محمد ناجي أحمد

حين كانت الدولة الصليحية تخطب في المساجد للخليفة الفاطمي في مصر، والدولة النجاحية تخطب للخليفة العباسي في بغداد، وكذلك كانت الدولة الرسولية مرتبطة بالدولة الأيوبية من حيث الولاء، كان الأئمة مرتبطين باليمن، ولعلّ ذلك بحسب تفسير سلطان أحمد عمر في كتابه (نظرة في تطور المجتمع اليمني)، هو ما جعل تلك الدول تتلاشى مع التاريخ، وأعطى لدولة الأئمة الاستمرارية والبقاء حتى قيام ثورة 26 سبتمبر، حين قرر (الضباط الأحرار) تغيير النظام السياسي وطبيعة التراتبية الاجتماعية، والسعي للوحدة اليمنية والعربية.
المؤيد بالله محمد بن إسماعيل بن القاسم بن محمد ولد سنة 1044 هجرية، وقد كان عاملاً على صنعاء في عهد والده الإمام المتوكل على الله إسماعيل، وعاماً من إمامة ابن عمه أحمد بن الحسن الغراسي.
في يومياته هذه التي كتبها خلال الفترة 1083-1088 هجرية، وقد حققها عبد الله محمد الحبشي، بعنوان (مذكرات المؤيد بالله محمد بن إسماعيل)، يتضح لنا من خلالها أن قوة واستقرار الدولة القاسمية التي بلغت قوتها ووحدويتها في القرن السابع عشر بعد طردهم للأتراك، كان مرده إلى العدل والإنصاف ومحاسبة الأئمة لأنفسهم في حقوق الناس مستضعفيهم وإقطاعييهم.
فعامل صنعاء (محمد بن إسماعيل بن القاسم) -قبل أن يبايع بالإمامة –كان يسجل في وصيته على شكل يوميات تكتب بخط (التعليق) على الورقة بدون تنظيم، وإنما قطع من الوصايا تكتب في أي جانب من الورقة دون توالي الأسطر بين كل وصية وأخرى، وبخط صغير بذل الحبشي جهداً مميزاً في تحقيقها واستخراجها.
لقد كان المؤيد بالله محمد بن إسماعيل يحاسب نفسه في الحقوق والمظالم، ويتعامل بإنصاف مع الخادم والعبد والجارية والشيخ والحرة وأصحاب المهن والصنائع والمزارعين والتجار، والمسلم واليهودي والبانياني ومختلف فئات الشعب، بميزان العدل وإحقاق الحق، ويحرص على بيت المال، ولا يتصرف بمال الدولة على هواه، فإذا شك أو توهم أنه صرف شيئاً في غير محله، طلب البراء وغرّم نفسه بمقدار ما أخذ.
فهذا جابر الزنداني أحد الخدم في بيته حين يضربه عن طريق الخطأ، فإنه يوصي بتسليمه من المال ما تطيب به نفسه أرشاً، وأن يبرئه ويسامحه، وكذلك الشأن مع سعيد الزنداني، وقد كانوا يعملون خدماً في بيوت المؤيد بالله محمد، فمن كان منهم طفلاً لاتحتجب منه النساء يعمل في خدمتهن، ومن بلغ الرشد عمل في الديوان في خدمة الضيوف. وإذا ظلم صغيراً أو تأذى أحد المارة من حصانه في الطريق، حكم له بالأرش واستطابة نفسه. وكل ما يهدى إليه كان يثمن ويعطى مقابله من ماله الخاص، وإذا سجن شخصاً أو جلده وكان شاكاً في استحقاقه لتلك العقوبة، قدم له الأرش من ماله الخاص، وطلب منه المسامحة. فـ(أقدم وأهم شيء من تنفيذ وصيتي هو جميع ما عليّ: الدين أو المظالم للعبيد)، فحقوق المستضعفين مقدمة كالدين. مردداً: (فأعوذ بالله من أن أَظلم أو أُظلم أو أبغي أو يُبغى عليَّ، وهو حسبي ونعم الوكيل)، متخذاً من هذا القول منهجاً له في السلوك والحكم، ولو كانوا أطفالاً، فهؤلاء (السفار) الذين يخدمون (فلتسلم لهم مقابل ذلك، ولو عشرة حروف عشرة إلى عشرين حرف عشرين حرف، والذي أذكره عند الرقم هذه سعيد الزنداني ومحمد المهتدي وصنوه علي وقد صار كبيراً إلاّ أنه كان يخدم في الصغر...).. وهكذا يتعامل مع المتسولة في الطريق ومع الشيخ ومع التاجر ومع الصناع ومع الجارية إلخ، فقد (سلك الرجل لنفسه منهجاً صارماً من الإحاطة بكل أفعاله وتحركاته الاجتماعية، وكان يضع في جيبه مذكرة يومية يكتب فيه ما له وما عليه، حتى لايقع في الشُّبه والمظالم التي تتعلق بحقوق الناس) كما يقول الحبشي.
ولقد شغف بنسخ الكتب وجمعها، وله العديد من المؤلفات. وهذا المؤرخ (محمد بن علي العمراني)، رغم تشدده على الأئمة وسلفيته، يصفه في كتابه (إتحاف النبيه) بقوله: (هو العابد الناسك المتبتل العلامة الزاهد الورع، بيت العرين، فلا يتعقل عن القرن، ولا ينقمع، قام بإجماع العامة عليه وهو ممتنع، فتقمص الخلافة وساد سباط الناس، ولم يكن متشرفاً للرياسة ولا داس في طلبها بساط الباس، ولا كانت الدنيا أكبر همه... وكان وقوراً حليماً مجتهداً صبوراً زاهداً متعبداً يعد في الورع أمة ليس له غير صلاحها تهمة... لم تعرف لسعاد شبابه صبوة، ولم ترفع لجواد صوابه كبوة). ويصفه الشوكاني في (البدر الطالع) 2/139، بأنه من أولياء الله، ومن أعدل الخلفاء، لم يسمع عنه الجور في شيء من أموره، وكان كثير العبادة كثير البكاء دائم الخشية لله، لايأكل من نذور تصل إليه إلاّ بعد أن يعلم أنها من جهة تحل له، ولا يتناول شيئاً من بيوت الأموال، ومجلسه معمور بالعلماء والصالحين وقراءة العلم، وتلاوة القرآن، لايزال رطب اللسان بذكر الله على جميع حالاته، وقد صار عدله في الرعية مثلاً مضروباً، وكان أهل عصره يكنونه فيقولون أبو العافية، لأنه لايضر أحداً منهم في مال ولا بدن، بل قد يحتاج في بعض الأوقات لنائبة من نوائبه، فيسأل أهل الثروة من التجار وأموالهم متوفرة فلا يفعلوا لأنهم لايخافون في الحال ولا في المستقبل).. والإمام المؤيد بالله محمد حين كتب هذه المذكرات كوصايا يومية، كان وقتها عاملاً على صنعاء في ظل حكم أبيه المتوكل على الله إسماعيل الذي حكم من 1644م إلى عام 1676م، وهو العصر الذهبي للسلالة القاسمية. فخلال حكمه سيطرت الجيوش القاسمية على لحج وأبين وحضرموت، فوصل نفوذ الأسرة القاسمية إلى قمته من حيث هيمنتها على اليمن: من عدن جنوباً إلى عسير ونجران شمالاً ومن المخا غرباً إلى ظفار شرقاً، كما جاء في كتاب (أول رحلة إلى العربية السعيدة [1708-1710] و[1711-1713م]) تأليف جان دي لاروك، وترجمة منير عربش.

أترك تعليقاً

التعليقات