد ناجي أحمد / لا ميديا -

منطق المؤلف مع تاريخ الإمامة
لكن صاحب كتاب (قاموس العرف القبلي في اليمن) تتغلب عليه صفة الأيديولوجي على العالم كلما تناول في كتابه هذا (الإمامة )، فبدلاً من دراستها وفقا لشروطها وزمنها وطبيعة الأنظمة الإقطاعية وشبه الإقطاعية المجايلة لها، نجده من منظور مدرسي يشيطنها كعادة غيره من الذين تضلهم الأحكام الجاهزة عن البحث الموضوعي، فالباحث لو درس الإمامة من ذات المنطلق الموضوعي والعلمي في دراستهم للقبيلة وأعرافها، لكان قد أعفى نفسه من هذه المنزلقات المدرسية التي تشربتها الأجيال كخطاب لسردية منتصرة، لا ترى في السردية المهزومة إلَّا ضلالاً وظلاماً دامياً، بل ونظاماً لا شبيه له في التاريخ؛ أي فوق تاريخي بأبلسة معيبة وحاجبة من وجهة نظري.
فالمؤلف يرى أن «الأئمة لم يؤسسوا دولا وإنما كانوا حكاما للنهب فقط.. فقط، (ص133-ج1). وفي هذا تعميم يخل بالعلمية والاستقراء التاريخي لكحم الأئمة.
يرى المؤلف أن الإمام يحيى بن محمد حميد الدين هو أول من قام بالتوريث عن طريق أخذ البيعة لولاية عهده علنا، ومعلنا تحويل الإمامة إلى مملكة، مخالفا بذلك كل من سبقه (ص137-ج1)، وهذا قول تنقصه الدقة التاريخية، فالإمام محمد بن أحمد بن الحسن (صاحب المواهب) كان ملكا لا يمتلك شروط الإمامة، وقد بنى ملكه وطقوس حكمه بل وأراد توريثه لولا خروج المنصور عليه، ووفاته في قصره محاصرا. إضافة إلى أنني أعتقد أن سيف الإسلام أحمد أخذ الإمامة بحجة الثأر لأبيه من قتلته الذين قاموا بحركة 1948 بعد أن دبروا كمينا للإمام يحيى وقتلوه ومعه العمري وأحد أحفاده وسائق سيارته، في منطقة (حزيز) جنوب صنعاء. والقول بأن الإمام يحيى عين ابنه أحمد لولاية العهد يحتاج إلى وثيقة التعيين، والتي لم أطلع عليها بحدود قراءاتي حتى اليوم.
يمتدح المؤلف في كتابه تفكير الأحرار، وما دار بينهم من حوار داخل أسوار سجن حجة، بعد اعتقالهم إثر سقوط حركة 1948 «وبالذات المقترح الذي كان قد عرضه بعضهم وفحواه: أن يولي المعارضون لحكم «الإمامة» اهتمامهم شطر «اليمن الأسفل»، أي منطقة إب وتعز، لإقامة الحكم الجمهوري هناك، وذلك لكي يكون النظام الجمهوري منارة سياسية مضيئة تجذب إليها القبائل في المرتفعات الشمالية، فتساعد في القضاء على نظام «الإمامة». ويعلق المؤلف» أن هذا الاقتراح الجريء ما كان له أن ينبثق لولا التفكير السياسي الحر المنفتح دون أية قيود أيديولوجية «وطنوية» تخشى النقد الذي لربما تلاقيه هذه الفكرة من قبل من قد يذهب به تفكيره السياسي إلى اتهام أصحاب الاقتراح بالانفصالية وتمزيق البلاد، و/أو المذهبية والسلالية إلى غير مثل هذه الاتهامات المتسمة بالسذاجة السياسية، إن لم تكن تتسم بسمات أخرى (ص139-ج1).
والحقيقة أن مفهوم بناء نظام جمهوري لم يتسلل إلى أذهان الأحرار اليمنيين إلَّا في عام 1955 وبتأثير متأخر من ثورة 23 يوليو 1952، في حين أن المفكر عبد الله باذيب كان منذ بداية الخمسينيات، أي بعد ثورة يوليو إلى إقامة نظام جمهوري في اليمن، في وقت كان الأحرار في سجون حجة يبايعون إبراهيم بن علي الوزير إماما لهم، وهو بعد لازال بين الطفولة والمراهقة! أي في سن 12 أو 13 سنة من عمره! فعن أي تفكير سياسي حر ومنفتح يتحدث المؤلف، إلاَّ إذا كانت الهويات الضيقة قد أصبحت منفتحة على مختلف الأوهام!
