علي كوثراني

علي كوثراني- كاتب يساري لبناني-

إذاً، فإن المراكمة الأولية للثروة، التي قامت على نفقتها أوروبا الحديثة، هي ببساطةٍ ليست إلّا نهباً أوروبياً صرفاً لما أسمته العالم الجديد، وقد أتى ذلك على شكل غزوٍ واحتلال وبطشٍ وحشيٍّ منظّم للسيطرة على ثروات ومقدّرات الآمنين وغير الآمنين فيه؛ فما كان من أوروبّا إلّا أن حاصرتهم وحاربتهم، ومسحت مجتمعاتٍ بأكملها عن الوجود؛ وأما المجموعات الناجية من إبادة كتلٍ بشريّةٍ وازنةٍ منها، فقهرتها أوروبّا وأفقرتها، واستعبدت بعضاً منها مع ما اُضيف إليها قسراً من مخطوفين أفارقة للعمل في المزارع والمناجم، وعزلت بعضها الآخر في محميّاتٍ قاطعةً يدها عن مواردها، فأعاقت تطوّرها وجمّدت اجتماعها، وذوّبت كياناتها الاجتماعية تدريجيّاً، إن عبر الإرساليّات أو عبر العبوديّة. وكان هذا الغزو والاحتلال حينها، الضامن الوحيد لاستمرار النهب.
أمّا وقد امتدت سيطرة أوروبّا تدريجيّاً لتقبض على مساحةٍ تفوق مساحتها بأضعافٍ مضاعفة ولتُخضع كتلةً بشريّةً هائلة، لاسيّما إحكامها السيطرة على قارّات "العالم الجديد" الثلاث، وإعلانها افتتاح ما أسمته بعصر "الاندفاعة نحو افريقيا"، والذي كان غزواً واحتلالاً وبطشاً مشابهاً، إنما دون التمكّن من سحق بنى افريقيا الاجتماعية بالقدر ذاته؛ وبالتزامن مع انخفاض معدّل النمو السكّاني في أوروبّا تماشيّاً مع تحوّلها نحو الحياة المدنية والتصنيع، مقابل النمو المضطرد والحاد للكتلة البشريّة في المستعمرات؛ وفي ظل احتدام المنافسة الشرسة بين الأوروبّيّين أنفسهم على النهب، بالإضافة إلى بروز المقاومات المحليّة في المستعمرات؛ بات عبء النهب عبر الوجود العسكري المباشر والكثيف، ثقيلاً على أوروبّا.
تحت وطأة ذلك العبء، مالت أوروبّا تدريجيّاً إلى توظيف بعض المكوّنات الاجتماعية المحليّة، المتشظّية من الدول المنهارة أو المفكّكة التي قامت على أنقاضها المستعمرات، لأن تسيّر أمور هذه المجتمعات وتضبطها بالوكالة عن الأوروبيين ولصالحهم؛ وكان ذلك بدل حصصٍ زهيدة من المنهوبات وامتيازات لها على المكوّنات الأخرى، ممّا يسمح لها أن تعيد إنتاج سلطتها، وذلك بدل تعهّدات أوروبّيّة بحماية هذه المكوّنات الموظَّفة عند الضرورة وضمان استمرار حُكمها؛ وفي ظل قمع كل مقاومة إن بيد الوكيل المحلّي أو بالتدخّل الأوروبّي المباشر، اقتصرت العمليّة السياسيّة في المستعمرات على التنافس لإثبات الجدارة في أداء دور الناطور المحلّي، المُحدّدة مهامه بالسهر على حسن سير عمليّة النهب وسلاستها واستقرارها ونموّها، وذلك عبر قهر بعض المكوّنات الاجتماعية المحلّيّة الأخرى ورشوة بعضها الآخر. 
وبذلك يكون المركز الأوروبي قد توصّل إلى أقل الاستراتيجيات الإمبرياليّة كلفةً وأكثرها فعاليّةً حتّى يومنا هذا، حيث استبدل السيطرة عبر الحرب المباشرة لضمان النهب، التي أسماها استعماراً، والتي باتت خطراً عليه وعبئاً اقتصادياً وبشرياً لا يطاق، بالسيطرة الناعمة لضمان النهب مع الاحتفاظ باختلال ميزان القوى الذي يسمح لها بالتدخّل العسكري المباشر المحدود أينما فرضت الضرورة، وكان ذلك ما اصطلح على تسميته في القرن العشرين بالهيمنة.
أمّا في قلب المركز، فقد أفرز النهب أمم أوروبّا نفسها ليتمحور بعضها حول امبراطوريّاتٍ عريقةٍ ذات نصيبٍ أكبرٍ من المستعمرات من جهة، وبعضها الآخر حول امبراطوريّاتٍ صاعدةٍ ذات نصيبٍ أصغرٍ منها من جهة أخرى. واشتد هذا الفرز بعد إطباق أوروبّا على معظم خريطة العالم، حتّى أمسى باب التوسّع الاستعماري على حساب الأمم غير الأوروبية شبه مقفلٍ. حينها، لم يبقَ أمام الامبراطوريّات الأوروبية العريقة والأخرى الصاعدة غير الحرب العسكريّة المباشرة للتنافس على النهب، إذ كانت مصلحة الأولى تقتضي احتكار النهب لإجهاض صعود الثانية ودرء خطرها المتعاظم، بينما اقتضت حاجة الثانية إلى نهبٍ أكبر لاستكمال صعودها وتفادي وقوعها في فلك هيمنة الأولى، فتحالفت ضدها مع ما تبقّى من امبراطورياتٍ غير أوروبّيّة كالسلطنة العثمانيّة واليابان؛ وكان أن دمّر المركز الأوروبّي نفسه عبر ما سمته أوروبّا الحربين العالميّتين. 
