استهداف الحمدي كقدوة جماهيرية
 

محمد ناجي أحمد

محمــد نـاجــي أحمــد / لا ميديا -

تتوالى العقود مستمرة في مراكمة أنموذج الشهيد إبراهيم محمد الحمدي، قدوة جماهيرية تستعصي على الاندثار، أو السقوط تحت معاول قوى عديدة ترى في الرئيس إبراهيم الحمدي خصماً وعقبة أمام غاياتها في ضرب الوطنية اليمنية، المتجسد في قيادة كاريزمية حشدت حولها الجماهير. 
موقف الإخوان المسلمين في اليمن من الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي موقف عدائي وعدواني، وإن أصبح في السنوات الأخيرة أميل إلى التعبير عن مواقفه الحقيقية تجاه الحمدي داخل أطره التنظيمية، ومستخدماً لغة وخطاباً يظهر الحمدي كقميص عثمان للنيل من خصومهم، وذلك بحصر قتلة الحمدي بشكل انتقائي غير بريء، بل يعد جريمة أخرى، بذات البشاعة، حين تتم التضحية بقاتل ما غير ذي شأن، من ضمن جمع من الأدوات التنفيذية، كي يتم طي صفحة القتلة بقواهم ومراكزهم المحلية والإقليمية والدولية، وهي قوى محددة ومعلومة، من أدوار استخباراتية لفرنسا، وخاصة الفرنسيتين اللتين تم قتلهما، كي يتم تصوير الجريمة بأنها عبث أخلاقي بين الأخوين إبراهيم وعبد الله! واتضح في ما بعد أنهما تعملان في جهاز المخابرات الفرنسية، وهناك أدوار بريطانية وألمانية، وإدارة أمريكية بتمويل وإشراف سعودي، ممثلاً بصالح الهديان، القنصل السعودي في الجمهورية العربية اليمنية آنذاك. بل لم يكن عراق صدام حسين بعيداً بتمويله لحزب البعث في اليمن بمبلغ 15 مليون دولار لتنفيذ انقلاب توهمه لصالحه، فإذا به ليس سوى جزئية محكومة بالغايات والإرادة السعودية صاحبة النفوذ الحصري في اليمن.
يوصف الحمدي في أطر الإخوان التنظيمية في اليمن بأنه ديكتاتور ومنحل أخلاقياً، ومحارب للإسلام، مثل هذا الموقف لا يتم نشره للجمهور، كون الحمدي يحظى بشعبية واسعة في أوساط اليمنيين طيلة هذه العقود التي مضت منذ 13 يونيو 1974م وحتى يومنا هذا. 
لا يمكن اختزال شعبية الحمدي المتنامية بأن سببها طريقة اغتياله، فشعبيته تتنامى منذ بدأ صدامه مع مراكز القوى القبلية والعسكرية والبعثية، وبالنسبة للإخوان فقد انحازوا لظهيرهم القبلي دون أن تتخذ ضدهم مواقف سلبية، لكن لسان حالهم كان ما قاله الشاعر: «وما أنا إلاَّ من غزية إن غوت...»، وقرارهم مصادر سعودياً وقبلياً، منذ أن تمت تصفية مؤسس تنظيمهم عبده محمد المخلافي في نقيل سمارة، بحادث سير مدبر قيل بأنه قضاء وقدر! والحقيقة أنه حادث مدبر كي يصفو وجه إخوان اليمن للسعودية ورجلها القبلي الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر. 
ونمت شعبية الحمدي مع إعادة بناء الجيش منذ عام 1975م، واختيار ما سمي آنذاك يوم الجيش، ونشاط لجان التصحيح، والمسار الاجتماعي والتنموي للحركة التعاونية في عهده، ومواقفه وتحركاته نحو استعادة الوحدة اليمنية... الخ.