ينسى المؤلف أو يتناسى موقف الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني، بعد قيام جمهورية 5 نوفمبر، واشتداد حصار السبعين يوما من ديسمبر 1967 وبداية عام 1968، أنه أقنع أصحابه النوفمبريين بالاعتراف بجمهورية اليمن الجنوبي الشعبية، بحجة أن تعز والجنوب ستكون حاضنتهم لو سقطت صنعاء بأيدي الملكيين. وينسى كذلك موقف الإرياني بعد قيام ثورة سبتمبر، أي في عام 1964 حين تمت إقالة محافظ تعز أمين عبد الواسع نعمان، وتم تعيين الشيخ مطيع دماج بدلا عنه، فقد احتشد وجهاء محافظة تعز رافضين الإقالة والتعيين، مهددين بإقامة حكم مستقل في اليمن الأسفل، ومما يؤكد أن خيار الأحرار وهم في سجون حجة بإقامة حكم مستقل عن الإمامة في اليمن الأسفل أنه كان بدواعي النفعية المؤقتة والضرورة، ولم يكن خياراً مصيريا يؤمنون به، هو استنفارهم وفي مقدمتهم الإرياني وحسن العمري والشيخ عبد الله بن حسين الأحمر لتحريك قوات مسلحة من الجيش للنزول إلى تعز وضرب التمرد، ويحددها القاضي الإرياني في الجزء الثاني من مذكراته الصادرة عن الهيئة المصرية العامة –ج2-2013 بأربعمائة جندي، وأن المقدم صفوت محمد عبد الله، القائد العربي بتعز هدد بأن القيادة العربية لن تقف مكتوفة الأيدي، وهنا يدين القاضي الإرياني القيادة العربية بتعز بأنها تعمل على تشجيع النعرات الطائفية ص193-194 (مذكرات الرئيس القاضي عبد الرحمن بن يحيى الإرياني- الجزء الثاني)، ووقد كان التحرك للجيش من صنعاء إلى تعز لضرب احتشاد وجهاء تعز سيتم لولا موقف القيادة العربية، وتهديدهم!
يروي المؤلف أحمد الجبلي في الجزء الثاني من كتابه هذا، نقلاً عن الأكوع، «أن الإمام محمد بن يحيى كان شديد القسوة حيال من يتعاون مع العثمانيين، أو يسالمهم، فكان يأمر باغتيالهم كما حصل مع القاضي محمد جغمان، أو يأمر بنسف بيوتهم، «وإذا قيل له: إن البيوت التي يأمر بنسفها فيها أطفال ونساء يقتلون وليس لهم ذنب، فكان يجيب على القائل، كما أخبرني العلامة حمود بن عباس المؤيد، نقلا عن أبيه الذي سمع المنصور: الصغار في الجنة والكبار في النار» (الأكوع 1995: 3/1695) (ص20-ج2-قاموس العرف القبلي في اليمن). وفي رأيي أن إسماعيل الأكوع لا يؤخذ بروايته عن الأئمة، لأن موقفه المنحاز ضدهم يجعله غير عدل في طرحه وفيما يرويه عنهم. فبالنسبة للشدة التي كان يتعامل بها الإمام محمد بن يحيى حميد الدين مع من يتعاون مع الأتراك ضد المقاومة اليمنية فقد كان في ذلك صارما، سواء تعاون معهم بالخطب واللسان كما هو حال القاضي محمد جغمان، أو تعاون معهم بالقتال والمال، فقد كان يرسل إليهم من يغتالهم. وإن كانت المحاولة لم تنجح مع القاضي جغمان، إلا أنها أصابته بالرعب، مما دفعه للصمت وعدم التحريض ضد المقاومة التي يقودها الإمام محمد بن يحيى. وأما بالنسبة لنسف البيوت وفيها أطفال ونساء فليس هناك مرجع تاريخي معاصر لتلك الأحداث روى ذلك، وما روي هو اعتماد الإمام محمد حميد الدين في حروبه التحريرية ضد الأتراك على كافة الوسائل المعروفة في حروب التحرير، فقد جمعت استراتيجيته بين وسائل حرب العصابات، وبين حرب الجيوش النظامية، حتى يجعل القوات المعادية في قلق وإرباك وحركة دائمة، لا يستقر لها قرار. (ص102- كتاب سيرة الإمام محمد بن يحيى حميد الدين المسماة بالدر المنثور في سيرة الإمام المنصور).
