فواصل سكوت!
 

طه العزعزي

طه العزعزي / لا ميديا -

لا شيء أكثر خطراً اليوم من عدم التمعن. إنه خطر قاتل، لم ينجُ منه العالم الهابط جداً كالحذاء، العالم المربوط بأنف أمريكا. طبعاً، هذا العالم لايزال يسرع ويسرع، ويموت بعض منه كل يوم، يموت حد الأجساد البشرية في الحروب، وحد القيم العظيمة، حد كل شيء أيضاً. ومثلما نشاهد في واقعنا تلك الدراجات النارية والحافلات المسرعة حين تصطدم بقوة، وبدموية مقززة، فإن العقول السريعة قد تصطدم مثلها، بل وأكثر منها، حتى وإن لم نشاهدها بشكل مرئي، بلا شك، المشهد أبشع وأكثر من بشاعته لم نشاهد ونسمع، مثلما حدث ويحدث في هذا القرن السريع.
"حاول تهدأ"، عبارة بسيطة، نعم، بسيطة جداً، لدرجة أنها مجرد عبارة، كانت مكتوبة على مؤخرة إحدى الحافلات المسرعة كغباء الإخوان المسلمين! حافلة تزدحم بالركاب، مسنين من مجايلي العملة القديمة، كذلك أطفال تكاد تقتلهم البراءة، ونساء خائفات جداً! وكعادته، كعادة سائقي الحافلات على نحو عام، كانت السرعة تسبق السرعة نفسها، ولا مبالاة أبداً! إن سائق هذي الحافلة على استعداد كبير لأن ينزل راكباً ما في نصف الطريق الطويلة، إذا كان ذنبه الوحيد أنه تطاول فجأة بكلمة "هدي السرعة يا باص"! إنه مستعد لأن يذهب بمن في الحافلة إلى الموت، بل ويذهب بنفسه معهم إلى هذا الموت دفعة واحدة، وكأنها خطيئتهم في الركوب معه، ودون أن يُخلق آدمياً ما ليعكر عليه اللحظة!
إن باص العالم شبيه بهذا الباص وسائقه المجنون، سائق لا يكترث لأحد، سائق فارغٌ من أي صفة تؤهله لأن يكون قائداً، رديء أمام الحقيقة وسريع أمام الزيف، المنبطحين وحدهم هم من مكنوه بكل حماسة ذليلة لحكمهم، ولا مشكلة أمامهم، لكنهم دفعوا به أيضاً، عبر المال السياسي، لمحاربة الفوارق القيمية التي تقع بين عبوديتهم وحرية الآخرين. ولا عجب أن نسمع أخيراً بتصنيف "أنصار الله" جماعة إرهابية! يا للسرعة إذن! كم تدفع بهؤلاء صوب العودة إلى اللاحياة!
إنهم يحملون السرعة منذُ ولادتهم. أكثرهم طاقة للتدمير وتخريب الكوكب، أكثرهم نقصاً للعقل وأقلهم معرفة بالهدوء. ترامب، السياسي الصفيق والأكثر جنوناً واحد منهم، بل أشهرهم على الإطلاق. هذا العالم لم يكن ناقصا أن يأتيه واحد مثل ترامب بشخصه الملعون! لا أحد يحتمل فظاظة هذا الكائن القذر، ولا أحاديثه وعنصريته المقيتة أيضا! إن دودة الرأسمالية التي أكلت عقله جعلت منه كائناً عدمياً، لا يحفل بما سيلحق بالبشرية من تدمير إزاء تصرفاته وسياسة عقله المثقوب كبالونة.
إننا أيضاً أمام ظواهر كثيرة، ظواهر غير هادئة على الإطلاق، في الشأن السياسي، وكذلك في الشأن الثقافي، في هذا البلد أو ذاك! أغلبهم لا يقدرون ثمن حياتهم، وثمن تلاعبهم بها، ولا يقدروننا بشيء، نحن الذين نعيش معهم! هرولة سريعة نحو التطبيع، وهرولة سريعة نحو المطبعة! إنهم يسرعون لطبع بعض الكتب الرخيصة التي لا قيمة لها، لا ينجزون لنا الضوء بفعلتهم هذه، وإنما التفاهة! عجالة في الحكم والتفضيل، نقاد يحملون مقصات حلاقة لا أقلاماً ذات حبر، وثقافة صلعاء مزيتة بالوهم، وشعراء أقل من الكلمة والفعل وأكثر من وعي المجتمع بهم، وأحزاب استقطابية غبية كعقل الأحمق الذي يدس الطعام وكيس الشاي الساخنين في جيب سرواله، وغنائيون ذوو حناجر مسددة بطينة العدم الفاجرة.
كم نحن بحاجة إلى أن نهدأ! نعم، أنا وأنت والجميع، يجب أن نهدأ قليلاً.
حاول تهدأ، أنت أيها المهرول بقلبك الحافي كصنم!
حاول تهدأ، أمام فواصل السكوت بعد الثرثرة الكلامية التي تجر ألفاتها وياءاتها من بطن المعنى الفولاذي يا صديقي!
حاول تهدأ، أيها الثوري المتراجع!
حاول تهدأ، أيها المثقف الرائحة!
حاول تهدأ، أيها الحداثي الرخيص كربطة العنق!

أترك تعليقاً

التعليقات