تنومة وسدوان.. (مجزرة الحجاج الكبرى)
 

محمد ناجي أحمد

دخل الإمام يحيى محمد حميد الدين صنعاء في صفر 1337 هجرية / نوفمبر 1918م.
وقد كانت سنوات العقد الثالث من القرن العشرين حتى عام 1932م، سنوات تأسيس وتكوين للمملكة المتوكلية، فمشائخ تعز يتواصلون مع الإنجليز منذ عام 1918م، ولم يتوقف تواصلهم معهم عام 1922م، بل وما بعد ذلك من سنوات استمر حتى حركة 1948م، والمقاطرة لا تضم للمملكة إلا بحرب عام 1920م، ومشائخ صبر وحبيش، والعدين وجبل حبشي، ووجهاء مدينة تعز يجتمعون عام 1922م، ويتواصلون مع الاحتلال البريطاني في عدن، كي يدعم استقلالهم، حتى علق المندوب السامي في عدن على حجم الرسائل والبعوث المرسلة إليه من مشائخ اليمن الأسفل وتهامة، قائلاً: (إن الحاصل في تلك المناطق من اليمن أن كل مقدم، وكل عاقل حارة، وكل شيخ يريد الاستقلال بنفسه، حيث وصله مندوبون لأكثر من 12 شيخاً، وكلهم يطلبون الاستقلال والدخول تحت الحماية البريطانية). والحديدة محتلة من الإنجليز، ويتم تسليمها عام 1923م للإدريسي، ولم تتم استعادتها للسيادة اليمنية إلا عام 1925م، وحاشد تتمرد عام 1925م، وعام 1927م، لأسباب تتعلق برفض مشائخهم توريث النساء، وعدم التسليم لاحتكار الدولة للأمور الإدارية والشرعية. ويلجأ شيخ خارف ناصر بن مبخوت الأحمر، إلى الملك عبد العزيز، ليحتمي به. والزرانيق تتمرد عام 1927م، بتحريض ودعم بريطاني، ووصل الأمر إلى دفع شيخها الفتيني لتقديم شكوى إلى عصبة الأمم المتحدة، مطالباً فيها بحماية دويلته! والبيضاء ضمت للمملكة المتوكلية بحرب عام 1924م، ومأرب في 1930م، والجوبة وحريب عام 1931م. ثم تتكلل كل هذه الصعوبات والمخاضات والحروب التكوينية لليمن حرباً مع الكيان السعودي والاحتلال البريطاني عامي 1933 و1934م. وما سبقه طيلة العقد الثالث من القرن العشرين من قصف بالطائرات البريطانية على المدنيين العزل، وصلت ضحايا قصفها بالآلاف بحسب بعض الروايات.
في هذه الظروف وهذا الوضع، بل وفي أخطر سنواتها، كانت مذبحة (تنومة وسدوان) في يوم السبت أو الأحد 17 ذي القعدة 1341 هجرية /1 يوليو 1923م.
في كتابه (مجزرة الحجاج الكبرى: مذبحة حجاج اليمن في تنومة وسدوان على يد عصابات ابن سعود عام 1923م)، الصادر عن المجلس الزيدي الإسلامي بصنعاء عام 1439 هجرية /2017م، يستقصي الباحث (حمود عبد الله الأهنومي) قصة هذه المذبحة التي حاول البعض طمرها مع سبق الإصرار والترصد، لمحو آثار ومعالم أبشع (هلوكوست) مارسه الكيان السعودي في اليمن، لتكون مجازره وجرائمه ومحارقه الجماعية طيلة ما يقارب سنوات الحرب الثلاث التي بدأت من عام 2015م وحتى الآن، استمراراً لجريمة مذبحة (تنومة) التي خطط لها عبد العزيز بن سعود من الرياض، وأشرف عليها قائده على منطقة أبها عبد العزيز بن إبراهيم، ونفذها قائده الوهابي (خالد بن جامع) ومصاصو الدماء من هجرة (العُطْعُطْ)، هذه الهجرة التي وصل عدد جنودها إلى 12 ألف مقاتل، وقد هيأهم ابن سعود هم وغيرها من الهجر على العقيدة المتوحشة لسفك الدماء وتكفير الآخرين، واستحلال دمائهم وأرضهم وأعراضهم، ووفر لهم الأرض والغذاء والسلاح، وضخ في رؤوسهم التعاليم المكفرة للمجتمعات.