يقول الدكتور سمير العبدلي في كتابه «ثقافة الديمقراطية في الحياة السياسية لقبائل اليمن»، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2007م: «عندما تولى المقدم إبراهيم الحمدي عام 1974م زمام السلطة في حركة تصحيحية لترتيب الأوضاع الفوضوية التي كانت تسود البلاد نتيجة تحالف مشائخ القبائل مع القضاة وقيادتهم للبلاد، سارعت القوى القبلية التي كانت تشارك في السلطة بعقد مؤتمر قبلي حاشد في منطقة همدان باسم «مؤتمر المُعمر» وتحت شعار «مؤتمر قبائل اليمن على طريق التقدم»، لتحديد وجهة نظرها ومقاصدها من الحكم الجديد. وقد هدف المؤتمر إلى التأثير في القيادة الجديدة وفرض المضامين التقليدية على فكرة التغيير وضرورة مراعاته لمصالح مشائخ القبائل، ومصالح القوى الإقليمية المحافظة في دول الجوار. وذلك ضمن أولويات الحكم الذي يسعى إلى التحديث، وهو ما رفضه الرئيس الحمدي، وانطلق في تنفيذ برنامجه الإصلاحي والإداري لمؤسسات الدولة، ما ألب عليه تحالف تلك القوى التقليدية المحافظة المحلية والعربية» (ص104). 
من هنا تصبح الحملة التي يتبناها بعض الأفراد الذين ينتمون لتنظيم المؤتمر الشعبي العام، الذين انحازوا إلى الرياض بعد أحداث 2-4 ديسمبر 2017م التي انتهت بمقتل الرئيس علي عبد الله صالح.. تصبح حملة هؤلاء الأفراد عملاً منظماً تديره الرياض لتشويه الرمزية الشعبية للرئيس إبراهيم الحمدي، بغرض قتل النموذج الشعبي وفكرة المخلص الثوري. ولتصبح الجماهير جاهزة للتطويع والتهجين، ومنساقة مع المشاريع الصهيونية في المنطقة. ولذلك لن أتفاجأ إذا تم اختلاق مواقف سياسية تطبيعية للرئيس الحمدي تجاه إسرائيل، وربما اختلقوا تسجيلات لخطب مزورة ومعدة من مطابخهم للوصول إلى هذا الهدف!
في هذه الآونة بدأت أصوات المؤتمريين في الرياض تصف الرئيس الحمدي بأنه كان منحازاً للملكيين، والحقيقة أن الفترة القصيرة التي قضاها الشهيد الحمدي في رئاسة اليمن كانت ثورية سبتمبرية بامتياز، بعد أن كانت جمهورية 5 نوفمبر قد انحرفت بالثورة لتجعل النظام جمهورية قبلية بعيدة عن أهداف سبتمبر العظيم. 
وأما بالنسبة لانضمام الحمدي لثورة 26 سبتمبر 1962م، والدفاع عنها منذ الأسابيع الأولى، حين أفرج عنه هو وأبوه من السجن -بوساطة من زميله في كلية الطيران يحيى المتوكل- كون أبيه كان حاكماً لذمار في عهد الإمام أحمد، وكان الحمدي هو الذي يقوم بأعمال أبيه لكبره في السن. أخذ الحمدي دورة تنشيطية لمدة شهر، استعاد فيها معارفه العسكرية التي كان قد استقاها من كلية الطيران حين التحق بها قبل الثورة، ثم تركها بعد أشهر، قال البعض إنه تركها كي يساعد أباه الذي كان حاكماً لذمار، وقال البعض إنه تركها بسبب تنافر حدث بينه وبين مدير الكلية عبدالله السلال، الذي طالبه بدفع رسوم دراسية، وأن ولي العهد محمد البدر كان قد أعفاه منها، وهنا يتبادر سؤال: هل كان دفع الرسوم الدراسية خاصاً ببعض المقتدرين دون سواهم، لأن من التحق بهذه الكليات لم يكن يدفع رسوماً دراسية؟
التحق الحمدي قائداً لجبهة ثلا كوكبان، ويشهد على شجاعته القتالية وذكائه القيادي زميله محمد عبد الله الإرياني، الذي اشترك معه في بعض المواجهات هناك، وخبر صلابة الحمدي واندفاعه القتالي. 
