أن تحمل السلاح يعني أنك مثقف
 

طه العزعزي

طه العزعزي / لا ميديا -
حينما ظهرت في صنعاء بملامح وجهي النحيل الحامل لذرات رمل غبار مدينة مأرب التاريخية، حاملاً السلاح على كتفي وزينة المقاتل (الجعبة الممتلئة بالذخيرة) كفرد مقاتل، لم أشاهد إلا أعين العامة -أو بالأصح الأعين غير المثقفة- تترصد خطواتي بقلب الآمن والمُشجع المؤيد لي، وقد شكرت الله على هذه النعمة وهذا الوعي.
ما إن دخلت في "شارع المطاعم"، الشارع الذي قيل إنه مكان يجتمع فيه أغلب مثقفي الوطن، والذي كنت في السابق أعرف عنه أنه كذلك، وقد أتيته مرات سابقة كثيرة، لقد دخلت إليه بقلب أبيض وبضحكة لا أول لها ولا آخر سوى النقاء والحب لمن ذهبت لأجل أن أدافع للحفاظ على آدميتهم الحُرة ولأجل تأمين مستقبل أفضل لهم، وإن كان بدمي كما أمر الله وليس بدمهم كما لا يريدون هم، لم أكن أتوقع ذات حضور أن أصدقاء سابقين لي سيتكلمون معي بخجل، وأنَّ آخرين لن يتكلموا معي بالمطلق، وأن البعض منهم سيلصق بي تهمة التجسس، والبعض الآخر سيتهمني بالجاهل والغبي، وآخرين سيتهمونني بالمؤدلج والقاتل و... و... إلخ!
في السابق عندما كنا نجلس على طاولة ملساء أنا وصديق لا أريد ذكر اسمه هنا كي لا أجرح مشاعره، واحتراماً لما مضى من الصداقة، كان يحدثني أن الرجل الذي يريد أن يصبح مثقفاً عليه أن يفعل كما يفعل المثقفون وأن يفكر كما يفكرون وأن يلبس حتى كما يلبسون، أن يمشي بخطوات سهلة، كما أن عليه أن يرتدي حقيبة، وأن تحوي هذه الحقيبة مذكرة وقلماً وكتباً فلسفية وروايات عالمية، أن تكون لديه شخصية كاريزمية أمام الجميع، وأن يرتدي شالاً على رقبته، أيضاً أن يضع إصبعين مشدودين على قرينة رأسه لكي يعطي مظهر رجل مشغول بالتفكير، ونحو ذلك. هذا الصديق يطبق هذا الدرس الثقافي بشكل مائز، وينسى نفسه مرة عندما يغرق بتفاصيل صغيرة لا تعني الضوء، ومرة أخرى ينسى عقله عندما يكبر نرسيس في ذهنه فيتبلد.
لم يعد هذا الصديق صديقاً لي، لأنني لم أطبق ما قاله لي ذات يوم، ولم أفعل ما قام هو بفعله. كان من الطبيعي فعلاً أن يحمل صديقان اثنان فكرين مختلفين، لكنه لم يرد ذلك، وكان من المساواة بيننا الاثنين أن أقف أمامه فأبتسم في وجهه مرةً فيقف هو الآخر أمامي ليبتسم في وجهي مرةً أخرى، لكن لم يطب له ذلك، وكان من الطبيعي أن صديقين لن يثيرا تلصص نظرة أي بشري كان، لكنه خاف ذلك، خاف أن يصنع اختلاف ما أرتديه عاقبة سحق نجومية ظهوره الثقافي، خاف أن يذكر التاريخ أن إنساناً مازال يعيش إلى جوار آخر مثله!
طبعاً لست بصدد تعريف المثقف هنا، أنا هنا بصدد تذكر تلك الطاولة الملساء التي جلست عليها مع عقل أملس أكثر منها، عقل ما زلت أتألم حين أذكر أني قضيت معه وقتاً ثميناً، عقل تافه، أتذكر عضة الكلب الذي قفز لي من بين قصائده النثرية التي جمعها في كتاب مطبوع له، وأتذكر كيف كان يفكر حين كتب مجموعته القصصية الرخوة، وأتذكر ذات مرة كيف أتاني مسرعاً ليقول لي: لقد أنجزت تأليف كتاب "هايكو" خلال أسبوع واحد!

أترك تعليقاً

التعليقات