يتكون الكتاب من مقدمة و7 فصول وخاتمة، وقد التزم الباحث فيه المنهج التاريخي الوصفي، متتبعاً هذه المجزرة منذ بداياتها، مكانها وعدد شهدائها، ومن نجا منهم، مستقصياً بعض الشهادات الشفهية، والمدونة في المصادر والمراجع من تقارير وصحف، وكتب وشهادات مروية، مختتماً كتابه بترسب هذه المجزرة في الذاكرة الشعبية، سواء في الأدب الفصيح، أو الأدب الشعبي.
إن ما يحسب للكتاب أنه تتبع قصة (المذبحة) وأهدافها وآثارها، وعدد شهدائها، ومن نجا منهم، بين دفتي كتاب، في تصدٍّ قتالي في وجه من أرادوا طمس هذه الجريمة الكبرى، والتي لها ما يماثلها في تاريخ الكيان السعودي، سواء مع عرب شرق الأردن، أو العراق، والمذبحة التي قادها سعود في القرن التاسع عشر على كربلاء في سنة 1216 هجرية /1801م، أو غيرها من مناطق العراق، أو مذبحته للآمنين في الطائف حين دخلها سلطان بن بجاد التميمي قائد هجرة (العُطعُط)، عام 1924م، وصنع فيها مجازر بشعة.
لقد كان مبرر الكيان السعودي هو أن الإمام يحيى أرسل جيشاً بثياب الحجاج لمساندة الشريف حسين بن علي ملك الحجاز، لمواجهة بن سعود، وقد كان هناك اتفاق سعى فيه أمين الريحاني، صاحب كتاب (ملوك العرب)، ينص على التعاون بين إمام اليمن وملك الحجاز، إلاّ أن بنود هذا الاتفاق سُربت إلى عبد العزيز بن سعود، إما عن طريق الريحاني نفسه، لقوة علاقته بابن سعود، أو عن طريق البريطانيين أنفسهم، والباحث (حمود الأهنومي) يصف الريحاني بأنه عميل بريطاني، والحقيقة أن صاحب (ملوك العرب) كان كعادة الكثير من عملاء ذلك العصر، عملاء مزدوجين، فقد كان الريحاني على صلة استخباراتية بالأمريكيين أيضاً، وربما كان عمله للأمريكيين أكثر إخلاصاً، فاستعد ابن سعود للتخطيط لهذه المجزرة.
من الواضح أن مجازر الوهابية السعودية في أبها وتنومة وسدوان العليا وسدوان السفلى، والطائف والعراق، قد أنجزها جيش ابن سعود الوهابي، الذي عمل على تدريبه وغسل أدمغته بالتطرف وتكفير الآخرين من خلال بنائه لمئات الهجر التي مولها بالمال والسلاح والمعلمين الوهابيين، ليشكل منهم جيشاً أُعد لصناعة المذابح والتوحش وبث الرعب في اليمن والحجاز والعراق، ثم بعد ذلك في فترة الطفرة النفطية، في كل دول العالم الثالث، كذراع امبريالية للولايات المتحدة الأمريكية.
لقد انتزع ابن سعود عسير من أميرها حسن بن عائض، عام 1340 هجرية /1922م، حين أرسل ابنه الأمير فيصل بن عبد العزيز، وأقام بها حامية من الإخوان بقيادة عبد العزيز بن إبراهيم، الذي استقبل قافلة الحج اليمنية، ورحب بهم، ثم بعد ذلك زعموا أنه حذرهم من الطريق، وطلب منهم أن يغيروا طريقهم من أجل سلامتهم، وحين صمموا على المضي في طريقهم أخذ منهم إقراراً خطياً بذلك، وحكاية الإقرار توحي بتبييت الغدر، ووجود خطة للمذبحة أعدتها الرياض، وسلطانها عبد العزيز بن سعود.
يؤرخ البعض لمجزرة تنومة وسدوان بسنة 1340 هجرية، لكن المصادر القريبة من الحدث -بحسب ما يورده الباحث - تؤرخ ذلك بيوم الأحد 17 ذي القعدة 1341 هجرية / الساعة الخامسة بالتوقيت الغروبي، أي وقت الظهر، الموافق 1 يوليو 1923م، وفقاً لما ذكره أمير الحج آنذاك السيد العلامة محمد بن عبد الله شرف الدين، بتعليقة كتبها بخطه. أي أن المذبحة بدأت قبل الظهر في تنومة، لتستمر إلى ما بعد الظهر في سدوان الأعلى والأسفل.