يستغل البعض تعامل الحمدي الإنساني مع الأسرى الملكيين في جبهة ثلا كوكبان، ليصفوه بالمتواطئ مع القوى الملكية، رغم أن سلوكه هذا كان يعزز من تحول القناعات عند الأسرى لينضموا للجمهورية. وأما بعد تسنمه للحكم فقد كان نهجه ينطلق من أرضية المصالحة بين اليمنيين، التي تم التوقيع عليها في مارس 1970م، لبناء الوطن، لا من أجل استعادة ملكية قد انقضى عهدها بفعل الزمن السبتمبري. 
لكن المسوري الذي كان وقتها قائداً لمحور حجة، وكان يطلق أسرى الملكيين، مع تسليمهم سلاحهم ومنحهم مبالغ مالية، والذي يمكن القول بأنه من أوائل العسكريين الذين ربطتهم علاقات (تعاون) مع الكيان السعودي منذ فترة مبكرة من الثورة، فإن مطابخ الرياض تراه ثورياً بامتياز! ولهذا ظل محافظاً لأمانة العاصمة صنعاء لأطول فترة ممكنة، كان منصبه هذا تعييناً سعودياً، لم يجرؤ الرئيس علي عبد الله صالح على زحزحته من مكانه!
اختارت السعودية إبراهيم الحمدي خلفاً للرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني، وكان للميل الشخصي للملك فيصل دوره في تحديد الحمدي، وعدم اختيار حسين المسوري الذي كان وقتها رئيساً لهيئة الأركان. لكن الحمدي اختط لنفسه مساراً وطنياً سبتمبرياً، فقد أعاد للثورة وهجها، وكان لخلفيته القومية واليسارية في الجبهة القومية ثم الحزب الديمقراطي الثوري اليمني، ثم انتمائه للطلائع الوحدوية اليمنية، الناصرية التوجه.. كل ذلك كان له أثره في صبغ مساره التصحيحي، وسياساته التنموية والعسكرية والوطنية والوحدوية، لذلك ولتجاوزه الخطوط الحمر غير المسموح بتجاوزها إقليمياً وأمريكياً وسوفيتياً، كان مقتله ومحاولة تصفيته كنموذج جماهيري، من خلال ترتيب اغتياله بصورة أرادوها تشويهاً أخلاقياً، فتلقاه الشعب اليمني شهادة عيسوية وكربلائية بامتياز. 
ليس حسن العمري من صنع إبراهيم الحمدي، فلقد كانت قدراته ومواقفه هي من صنعته. 
منذ كان مراهقاً وهو في رحلة إلى إيطاليا مع أبيه صحبة الإمام أحمد، تنبه الإمام يومها بأن ذكاء وفطنة ونباهة الحمدي ستخط له مستقبلاً مهماً. وحين أراد الأستاذ أحمد قاسم دماج أن يجري لقاء مع حسن العمري، فجلس ليتناقش مع مدير مكتبه الشهيد إبراهيم محمد الحمدي، يومها قال الأستاذ أحمد قاسم بأن من يستحق الحوار معه هو الحمدي، فقد لمس فيه صفات القائد الواعي والمنتمي للمشروع الوطني، بحسب الحوار الذي أجراه نايف حسان وعلوي السقاف مع الأستاذ دماج في صحيفة «الشارع» قبل سنوات. 
حين قامت حركة 13 يونيو 1974م توهم العمري أن من سماهم عياله سيسلمونه كرسي الحكم، فكان اللقاء بالقيادة، ويومها جلس العمري في كرسي القائد، مما أزعج الحمدي وأمر بإعادته إلى مصر. وفي 1975م حين بدأت بوادر الصراع مع مراكز القبيلة السياسية، ذهب سنان أبو لحوم إلى السعودية، والتقى بالعمري علهم يستخدمونه في إزاحة الحمدي، لكن العمري عاد إلى القاهرة، ربما لأن السعودية لم تقرر يومها بشكل حاسم تغيير الحمدي وتنصيب العمري.
