الغنوشي بلع الطعم
 

إسماعيل علي

بعد أن كانت متزعمةً الربيع العربي بعباءة الإسلام السياسي، كما زعمت في أدبياتها، في حين كان الغنوشي بمثابة المرشد الروحي لذلك الربيع الذي تساقطت أوراق مبادئ نهضته قبل أن تثمر أهداف ربيعه.. كان هذا الارتداد العكسي الذي ظهر في الآونة الأخيرة من تغيير عكسي لحركة النهضة التونسية مثيراً للتساؤلات، فجأة برزة النقلة النوعية لها من اليمين المتشدد إلى أقصى اليسار المعتدل، لا ضير في ذلك، إنما الملفت هو اتخاذ الدين جنحة للتفلت من إخفاقات المرحلة لتلميع الحركة أمام جماهيرها خاصة، والشارع التونسي عامة..
فبعد ما كان من إشادةٍ بنضج فكري وسياسي تتميز به عن باقي ذلك التيار الحركي؛ إلا أنها هذه المرة أخفقت في اتخاذ الخطوة، وإن واقعها يتطلب هذا التغيير..
إنها تخطو خطواتها الأولى على مقربةٍ من النموذج التركي؛ فبدلاً من أن تسوّغ لها مبررات لعلمنة الحركة، باشرت بالولوج في (العلمانوية) عندما جعلت من الدين كبش فداء لإخفاقات الربيع العربي الذي نادت به وتزعمت قياده سياسياً وروحياً؛ فنموذج ربيعها على مقربةٍ ليس ببعيدٍ عن أنظار زعيمها (الغنوشي)، فربيع (الناتو) في ليبيا ثمرة التغيير على شاكلة النهضة.. أنا هنا لست داعيةً للجمود والتحجر، ولست من دعاة عدم التغير؛ بل أنا مربوش بحجم ربشة حركة النهضة، فقد كانوا دعاة تغيير واقع ما؛ فما لبثوا أن أصبحوا هم من عليهم التغير، ولكن يا حبذا لو كان على تديُّن النهضة، لا على الدين.. ما ذنب الدين؟ لماذا كل من أراد أن يتخلص من رواسب إرثه الفكري والثقافي والسياسي السطحي، جاد بالدين في جُنح الليل..؟!
جودوا بتدينكم ودعوا الدين لخالقه ولمن ينتمي إليه، جودوا بتدينكم الذي أصبح الصورة غير المُثلى للدين في سطحيته وشكله وبساطة معارفه ومغازيه. 
كان جديراً بكم أن تفصلوا الدين عن التدين، هذا الفصل هو الأصلح، وهذا التدين الذي أخفق في إدارة الحياة على المستويين المادي، والمعنوي، هو من يُفصل عن الدين وعن السياسة وعن النظم الاجتماعية بكل أشكالها...
في الحقيقة يبدو أن حركة النهضة بلعت الطعم، واستجابت للموجهات الخارجية من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى فرض عليها من الواقعين؛ الواقع الداخلي للحركة، والواقع الشعبي التونسي المتعدد، وما يحيط به من مخاوف.. في الواقع، هذا يعتبر ترميماً وترقيعاً شكلياً قد لا يتجاوز السطح الفكري والسياسي للحركة، مما يؤدي إلى نتائج عكسية مرتدة؛ كعكسية الربيع؛ فعندما نقول السطح، فهذا يعني أن مثل هذه الحركات ربما لا تتجاوز السطح في بُنيتها الفكرية، والدينية، والسياسية، فيكون التحويل والتغير داخل نُظمها ومشاريعها، وممارساتها، بنفس الرتبة من الشكلانية والسطحية.. وبالتالي فما جدوى هذه الخطوة وغالبية الشعوب العربية باتت تتوق إلى الدين كمخرج من واقع مؤلم ومرير صنعته أنظمة وتيارات وحركات اتخذت من أشكال الدين وكل المقدسات وسائل للوصول إلى السلطة بالغلبة، للتسلط، ومن ثم وصلنا إلى ما نحن فيه.. حتى وإن أردنا تغيير واقعنا، أعدنا خلق الصنمية في أذهاننا من جديد.
فصل الدين عن السياسة ليس هو المخرج من عنق الزجاجة للحركة، ربما يكون الحل في فصل التديُّن النهضوي عن الدين أولاً، ثم فصل التديُّن الغنوشي عن السياسة ثانياً..
حينها سيكون للتغيير معنى، وللسياسة نكهتها المادية، وللتديُّن طعمه الروحي والنفسي؛ لأن روح الدين يكمن هنا في التجديد والتغيير حسب مقتضيات الواقع، لا دنيويته، بل إعمالاً لروحه في المزاوجة بين الحياة المادية، والحياة الروحية.

أترك تعليقاً

التعليقات