عن «الطائف» الذي مات وإلى الأبد
 

علي كوثراني

علي كوثراني / لا ميديا -
يُسبِغ اللبنانيُّون على محاضر جلسات «الطائف» نوعاً من الغموض والسحر، فتشعر أنَّها لو كُشِفت لتغيَّر الكثير في «النظام اللبنانيِّ». وقد آن الأوان لهذه الأسطورة أن ترحل مع المرحوم.
«الطائف» كان تسويةً بين الأمريكيِّين والسوريِّين حول لبنان في مرحلة انتهاء الحرب الباردة وفقدان سورية الغطاء والدعم السوفييتيَّين، وكانت نتيجته أن قبضت أمريكا على لبنان كلِّيّاً، بعد أن كان من حصَّة الغرب عموماً وبالأخصِّ فرنسا، فنزعت «مجد لبنان» من الموارنة من وكلاء الأخيرة وأعطته للسنَّة من وكلاء السعوديَّة وكيلة أمريكا في الإقليم... مع اختراقٍ بسيطٍ حقَّقته سورية، وهو ضمان ألا يكون لبنان منصَّةً للهجوم عليها، فأمسكت بالأمن فيه وبسياسته الخارجيَّة.
بعيداً عن الشعارات العصريَّة التي نصَّ عليها «الطائف»، والتي لم تكن إلَّا زخارفَ لتزيينه، كان «الطائف» تسويةً دوليَّةً لإعادة إنتاج الهيمنة الغربيَّة على لبنان؛ ولكن بوسائلَ أخرى.
بالإذن من عَبَدة النصوص، فإن «الطائف» طُبِّق كما يُطبَّق أيُّ اتفاقٍ دوليٍّ، أي طُبِّق كما أتاحت موازين القوى الفعليَّة تطبيقه، وتغيَّر تطبيقه في كلِّ مرَّةٍ تعدَّلت فيها موازين القوى، فحاول كلُّ طرفٍ من أطرافه تحقيق المكاسب لنفسه وتفويت المكاسب على الآخر كلَّما أتاح الظرف ذلك، ودخلت بـ«الطائف» لاحقاً قوى كان قد قام على إقصائها... وإنَّ الاحتجاج بنصِّ «الطائف» ضدَّ تطبيقه هو كالنظر إلى أصبع من يشير إلى القمر.
لم تُعلن وفاة «الطائف» بعد؛ ولكنَّه انتهى فعليّاً مع موجة الغزو الأمريكيَّة لمنطقتنا في السنوات الأولى من هذه الألفيَّة؛ إذ أتت أمريكا لتأخذ المنطقة برمَّتها، فغزت أفغانستان ثم العراق، وفجَّرت الساحتين الفلسطينيَّة واللبنانيَّة، بتصفية عرفات والحريري (المدَّة الزمنيَّة بين الاغتيالين: 3 أشهر)، ثمَّ أخرجت الجيش السوريِّ من لبنان تمهيداً لغزوة تموز/ يوليو 2006، التي كان يفترض أن تخلق واقعاً يُمهِّد لقلب المشهد في سورية وإيران.
انتصرت المقاومة في لبنان عام 2006، الأمر الذي كان حاسماً في انحسار هجمة الغزو الأمريكيَّة ضدَّ المنطقة، وفي عرقلة تمهيد الأرضيَّة لقلب مشهدي سورية وإيران، ذلك بالإضافة إلى المقاومة الشرسة في أفغانستان والعراق التي منعت السيطرة الأمريكيَّة الكلِّيَّة على الساحتين، فدخلت المنطقة في حالة استنزافٍ ومراوحةٍ أنتجت صِيَغ مساكنةٍ جديدةٍ فيها، منها اتفاق الدوحة فيما يخصُّ لبنان. ولكنَّ هذا الانتصار وإن منع تحقيق الأهداف الأمريكيَّة وجلب هدنةً إلى حين، فهو لم يحيِ «الطائف»، الذي مات، وإلى الأبد.
