شحّاذو المعجزات
 

كارلوس شهاب

كارلوس شهاب / لا ميديا -

في "نيو إنجلاند" تلك الرقعة التي تُعلي حرية الفرد فوق كل شيء في القرن السابع عشر، كانت تُبحر سفينة محملةً بسمك القُد المملح الفاخر في إحدى حافظاتها والرديء في حافظة أخرى، وتتوجه صوب إسبانيا لإفراغ حمولتها من القُد الفاخر مقابل نبيذ بيلباو وفحمها وحديدها، ثم تتوجه صوب جزر الرأس الأخضر وتبتاع عبيداً لتبيعهم في بربادوس ليحلوا محل العبيد الذين ماتوا في العمل، وفي هاييتي أو كوبا أو المارتينيك تفرغ السفينة حمولتها من القُد الرديء ـ الغذاء الوحيد الذي يحوي البروتين والملح للعبيد الذين يعملون 16 ساعة تحت الشمس الاستوائية في مزارع العبودية ـ وأخذت بدلا عنها السكر والقطن والدبس والتبغ وعادت إلى نيوإنجلاند محملة بالأرباح.
في دورة السلع المثلثية هذه كانت هنالك سلعة بشرية (الرجل الأسود) عدها الأبيض من الممتلكات المنقولة، هذا ما تشير إليه سجلات الموانئ والسفن وحديث القباطنة وملاك المزارع عن هذه السلعة، وحتى أكثر المفكرين الأوروبيين ثوريةً توقفوا عند هذه السلعة فقط لدورها الاقتصادي، وكان حديثهم عنها يشبه حديثهم عن حمولة سكر أو غيره، وعليه يقول قسطنطين جورجيو على لسان ستانيسلاس كريتزا في روايته "شحاذو المعجزات": "إن تاريخ السود عبارة عن تاريخ تجاري".
ولأنها ملكيتهم المنقولة أفرغ البيض كل قذارتهم على هذه السلعة؛ فمن وشم الصدر والآلية بشكل معاكس بقضيب محمى على الجمر يحمل حرفي "D.Y" التي تجعل هذه السلعة ملكية عائدة لدوق مدينة يورك الإنجليزية، إلى الجلد حتى الموت إذا تغيبت السلعة عن العمل ليوم واحد، أو ربما تكون العقوبة بقطع طرف أو تشويه جزء ما، وصولاً لإجبار هذه السلعة على أكل البراز وشرب البول.
لم تكن صدمة البيض أن ما يموت في سفنهم أو يقتلونه في مزارعهم أو يمارسون عليه أبشع أنواع السادية، لم يكن سلعة، بل كان بشراً له ثقافة وتراث يربطه بوطنه الأم ـ كان سود هاييتي يعرفون قوس قزح على أنه الجسر الذي سيعيدهم إلى أفريقيا، وفي تمردات السود في أمريكا الشمالية كانوا يلقون أنفسهم أمام المدافع لكي يُبعثوا في أفريقيا ـ بشراً اقتُلع من جذوره قسراً ليغطي نقص العمالة الأوروبية الشحيحة والهندية المُبادة، بل تجلت الصدمة حول ردود فعل هذا البشر على أفعال البيض التي تراوحت بين الهرب من هذا الجحيم أو تشكيل مجاميع إغارة على المستوطنين البيض كما في بالماريس أو التحول لثورة كما في هاييتي التي عُدت جميعها في نظر الأبيض بأنها "أفعال همجية"، تُرى بأية كلمة يمكن حصر ممارسات السادة البيض؟
ومع أن عبارات "إلغاء تجارة الرقيق" و"تحرير الرقيق" عبارات ذات مظهر جميل فيها انتصار لهذا الشعب المقهور، فحقيقة هذه العبارات كانت فيها منفعة اقتصادية للبيض أكثر مما غيرت واقع السود، فقد أفضى تطور الرأسمالية إلى إلغاء التجارة باللحم البشري، لأن السلعة التي كان يتلاقفها السادة الأوروبيون على جانبي الأطلطني أصبحت فائدتها أكبر في البقاء في موطنها واستخراج زيت النخيل للمكائن الإنجليزية أو ممارسة الزراعة التجارية أو العمل في المناجم التي تدر ـ بالنهاية ـ أرباحها في جيب الأوروبي، وكذلك تحرير هذه السلعة ودمجها في تقسيم عمل عرقي يجعلها أسفل الترتيب الاجتماعي هو أرخص من امتلاكها. وعليه بقيت البشرة السوداء في العصر الحديث سلعة منقولة في باطن العقل لا تسري عليها قوانين الآدميين.
وإذا كانت إحدى سمات الحقبة الاستعمارية هي التجمعات السكانية النائية التي شكلها العبيد الفارون من جحيم ملاك المزارع والأراضي الأوروبيين التي تغيرت أسماؤها بتغير ثقافة المهيمِن (كواليمبو التي شكلها الفارون من المزارع البرتغالية في البرازيل، سيمارون التي شكلها الفارون من المزارع الإسبانية في جزر الأنديز، ومارون التي شكلها الفارون من الإنجليز في أمريكا الشمالية) دفعهم إليها النظام المهيمِن بممارساته الوحشية لكي تنهشهم العزلة والجوع، وعندما كانوا يتحركون كان يُصورهم بمظهر السراق وقطاع الطرق المتوحشين، وينزل عليهم "عدالته" أو عدالة رعاعه من رجال المليشيا لديه أو صائدي العبيد الذين يؤجرهم، فإن عصر الدولة الحديثة لم يختلف بشيء بالنسبة للسود، فمازال النظام المهيمِن يدفعهم إلى غيتوهاته المشؤومة، ينهشهم وباء المخدرات وحروب العصابات، ويعلبهم بهذه الصورة التي صنعها لهم للاستهلاك الخارجي، وإذا أبدوا الرفض فإن رجل الشرطة في الدولة الحديثة ـ المتحدر من رجل المليشيا أو صائد العبيد ـ جاهز ليصطادهم حرفياً.
يسمي قسطنطين جورجيو الذين يطلبون المساواة والعدالة من البيض دون أن ينتزعوها بسلاحهم وأسنانهم وأظافرهم، "شحّاذي المعجزات"، وهذا ما هو مثبت ليومنا هذا.

* كاتب وباحث عراقي

أترك تعليقاً

التعليقات