شملت حرب العصابات قطع الطريق على قوات الأعداء، ومنع وصول المواد الغذائية واللحوم والذخيرة، سواء من البر أو البحر، وقطع التلغراف ولجأت القوات الإمامية إلى دسِّ القنابل المتفجرة وفتائل البارود لإحراق المراكز العثمانية، والتسلل إلى أماكن العدو ومرتزقته، كما حدث حين نجح أحد رجال الإمام «في التسلل إلى سمسرة تعود إلى صاحب وُعلان، علي يحيى –الذي بات فيها محمد بن حسن بن صلاح فايع، مدير سنحان من قبل الأتراك، وصحبته جماعة من عُقال وُعْلان وضبطية وأتراك، حيث أظهر الرجل أن ما يحمله حماره هو وقرُ حبٍّ، وفي حقيقة الأمر كان وقر بارود، ومن ثم نسف السمسرة على من فيها، حيث هلك 35 رجلا، وما في السمسرة من دواب، بغال وغيرها تعود إلى الأتراك وأعوانهم (ص105- كتاب سيرة الإمام محمد بن يحيى حميد الدين المسماة بالدر المنثور في سيرة الإمام المنصور).
أجاز الإمام المنصور محمد حميد الدين لأتباعه الفتك بأعوان الأتراك والذين يغدرون بقواته، حيث استند على فتوى تُبيح قتل المُضِرِّ من أعوان الظلمة. «بالإجمال، فإن القوات الإمامية اتخذت مبدأ إيجاد القاعدة الآمنة لتنطلق منها في مهاجمة القوات المعادية، لتجبر القوات العثمانية على الحركة الدائمة، تثير الغبار من تحت أقدامها دوما، لا تترك لها مجالا للاستراحة أو تعطيها الفرصة لإعادة تنظيم وجمع صفوفها «ص107- كتاب سيرة الإمام محمد بن يحيى حميد الدين المسماة بالدر المنثور في سيرة الإمام المنصور.
 لقد أطنب المؤلف في محاكمة الإمامة وإدانتها كلما وجد سانحة لذلك، رغم أن موضوع الكتاب عن العرف القبلي في اليمن، وإن كان حديثه عن الإمامة طبيعيا في سياق دراسة وبحث علاقة الإمامة بالقبيلة، والشرع بالعرف، إلا أن الذهنية الأيديولوجية التي قررت مدرسيا أن تشيطن تاريخ الإمامة، تعمل على إزاحة الحقيقة بما أنها مسار داخل التاريخ، فتحل بدلا عنها صورة ليست كلها موضوعية بل متخيلات الأذهان. 
إن فتاوى قتل المتمترس بهم في الحروب من الأطفال والنساء والمستضعفين نجدها تتواتر في التاريخ الإسلامي، ولعلَّ آخرها ما قاله الدكتور عبد الوهاب الديلمي، في حرب 1994 حين كان وزيرا للعدل، وقد استشهد بفتوى جواز قتل المتمترس بهم، لكننا لم نجد فتوى للإمام محمد بن يحيى تجيز قتل الأطفال والنساء كتلك التي رواها الأكوع آنفا. 
وهذا لا يعني أن حكم الأئمة كان حكما مثاليا، أو نظاما للدولة الفاضلة، فهو بالتأكيد كان جزءا من نظام الحكم الإقطاعي وشبه الإقطاعي والخراجي في المنطقة العربية، لكن نقده ينبغي أن يكون وفقا لشروط تاريخيته، وظروف بيئته، زمانا ومكانا ومعتقدات وأعرافا.

أترك تعليقاً

التعليقات