إثر ذلك، أدارت الولايات المتّحدة الأميركيّة (أميركا) صراعها مع الطرفين الأوروبّيّين بشكلٍ باهر، فنأت بنفسها في بداية كلتا الحربين إلى أن تعادل ميزان القوى بين طرفيهما، ثم دخلت إلى جانب الطرف الأول لتدمير الثاني وحلفائه، ولم تمنع عن الأول تكبُّد خسائر ودمارٍ يَفقد معهما قوّته، كما بقيت بحكم موقعها الجغرافي بعيدةً عن الأذى، وخرجت كمنتصرٍ حقيقيٍّ وحيد؛ فدمّرت الولايات المتّحّدة الأميركيّة القوى الأوروبيّة الصاعدة وحلفاءها من الامبراطوريات غير الأوروبيّة وانتزعت منها مستعمراتها، وشاركت الامبراطوريات الأوروبية العريقة والمُدمّرة مستعمراتها ومناطق نفوذها، وانتزعت بعضها الآخر، فلم تترك لها إلا ما يخدم الدور الجديد لأوروبّا في عمليّة النهب، وقد فصّلته أميركا تفصيلاً لخدمة تسيُّدها وتحويل معظم خطوط النهب إليها مباشرةً، فانزاح المركز الناهب غرباً ليستقر في أميركا. 
أما في أوروبّا التي خرجت من الحرب عاجزة ومدمّرة ومحتلّة، بقيت القوات الأميركية البريّة والبحريّة والجويّة موجودةً على أرضها وحول شواطئها وفي سمائها، إن بشكلٍ مباشر أو تحت لواء حلف شمال الأطلسي، الذي أسسته الولايات المتّحدة الأميركيّة وشكّلت رأسه وعاموده الفقري؛ كما دعمت إعادة بناء أوروبا وأبقت للأخيرة دوراً متقدّما في عمليّة النهب واصلةً اقتصادها بالمركز الأميركي، فتحوّلت دولها إلى ضواحٍ للمركز الجديد، حالها حال اليابان وكوريا الجنوبية وغيرها من الدول غير الأوروبّيّة المُلحقة بالمركز؛ وذلك لاحتواء الاتحاد السوفييتي، الساعي لحماية نفسه عبر توسيع دائرة نفوذه على حساب هيمنة المركز على أوروبّا والأطراف؛ فكان ما سمته أميركا محاربة "المدّ الشيوعي" و"الإلحاد"، الذي أشركت المؤسّسات الدينيّة فيه، وكانت الحرب الباردة التي انتهت بتفكيك الاتحاد السوفييتي، واستفراد المركز بنهب العالم بأسره دون منافسةٍ أو مقاومةٍ تذكر.  
ولكن تفكّك الاتحاد السوفييتي، وإن كان الكارثة الجيوسياسيّة الأعظم في القرن العشرين بحسب تعبير الرئيس بوتين، فهو لم يكن نهاية التاريخ كما توقّع فرانسيس فوكوياما، والذي -بالمناسبة- أُعطيَ هالة الأنبياء في أوائل التسعينيات بينما يُنظر إليه كأبله اليوم. لذا فإن تمكّن الصين وروسيا بشكلٍ خاص من الإفلات من نير الهيمنة، وصعودهما لكسر هيمنة أميركا المطلقة على الكوكب، بالإضافة إلى تمكّن بعض الدول في الأقاليم من الأمر نفسه، سوف يغيّر وجه العالم حتماً (سيكون هذا موضوع مقال لاحق). 
قبل أن نخلص إلى الاستنتاجات، نستذكر هنا وبالحزن نفسه، كارثتنا الجيوسياسيّة الأعظم منذ قرون، والتي مازلنا كعرب نعيش آثارها إلى يومنا هذا، ألا وهي قيام أوروبّا بتفكيك السّلطنة العثمانيّة، وتقطيع أوصالنا وحبسنا في حدودٍ استعمارية وعرقلة تطوّرنا لتسهيل نهب ثرواتنا وغزو أسواقنا؛ حدودٌ رُسمت على مقاس قبائل وطوائف، فلا تقوم فيها إلّا دولٌ كسيحةٌ محكومةٌ بالفقر أو بالضعف أو بالفشل؛ لاسيّما أنه زُرع في قلب عالمنا العربي، وفي نقطة اتصال آسيا بأفريقيا، كيانٌ ذيليٌّ للاستعمار، وظيفته المحافظة على الوضع الأمثل للنهب. كما نستذكر كارثتنا الجيوسياسيّة الأحدث، والمتمثّلة بهزيمة مشروع جمال عبد الناصر، ونقل أنور السادات لمصر، القطب العربي الجامع، إلى الضفّة المعادية، ما أدّى إلى اختلال موازين القوى بشكلٍ فاضحٍ لصالح الناهبين. 


* من صفحة مجموعة العمل 
الوطني العربي "فيسبوك".

أترك تعليقاً

التعليقات