ومكان المذبحة يحدده الباحث وفقاً لمصادره بأنه في ثلاثة مواضع، فالحجاج كانوا نزلوا على ثلاث فرق: الفرقة الأولى تقدمت ونزلت في تنومة من بني شهر بني الأسمر وبني الأحمر في منطقة عسير، والفرقة الثانية في سدوان الأعلى، وفرقة في سدوان الأسفل، وسدوان معدودة في بني السمر.
أسباب مذبحة تنومة وسدوان
يحيل الباحث أسباب مذبحة تنومة وسدوان إلى الجانب العقائدي في الوهابية، التي ترى الآخرين المخالفين في المذهب، وإلى المجتمع غير الملتزم بنهجهم، بأنهم كفار يجب قتلهم، ومفارقتهم. لهذا عزلوا أنفسهم في هِجَر تعمل على تنشئتهم نشأة وهابية، وهي نشأة التوحيد التي صاغها محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر، كامتداد لابن تيمية، وبأفق وتعصب أضيق منه بكثير. فعقيدتهم يرونها الحق، والآخرون هم الباطل!
والسبب الثاني: سياسي، اختلطت فيه رغبات بريطانيا في خلق الفتنة بين حكام المنطقة، فسربت خبر الاتفاق بين الإمام يحيى، وبين الشريف حسين ملك الحجاز، وهو اتفاق لم يوقع بعد، وقد كان التسريب إما مباشرة منها، أو عن طريق عميلها المزدوج أمريكياً وبريطانياً، والمقرب من ابن سعود، أمين الريحاني، وقد أرادت بريطانيا بذلك إشغال الإمام يحيى حميد الدين بحرب مع ابن سعود، كي ينشغل عن المطالبة بجنوب اليمن وضمه لمملكته.
لقد أراد ابن سعود من حجم هذه المجزرة وبشاعتها وعدد القتلى بالآلاف، أن يوصل رسالة قاصمة لليمنيين بألاّ يفكروا بضم عسير إليهم، وألاّ يتحالفوا مع الشريف حسين ضده، وأراد أن يظهر الإمام يحيى بصورة الحاكم الضعيف غير القادر على الثأر ومواجهة ابن سعود.
وقد نحا الباحث هذا المنحى حين صور موقف الإمام المهادن، والسلمي، والباحث عن حلول شرعية وسياسية للجريمة، بأنه ضعف، أضاع حقاً كان يمكن للإمام يحيى أن يسترده بالحرب، خاصة وأن ابن سعود كان وقتها في الرياض، ولم يستولِ على الحجاز بعد. وأنا أعتقد أن الباحث لم يكن موفقاً في رؤيته هذه، فموقف الإمام يحيى وانشغاله بحروب التأسيس يجعل فتح حرب مع ابن سعود في تلك الفترة، أو حتى طيلة عشرينيات القرن العشرين، ضرباً من المحال، فكما أوردنا سابقاً حجم المشاكل والمهام التكوينية لليمن كان يقتضي من الإمام يحيى أن يصرف جهودها نحو الداخل. فإمكانات اليمن وقتها لا تساعده على شن حرب ثأرية على ابن سعود.
وهناك سبب اقتصادي لمذبحة تنومة وسدوان، وهو سلب الحجاج تجارتهم، فلقد اعتاد اليمنيون أخذ بضاعة معهم للمتاجرة فيها بالحج، من حبوب، وماشية، وعسل وبن وسمن وزبيب ولوز وثياب وبقوليات، إلخ، وقد قدر ثمن هذه البضاعة بـ40 ألف ريال ماري تريزا. وقد نهب جيش ابن سعود كل ما لدى الحجاج من بضاعة، وما تبقى من ثياب مع من نجا فاراً بنفسه، سلبه قطاع الطرق، وتركوهم بسراويلهم الداخلية.
والسبب العسكري لهذه المذبحة هو خلق الصدمة والرعب، لقطع الطريق على أية مطالبة بالأراضي اليمنية في الشمال والجنوب. وهو ما جاءت حرب 33-1934م لتفرضه وتكلله باتفاقية الطائف، واتفاقية الهدنة مع الاحتلال البريطاني.

أترك تعليقاً

التعليقات