التحنيط درجات
 

طه العزعزي

طه العزعزي / لا ميديا -

لا تزال بعض أجساد الطغاة الميتة والآتية من غبار الزمن الماضي مُحنطة لدرجة صارت معها بمثابة معرض ناجز لزوار آدميين من مختلف الأجناس حول العالم، زوار يرقبون بلذة عقل حال تلك الكائنات التي مارست كل أنشطة الإجرام والإرهاب بمسماه العملي. إنها أيضا صور شاهدة على خبرة الطب أولاً وثانياً وثالثاً، وأخيراً شاهدة على العبرة التي لا بد أن يستشفها كل إنسان مما مضى. الطاغية فرعون واحد من هؤلاء، حُنط على أيدٍ مصرية فائقة الإبداع والتوظيف.
لكن الطب ـ وعلينا أن نعي هذا بشدة ـ ليس وحده الذي يجيد فن هذه الصنعة. قد تكون السياسة بارعة في صنع المومياوات أيضاً، وباختلاف، نحن أمام شيئين: العلم والخدعة. خبرة التحنيط لا يفعلها إلا الطب، لكن العلم أيضا يفعلها، بينما السياسة التي تجيد هذه الصنعة أيضاً، صنعة التحنيط، تفعلها بطريقة متذاكية ومتلاعبة وشبه خيالية، وبترسيخ ناشف، وببروبغاندا غازية، وبثقافة خطية النبرة والحركة والصوت، كذلك بترجيع نمطي يدعو إلى الاقتناص.
الطب يفعل ذلك بالأموات، وهو بذلك، إذ يتقن فعلته هذه، إنما يريد لهم أمد حياة تاريخية قصدية المعاني، ولأغراض تتصل بالمعرفة التاريخية. أما السياسة فإنها تفعل فعلتها التحنيطية بالأحياء. إنها بذلك تسلبهم حياتهم، وتوصلهم إلى تجريدية خائبة، ولا حياة.
إن أسوأ تحنيط هو تحنيط العقول، وهي حرفة سياسية بحتة وخطيرة جداً، ومن الضروري أن نعي خطورتها، فهي حرفة وقحة جداً، تهدر فرص التغيير لدى الإنسان، وتسلبه نبض حياة أن يكون كما يريد له اللَّه وحده أن يكون، تُفقده منطق الوجود كذلك، يا للعقلية!
أحياناً نحنُ لسنا نحن، وإنما نظن ذلك، نُسير بحفنة أوراق رخيصة، ينعتها الجميع بالأموال، نسميها بمعنى ثري. إنّ رأسمالية أمريكا تمثل فجاجة المشروع الذي تسعى إليه، وهي تروج للمال، وتُفصّله بتابوتية مملة، وتوزعه على كل أقسام الأنشطة الحضارية باصطلاح، كالمال السياسي، والمال الثقافي، والمال الديني أيضا... وإلى آخر هذه الزميطة المتناقلة الصفير. وقد وُضَعتْ لتمرير ذلك الكثير من الاسترتيجيات بغية تخريب الدول، بل وعملت به مع بعض الدول كسياسة دولية منفعية. مصطلح "البقرة الحلوب" الذي نَعت به الصفيق ترامب المملكة السعودية، يكاد يكون أبخس مصطلح قيل في تاريخنا الحديث. ومن المفاجئ، في حرب اليمن هذه أن يقفز إليك أحد مرتزقة العدوان ليقول لك: "أنتم أنصار الله على حق، لكن مامعاكمش بياااااس"! ما أفضح هذه العبارة حقاً التي حُنط فيها المرتزق ضمن قالب وسياسة المادة على حساب الحقيقة والحق!
من يشاهد بقايا النظام السابق من المتباكين على "عفاش" حد التبول، سيلاحظ مهارة هذا الطاغية وقدرته على التحنيط، تحنيط كل ما لهُ علاقة به ويربطه بالشعب، وتحنيط كل ما ليس له علاقة به ولا يربطه بالشعب، كفكرة الدولة والتعريف بالعدو الحقيقي والتعامل مع القبلية وحياتها والأمن والديمقراطية، والعديد من هذه الأفكار اللامتحققة كسراويل الجينز القصيرة التي لا تستر عري الجسد.
البعض من بقايا عفاش، يحسب لنظامه السابق أنه ثبتَ الأمن، وهو الآن يتباكى عليه بملء حياته التي يعيشها بلا خوف، ومع من يدعي أنهم "مليشيا"، يتناسى أن "عفاش" وعبر أمريكا والسعودية أنشأ ما سُمي "قاعدة اليمن"، في اليمن طبعاً، وقد جرى حينها تسمية مناطق يمنية عريقة بـ"ثالوث الشر" لهذا السبب، وهي مأرب والبيضاء وشبوة، وكانت التفجيرات والاغتيالات لأبرز العقول بحد ذاتها إنجازاً أمنياً لدى محبي هذا النظام. ولا عجب أنّ من يدخل يده إلى المرحاض لن يجد سبائك ذهب. كان "عفاش" المُحنط السياسي وحده من يستطيع إقناعهم بأن ما يجدونه في المرحاض سبائك ذهب.
اليوم، وبأسلوب وقح، لايزال البعض يعيش هذه النغمة، ويغني بها نفسه، ولا يكتفي، بل يريد فرض غنائها على الآخرين! يُحنط كتلة عقلك من يقول أيضاً إنّ "مسلم يقتل مسلم"، بجهل لآيات القرآن، بل وفي ظل التطبيع، في ظل التأسلم الفارق، في ظل التدين الشكلي! يُرهقك من يدعي الوطنية، وهو يُشرعن لطائرات العدوان قصف بلده! هؤلاء يفهمون الوطنية كونها مجرد لفظة فقط، بينما هم لا يفهمون أن الوطنية فكرة، معايشة، عمل، عقيدة. أيضاً يرهقك من يقدس القوة البشرية، ويفتش عنها في النووي والذري، وفي الدول العالمية، كأمريكا وبريطانيا و"إسرائيل" مثلاً، بينما يغفل قوة الرب الوحيدة.
أخيراً، وليست هذه من نصيحة بشيء، للذين تتواضع عقولهم أمام كبرياء الوهم وتتقزم حد التلاشي، نقول لهم: من لم يسمع فعليه أن يسمع، "لا" الصرخة التي تنفي الإذعان، ومن لم يقرأ فعليه أن يقرأ "لا".

أترك تعليقاً

التعليقات