شعوب عربية بلغة متوترة
 

طه العزعزي

طه العزعزي / لا ميديا -
في حديث «مقيل» حضره رجل اختلف كلامهُ عن البقية، فرمقتهُ أعين الحاضرين من كل الاتجاهات، بسبب ما أبداه من مواضيع خرقت النقاش الواحد المرتب، ودارت خارجه، الأمر الذي سبب له الإحراج فصمت. بقيت أتأمل وأسبح ذهنياً في الفارق الصعب الذي يصل بين استشعارات تقبل الكيان الجسدي عن طريق اللغة لدى البشر.
عيون البقية لا تزال مسلطة مستخفة بحال الرجل. انتبهتُ لفكرة مفادها أن للغة أيضاً مواقيت وساعات بيولوجية مهمة، مثلما ساعات طلوع الشمس ويوم ظهور الهلال واكتمال البدر أو انتصافه، هذا إذا ما تأملنا لغتنا عن غوص عميق. وأود هنا طرح سؤال مهم في خضم مسألة الوعي ونقيضها في ظل الأوضاع السياسية وتحولاتها في العالم ككل، وهو: ما الذي نحتاجه من الكلام في الراهن؟
يحتاج العربي اليوم ببساطة من كل رئيس دولة عربية أن يعلن موقفه السياسي والدبلوماسي والعسكري أيضاً مما يحصل في غزة، دون حاجة لمزيد من الخُطب والكلمات الرنانة التي لا تفي بغرضها البلاغي واللغوي فكيف بفاعليتها على مستوى الواقع!
ويلاحظ على حكام الدول العربية اليوم أمر جلل، هروبي، هو إلحاحهم المتواصل على التخفي وراء ستار اللغة، فالعربية اليوم تشهد -في فم كل سياسي- مصطلحات تتعدى الظواهر فيها البواطن، وهو ما وجدناه في خطاب حاول فيه السيسي كمثال أن يقول إن الحرب في غزة جزء منها سيضرب أمن المواطن المصري، وسيدمر اقتصاده، الذي هو بلا اقتصاد حقاً، مع ذلك، حالة عدم الدخول في الحرب أو بالأصح عدم إعلان موقف، تحفظ للمواطن المصري أمنه ووطنه وعيشه، وعلى هذا النحو من الخلط السياسي يتم تجريم الكلمات وتشيينها من حيث استعمالها سياسياً بفعل نفساني إسقاطي مريض، غرضه إخفاء العيوب وإسكات الشعوب.
غيرت أحداث غزة مجرى الكلام كمّا، فبكون الثقة لدى الشعوب بحكامها راضخة، فقد أفقدت في عالم اليوم بداية الحدث التاريخي «طوفان الأقصى» الذي يعتبره البعض سياسياً أهم حدث في القرن الواحد والعشرين، ولدرجة أن أخذت النزعة الإنسانية معه لدى الشعوب في أغلب الدول العربية إلى أن تسقط الأقنعة من على وجوه حكامها.
والأمر هنا شرع الدفاع عن القضية عينه يلفتنا لبيولوجية لغوية متكونة في العصاب الإنساني، هذه اللغة العصابية فقط لنوقن مدى أهمية الكلام وفعله، ولنا ملاحظة الشعوب اليوم التي لم تعد بحاجة لكلام بقدر العمل، الكلام الوزن والنثر، العادي والنخبوي وغيره، هو أيضاً على درجة قياسية في ميزان العمل السياسي اليوم لمناصرة غزة ليس إلا فعل.
يشبه الرجل أعلاه (بداية المقال) رؤساء الدول العربية، فالمقيل البسيط الذي لمّ حوله أناساً في عالم صغير، هو في العالم الكوني مجموع الدول التي تحوي شعوباً تقدر بالمليارات، ونجد هذه الشعوب اليوم جداً غاضبة بسبب ما يحدث في غزة، نتيجة تكريس الهزيمة في الوعي وصمت وتخاذل رؤسائها، التي تنتظرهم بفارغ الصبر لتقول شيئاً، بدلاً من الحالة «الصمية البكمية» التي تخيم على أنظمة حكمهم.

أترك تعليقاً

التعليقات