ثمَّ جاءت موجة «الربيع» والحروب الأهليَّة بهدف نزع يد السعوديَّة الضعيفة، وتسليم المنطقة العربيَّة لتركيا القويَّة بالوكالة عن أمريكا، لإعادة إنتاج هيمنة الأخيرة على المنطقة. ثمَّ جاءتنا موجة الحصار والخنق الحاليَّة بعد أن فشلت الثانية، ومِن باب «آخر الدواء الكي». ولكنَّ الهجمة الثالثة لم تأتِ لإبدال نسخةٍ من لبنان بأخرى، أو لإبطال نسخةٍ ريثما تتهيَّأ الظروف لصياغة أخرى، بل لتقطيع شرايين لبنان وإنهاء دوره من ضمن الجهود لتحطيم ركائز بعض الكيانات لإعادة ترتيب المنطقة ككلٍّ، فمات كيان «لبنان الكبير» غير مأسوفٍ عليه.
بالمحصِّلة، إنَّ الهدف من كلُّ ما استعرضته في ما سبق من هذا المقال عن «الطائف»، أو وثيقة الوفاق الوطنيِّ، هو أن أقول إنَّ طروحات المرحوم «التغييريَّة» لم تكن ذات وزنٍ أو تأثيرٍ، لا في الطريق إلى الطائف ولا عند صياغته ولا خلال فترة تطبيقه ولا عند موته ولا بعد موته حتَّى. وإنَّ تواطؤ جميع من حضروا وواكبوا «الطائف»، وليس فقط المرحوم الذي احتفظ بالمحاضر لنفسه، على إخفاء ما دار من نقاشٍ هناك ما هو إلَّا جزءٌ من النفاق اللبنانيِّ المعتاد لطمس حقيقةٍ لم تعُد خافيةً على عاقلٍ، وهي أنَّ لبنان لم يكن يوماً دولةً أو ذا سيادةٍ، ولن يكون.
‏والدليل هو أنَّ كلَّ مفاصل تطور ونشأة هذا الكيان متشابهةٌ، من الإمارة (1516) إلى القائمقاميَّتين (1843) إلى المتصرِّفيَّة (1861) إلى لبنان الكبير (1920) إلى الميثاق الوطنيِّ (1943) إلى الوفاق الوطنيِّ (1989)، ‏لجهة أنَّها ترسيماتٌ غربيَّةٌ لحدود نفوذ ومغانم كلِّ طائفةٍ من الطوائف مقابل تجنيدها جميعاً في مشروع الهيمنة، مكلَّلة بتعيين طائفةٍ مختارةٍ لها السطوة على الباقين وتخصيصها بحصَّةٍ أكبر مقابل أن تحافظ بالوكالة على «النظام»، أي التبعيَّة.
‏بعد هذا الشرح، أظنُّه صار مفهوماً أن أشير إلى نفاق المرحوم، الذي لجأ إلى خطاب «التغيير» بعد أن فشل في تسلُّق سلَّم الطائفة، وركب مؤخَّراً موجة الحصار وثورته الملوَّنة، رغم أنَّه العالم بحقيقة هذا الكيان المُرَّة وطبيعة السياسة فيه والشاهد على أهمِّ مفاصله التاريخية المعاصرة.
‏وختاماً: إنَّ الأهمًّ من الإشارة إلى نفاق المرحوم هو التصدِّي لأسطورةٍ جديدةٍ عند بعض التغييريِّين، مفادها أنَّ الانحراف في «الطائف» وبعده قد ولَّد هذا الحال، وأنَّ الإصلاح في لبنان ممكنٌ، هذا ونحن في أحرج الأوقات وأحوج ما نكون إلى محاربة كلِّ وهمٍ يبقينا مسجونين في جثَّة هذا الكيان ويؤخِّر انطلاقنا نحو التحرُّر الشامل من الهيمنة الغربيَّة ومخفرها وكياناتها واقتصادها ونواطيرها.

كاتب لبناني

أترك تعليقاً

التعليقات