يردد النوفمبريون (نسبة للمذكرات السياسية لقادة ومشائخ جمهورية 5 نوفمبر) أن الحمدي كان متقلباً في عواطفه، بغرض تصويره مضطرباً وعدوانياً ومنفصماً في شخصيته، والحقيقة هي ما يشهد بها زميله يحيى المتوكل، الذي يسرد في كتابه الذي كان حواراً (أجراه صادق ناشر) ثم صدر بكتاب، يسرد الطبيعة العاطفية للحمدي حين كانا معتقلين في السجن الحربي في مصر، من ضمن من تم اعتقالهم في حكومة العمري، التي احتجزت في مصر، وكان نصيب القاضي عبد الرحمن الإرياني والقاضي عبد السلام صبرة الإقامة الجبرية، ونصيب الأستاذ النعمان وبقية الوزراء والضباط السجن الحربي لفترة تجاوزت السنة، ولم يطلق سراحهم إلا بعد هزيمة 5 يونيو 1967م بأشهر.. يقول يحيى المتوكل واصفاً شخصية الحمدي بأنه عاطفي وطموح. وكذلك يؤكد محمد عبد الله الإرياني الصفات الإنسانية لدى الحمدي، ومحمد عبد الله الإرياني كذلك كان زميل دراسة مع يحيى المتوكل والحمدي في كلية الطيران عام 1959م. لكن سنان أبو لحوم يصف الحمدي بأنه يتباكى، ويصوره بالضعيف، وأن هناك من يسيره، بل يدمغه بالكذب، وعلى نغمة الشيخ سنان تأتي مذكرات حسين المسوري لتعبر عن حقدها وضغينتها على الحمدي، وهي عواطف عدائية مفهومة دوافعها، فالمسوري كان يرى نفسه البديل الذي ستعمل السعودية على إحلاله بدلاً عن القاضي الإرياني، فخاب توقعه!
يزعم البعض أن الحمدي في فترة حكمه أبقى بعض الضباط الأحرار في الإقامة الجبرية، والحقيقة أن هذا القول ليس له أساس من الصحة، وقد قمت بالالتقاء ببعض الضباط الأحرار الذين لازالوا على قيد الحياة، لأسألهم عن هذا الاتهام، فنفوا ذلك. لكن تنظيم الضباط الأحرار من أجل التاريخ كان قد تلاشى بعد أن أنجز تفجير الثورة، ثم خلال 10 أيام تمت تصفية قائد التنظيم علي عبد المغني، وإخفاء وثائق التنظيم، ثم لحقه محمد مطهر زيد، وتم إقصاء التنظيم من قيادة الثورة، فتشتت ضباط التنظيم بانحيازاتهم مع الرئيس عبد الله السلال أو بانحيازاتهم مع قوى خمر في سياق موقف حزب البعث المعادي لنهج جمال عبد الناصر في اليمن، مما جعلهم يعلنون في مؤتمر لهم بعدن عام 1963م انحيازهم لقوى المشيخ، وكانوا فاعلين أساسيين في مؤتمر خمر ووثائقه. ومن هنا كان موقف الرئيس الحمدي سلبياً من بعض الضباط الأحرار الذين انضموا لقوى خمر 1975م، وليس لأنهم ينتمون لتنظيم الضباط الأحرار، الذي تلاشى منذ الأسابيع الأولى للثورة، ولم يبق منه سوى عبد اللطيف ضيف الله الذي توفي قريباً، وبقاؤه وتسنمه للعديد من المناصب الوزارية والعسكرية والدبلوماسية سببه التزامه الصمت، في مداهنة واضحة لقوى خمر، مؤثراً السلامة على الكلام غير المباح!

أترك تعليقاً

التعليقات